العِلْمَانِيَّةُ ومَفْهُومُ البَعْثِ لَهَا
-ج1 –
الخلفية التاريخية ومفهومها في الغرب
يحيى محمد سيف -اليمن
مقدمة
جندت قوى الإمبريالية الصهيونية من جهة ومعها أحزاب الإسلام السياسي (بطوائفها المختلفة) التي تعمل ليل نهار، مستغلة الدين لتشويه سمعة البعث عملياً وفكرياً. فجندوا كل امكاناتهم المادية والإعلامية، لتوجيه سهامهم إلى حزب البعث العربي الاشتراكي والعمل على شيطنته وتشويه فكره النير الذي تمكن أن يقف أمام التحديات الكبيرة التي تواجه أمتنا العربية، ويقف بالضد من جميع الأفكار الهدامة والمستوردة التي لا تنسجم أبداً مع واقع الأمة، ويريدون فرضها عليها.
ولهذه الأسباب، وجدنا أن نقوم بتوضيح بعض المفاهيم الفكرية التي يتبناها البعث، ومنذ بداياته ليطّلع عليها الجيل الجديد، كمفهوم (الانقلابية ومعنى الرسالة الخالدة ومفهوم العلمانية) و(الاشتراكية والقومية).
إذ إن أحزاب الإسلام السياسي وفي تشويه متعمَّد روجوا أن العلمانية وأينما ترد فهي دعوة إلى الإلحاد، حتى ينصرف الشباب العربي عن فكر البعث، كون فكره يهدد الذين يستغلون الدين لأغراض ومصالح ذاتية وفئوية وحزبية. وهذه الأحزاب ساوت بين مفهوم العلمانية في فكر البعث وبين مفهومها في الفكر الماركسي، وكانت تقصد من وراء ذلك، تشويه نظرة البعث للعلمانية.
لكن قبل أن نتحدث عن مفهوم البعث للعلمانية ينبغي أولاً التعريف بإيجاز لمفهوم العلمانية ونشأتها ودوافع ظهورها في أوروبا، والإشارة إلى المفاهيم المتعددة لها، وإلى الدولة الدينية والدولة العلمانية والقواسم المشتركة بين العلمانية والدولة المدنية الحديثة.
نبذة عن تاريخ ظهور العلمانية
تشير المصادر التاريخية أنه بعد صراع وحروب دينية ضروس خاضتها الشعوب الأوروبية كان من أبرز دوافعها الخلافات المذهبية في الديانة المسيحية، التي بدأت في عام 1517م واستمرت لمدة 131عام لتنتهي مرحلة تلك الحروب الدينية بصلح ويستفاليا عام 1648م والذي اتخذ من جملة قراراته إيقاف الحروب الدينية، وترك للملوك حرية اختيار اعتقاد رعاياهم دون أن يكون للبابا شأن في ذلك. وكان الخاسر الأكبر في النهاية هو البابا فقد أنهى صلح ويستفاليا سيطرة اللاهوت على أوروبا، وكان العام 1648م بداية ظهور العلمانية. وظهرت العلمانية في أوروبا لأول مرة في عصر النهضة كرد فعل لاتجاه العصور الوسطى التي ساد فيها اتجاه الناس نحو الرهبنة.
لذا فإن العلمانية هي نتاج صراع مرير، ومخلفات عقود من المعاناة عاشها الغرب المسيحي في ظل أوضاع غاية في التخلف والقسوة نتيجة ارتباط تلك الأوضاع المأساوية بالدين، فقد غدت الكنيسة في الغرب المسيحي مصدراً للظلم ومُعِينَاً للظالمين، ومصدراً للجهل، وانتشار الخرافة والدجل، وأصبح رجال الدين (الأكليروس) عبئاً ثقيلاً، وكابوساً مريعاً، يسومون الناس سوء العذاب فكرياً ومالياً وجسدياً، فقد كانت الكنيسة سنداً قوياً لرجال الإقطاع، بل كانت هي أعظم الإقطاعيين، الذين يستعبدون العامة. كما رسَّخت في الناس الخرافة باسم الدين، فهناك صكوك الغفران التي يشتريها العامة مرغمين في بعض الأحيان، والتي بمقتضاها تزعم الكنيسة أنه يُغفر للإنسان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغير ذلك الكثير.
وأما تعامل الكنيسة مع من يخالفها في معتقداتها فهو العذاب والتنكيل والاتهام بالهرطقة ” الكفر “، في محاولة منها للحفاظ على سلطانها القائم على الخرافة والدجل، كل هذا وغيره دفع الناس إلى التمرد على سلطان الكنيسة، بغية الخلاص من بطشها وجبروتها، وولّد في نفوسهم شعوراً عارماً باحتقار الدين والنفور منه، فكان من نتاج ذلك أن ظهر الإلحاد كإطار معتقدي في البعد عن إله الكنيسة، وظهرت العلمانية كإطار عملي في البعد عن سلطان الكنيسة، واندفع الناس في هذين الإطارين حتى نادى بعضهم قائلاً : ” اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس” ، فكانت ردة الفعل مندفعة ومتهورة، لأن كبت الكنيسة كان قاسياً وطويلاً .
ثم ظهرت العلمانية كمصطلح أوروبي النشأة صِيغ حديثاً في الفكر الغربي في منتصف القرن التاسع عشر على يد مفكر ثوري بريطاني يدعى جورج يعقوب هوليوك، وذلك عام 1851 م حيث يعتبر هذا المفكر هو أول من صاغ المصطلح كنظرية فلسفية، ثم انتقل هذا المصطلح إلى اللغة العربية حديثاً مع ترجمات الفلسفة المادية.
وهنا ينبغي التذكير، أن تلك الأسباب التي أدت إلى بروز العلمانية في المجتمع الغربي، لم يكن لها وجود البتة في الوطن العربي بأديانه السائدة. فالدين الإسلامي مثلاً يختلف، وتعاليمه واضحة، وعلماء الإسلام لم يكونوا إقطاعيين ظلمة، وموقف الإسلام من العلم ليس موقفاً مصادماً له، بل هو موقفُ الحاثِّ عليه، والداعي إلى الاستزادة منه، والبحث عنه، ما دام نافعاً للناس في دينهم ودنياهم، وهو في ذات الوقت دين ينكر الخرافة ويحاربها، ويعلي قيمة العقل.
وعند صعود البرجوازية وتقدم الاكتشافات العلمية في الغرب، أصبحت الهيمنة الكنسية قيداً على السياسات الاقتصادية والاجتماعية وعلى عوامل تكوين الوحدة القومية، وحرية حركة السلع في السوق الوطنية، ما دفع الكثير من الساسة والفلاسفة والعلماء إلى محاولة فصل الدين عن السياسة وتحكيم العقل والعلم بوجه عام إزاء معطيات التغيير الحضاري والاجتماعي، دون التقيد بالنصوص السلفية، وقد دفع هذا الموقف بحركة التجديد قدماً إلى الأمام بعد صراع دامٍ مع الكنيسة، ومع المتمسكين بالهياكل التقليدية.
مفهوم العلمانية
العِلمانية، كما ورد في المعجم الوسيط، هي كلمة مشتقة من العلم والعالم وهو خلاف رجل الدين والكهنوتي. وأساسها عند ظهورها وجود سلطة دينية هي سلطة الكنيسة وسلطة مدنية هي سلطة “الأمراء”.
العلمانية لا تعني الإلحاد، فأغلبية العلمانيين يؤمنون بالدين لكنهم يعارضون إقحامه في السياسة، رغبة في عدم تحويل الخلافات السياسية إلى خلافات دينية، وتأكيداً على أن الأساس هو المحافظة على جوهر الدين، وعدم قبول التفسيرات السلفية التي لا تأخذ بالحسبان طبيعة المشكلات المعاصرة الراهنة، والوسائل العلمية لحلها.
والعلمانية أيضا هي ترجمة لكلمة سكيولاريزم (secularism) وقد استخدم هذا المصطلح بداية في معنى محدود الدلالة يشير إلى علمنة ممتلكات الكنيسة، بمعنى نقلها إلى سلطات غير دينية، إلا أن معنى الكلمة اتسع بعد ذلك على يد “جون هوليوك” فعرّف العلمانية بأنها: ” الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية، دون التعرض لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض “.
غير أن هذا المفهوم للعلمانية تقلص كثيراً عند مفكرين آخرين ليصبح معناه فصل الدين عن الدولة (separation of church and state) وهو من أكثر التعاريف شيوعاً سواء في الغرب أو في الشرق، وهو يعني “فصل المؤسسات الدينية عن المؤسسات السياسية (الدولة)”.
العلمانية المؤمنة
يدعي الإسلام السياسي أن ” العلمانية تعادي الدين وتحاربه، وإنها منتج غربي يحمل ثقافته ويبطن الكره للإسلام وأن هذه العدائية هي طبيعية بسبب العرض الشمولي والإلغائي الذي يحمله العلمانيون أنفسهم”، ولكن في الواقع هي شيء آخر، وإن هذا الادعاء يتقاطع مع الدين الإسلامي.
ففي الإسلام، حيث توجد أصول الفقه الإسلامي، وهي أربع؛ الكتاب والسنة والقياس والاجتهاد. فالاجتهاد يقوم على إطلاق العقل كمرجع أساسي للأمة في عرض الإشكاليات وحلولها عندما لا نجد حلاً في النص القرآني والسنة النبوية، فهناك الكثير من الآيات التي توجب استخدام العقل، كقوله تعالى “أفلا يَتَدَبَّرُونَ”، وغيرها من الآيات الكريمة، فهنا تكمن علمانية الإسلام وهي استخدام العقل. وفي هذه الجزئية -أي الاجتهاد وعدم تعطيل العقل- تبدأ العلمانية الجزئية.
الدولة الدينية والدولة العلمانية
إن مفهوم الدولة الدينية (الثيوقراطية) بإيجاز شديد، هي الدولة التي يحكم فيها رجل دين أو أكثر، أو مؤسسة دينية معينة (الكنيسة في العصور الوسطى في أوروبا مثلاً) باسم الله أو بتفويض من الله، وتفرض على رعاياها حق الطاعة والتقديس بأمر الله حتى في الأمور التي لا علاقة لها بالدين.
ويُشير مفهوم الدّولة الدّينية إلى شكلٍ من أشكال الحكم يكون فيه لرجال الدّين السّلطة العليا واليد الطّولى في إدارة شؤون الدّولة، وسنّ القوانين، ويعرّف هذا المفهوم بالثّيوقراطيّة المشتقّة من كلمتين (ثيو) وتعني حكم و(قراطية) وتعني الدّين، فيعني هذا المفهوم حكم رجال الدّين أو حكم الدّين. وانتهت تجربة الدولة الدينية في القرون الوسطى بالفشل، وكلفت البشرية كثيراً من الجهد والدماء ومن المشاكل التي حدثت تقريباً في أوقات متقاربة في أوروبا المسيحية كما أسلفنا.
أما الدولة الدّينيّة الحقيقية في الإسلام، فيشير التّاريخ الإسلاميّ إلى أنّ المسلمين قد عرفوا أفضل أساليب الحكم المدنيّة التي ارتقت بالدّولة العربية الإسلاميّة لتتبوّأ مكانةً مرموقة ومتقدّمة بين الأمم. ففي فترة الخلافة الرّاشدة اتفق المسلمون على مبايعة رجلٍ من عامّة النّاس لمَّا توسّموا فيه من صفات العدالة والنّزاهة وليس بالضّرورة أن يكون رجل دين. وفي هذا الحكم تكون الحكمة والسّياسة عناصر مهمّة في أسلوب الحكم، ويكون فيها محلّ للاجتهاد الإنسانيّ والحكم المدني بما لا يتعارض مع الشّريعة، فكثيرٌ من المسائل المستجدة لم تتطرّق إليها الشّريعة بالنّص وإنّما تحتاج إلى إعمال العقل والتّفكير لاستنباط الأفكار التي تصلح للنّاس وللعصر وهذا ما حصل.
أما الدولة العلمانية فهي بلد أو دولة ذات نظام حكم علماني وفيه تعامل جميع مواطنيها بشكل متساوي بغض النظر عن انتماءاتهم أو عقائدهم أو أفكارهم الدينية. وتتضمن الفصل بين ممارسة الشعائر الدينية أو تحكم رجال الدين أو المؤسسة الدينية، وبين تفاصيل شؤون الحكم وإدارة الدولة أو استغلالها. ويحتل فيها القانون الوضعي مكانة أساسية. وهي بذلك تكون الدولة التي تستجيب لشروط العصر وتستطيع الالتزام بالمواثيق والمعاهدات الدولية في الحقوق، وذلك استجابة إلى تقدم مسيرة البشرية.
يتبع لطفاً…