العِلْمانِيَّة و مَفهُوم البَعْث لَهَا
– ج 2 –
يحيى محمد سيف -اليمن
لقد اشار حزب البعث العربي الاشتراكي صراحة إلى العلمانية في المؤتمر القومي الثالث عام ١٩٥٩ وكذلك في المؤتمر القومي الرابع عام ١٩٦٠ م، وذلك لمواجهة الطائفية السياسية والفئات الرجعية المتاجرة بالدين. فقد حدد ملامح استراتيجيته لفهم العلمانية منذ تأسيسه وجعلها واضحة في مبادئه وقيمه وادبياته. فاتسم بالفكر النهضوي العلماني ، في الوقت الذي يتصدى فيه الى قضايا الامة العربية الاخرى في الوحدة والتحرر وتحقيق العدالة الاجتماعية، ويدافع بقوة عن العروبة والهوية القومية وركائز وجودها. وفي مناقشات وضع دستور جديد لسوريا عام 1950 تصدى الرفيق القائد المؤسس للحزب الأستاذ أحمد ميشل عفلق للموضوع بقوله: (ان علاقة الدين بالدولة التي تثار الآن في سوريا، بمناسبة وضع دستور جديد هي من أهم القضايا القومية، لاكما يريد البعض أن يصورها بأنها مسألة تافهة، فهذه القضية تشمل شيئا أوسع من علاقة الدين بالدولة، وهو علاقة الأمة بماضيها، وموقفها ومستقبلها، كما أنها تعني الأسس الروحية والحقوقية التي تقوم عليها القومية العربية في المستقبل. أما الذين يقللون من شأن هذه القضية، فالمرجح أنهم يقصدون فساد الأسس التي يبني عليها دعاة مزج الدين بالدولة نظريتهم، وفساد الأساليب التي يلجئون اليها لدعم هذه النظرية، وسوء النوايا والأغراض السياسية والاجتماعية التي تحرك بعض المتزعمين لهذا الموقف، أو بعض المناوئين له).
وفي احاديث الرفيق القائد المؤسس المفصَّلة حول معنى العلمانية في رؤية البعث العربي الاشتراكي، يؤكد انها ( تعني المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وأمام قانون الدولة العربية ودستور الدولة، وأن تضمن حرية المعتقد والعمل ، وضمان كل حقوق المواطن بغض النظر عن معتقده الديني أو العرقي. فكل المواطنين متساوون في دولة العرب الموحدة، ولكن مصدر الهام الأمة ودستورها العظيم الدين والايمان يجب أن يحرص عليه كل مواطن كحرصه على أثمن شيء، ، فالبعث العربي يستمد مبادئه من الاسلام، ويعتبر الاسلام والعروبة كالجسد والروح لا يفترقان، وأية محاولة للفصل بينهما هي محاولة للقضاء على العروبة وتغييب هويتها، ويشكل عدوانا خطيرا عليها وعلى وجودها كله ).
وكما يرفض مؤسس البعث النزعة الطائفية ويرى في الإسلام حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب، ويرفض بالمقابل الرجعية الدينية التي جعلت التدين يفقد (كل صلة بالروح والحوافز التي كانت مصدر الدين بالماضي والتي جعلت منه حركة إحياء وتجديد وبناء، فآل الى حالة من الجمود والمحافظة والجهل). كما يرفض وللسبب نفسه الدولة الدينية قائلاً :
( فالدولة الدينية كانت تجربة في القرون الوسطى وتجربة انتهت بالفشل وكلفت البشرية كثيراً من الجهد ومن الدماء ومن المشاكل). غير أن الدولة التي يسعى البعث لإقامتها لا تعادي الدين، بل بالعكس هي تعادي، الإلحاد، كما رأينا: (الإلحاد والفساد وكل ما هو سلبي هدام). كما ترى في الإسلام بالذات روح العروبة العميقة الأصلية التي هي شرط من شروط بعث الأمة.
اما لماذا يرفض البعث تسييس الدين من قبل الدولة وفي المجتمع؟
فلأن تسييس الدين ينطوي على مخاطر كثيرة وعميقة فهو لايعرقل نهضة الأمة فحسب ويلزمها بالعودة إلى نصوص اجتهد بها المجتهدون للإجابة على أسئلة طُرِحت عليهم في مراحل زمنية انقضت ومجابهة مشاكل واجهتهم في حينها، في حين استجدت أسئلة ومشاكل أخرى تحتاج إلى أجوبة وحلول عصرية جديدة . كما ان تسييس الدين يؤدي إلى تفتيت الأمة وتقسيمها إلى فئات وشيع، كل على وفق انتمائها الديني والطائفي والمذهبي، وهذا يؤدي الى التمييز بين أبناء الأمة، وبين دياناتها وطوائفها ومذاهبها، ويؤدي إلى الانحيازوالابتعاد عن الاهداف الكبرى ، وبذلك تنتعش الخلافات، وتتفترَّق صفوف الأمة، وقد يؤدي بها الاختلاف إلى الاحتراب.
وعلى هذا يقول الرفيق القائد صدام حسين ( ان تدخل الدولة لوضع سياسة معبرة عن الدين في منهجها التفصيلي الدنيوي يجعل شعبنا ينقسم وفقا للانتماء الديني والطائفي ، لانك عندما تبحث السياسة الدنيوية على أساس اتصالها بالفقه الديني فإنك يجب أن تكون إزاء اجتهاد معين، فيضطرك الأمر لأن تسير وفق اجتهاد ديني ومذهبي خاص، لان الشعب، وانت جزء منه ، ليس موحدا في النظرة المذهبية والدينية ، وحالة من هذا النوع تجعل الدولة وأجهزتها وقياداتها امام اختيارات منحازة انحيازا اكيد في الاجتهاد الديني والمذهبي، في التصور والممارسة، وهذا مايجب ان نرفضه رفضا باتا لان التكفير لايمكن الا ان يخدم الاستعمار، اويكون طريقا مخربا في اقل نتائجه لانه يؤدي إلى الفرقة كما قلنا ) . ويوجز الرفيق القائد الشهيد صدام حسين ذلك بقوله ( إذا ،فالمطلوب هو ان نكون ضد تسييس المسألة الدينية ، وان نعود إلى اصل عقيدتنا، وان نعتز بالدين بلا سياسات للدين ).
ان حزب لبعث العربي الاشتراك هوحزب علماني ولكن علمانيته ليست استنساخ للعلمانية الغربية التي تمت الإشارة إليها سلفا في الجزء الاول، بل إن له مفهومه الخاص للعلمانية حيث يقول الرفيق القائد الأمين العام للحزب عزة ابراهيم الدوري في خطابه في السابع من نيسان عام 2018 بمناسبة ذكرى تأسيس الحزب أن حزبنا هو ( حزب علماني تقدمي نهضوي تحرري مؤمن بالله ، وهو يرفض إقحام الدين في السياسة رفضا مطلقا لأسباب موضوعية وتاريخية ).
و عندما نرجع إلى المنطلقات النظرية للبعث في بداية تأسيسه نجد أن علمانية البعث هي بالاساس منع استغلال الدين لأغراض سياسية ، كما أن حزب البعث أكد منذ البداية على ( الرابطة القومية ) بدلا من الرابطة الدينية كون الرابطة القومية هي الوحيدة التي تكفل الانسجام والانصهار بين المواطنين في بوتقة واحدة ، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية والطائفية والقبلية والعرقية وغيرها . وهذا يعني منع رجال الدين من تسييس الدين ، لان رجل الدين دوره هو المرشد الروحي الذي ينقل جوهر الإسلام وروحه إلى المجتمع.
فالعلمانية عند البعث تعني حرية الخيارات الدينية من جهة، وتوحيد مفاهيم الحقوق والواجبات السياسية في اطار المواطنة من قبل الدولة من جهة ثانية. فهي بذلك تفصل بين الممارسات والطقوس الدينية وبين الممارسات السياسية، و ترفض معاملة المواطن من خلال أنتمائه لطائفة معينة أو دين معين. وخير دليل على ذلك هو تجربتي البعث الرائدة في قيادة الدولة في العراق في 1963 و1968، التي كان الاسلام في ظل دستورها هو المصدر الاساسي للتشريع، اضافة الى القوانين الوضعية، والقوانين الدولية، وذلك لضمان الانفتاح على متطلبات العصر ومواكبته من دون تسييس الدين. كما أهتم البعث أبان حكمه في العراق، بالإسلام وبقية الديانات الاخرى ورعاها ودعمها دون استثناء وعلى احسن وجه، وتعامل مع الشعب العراقي وبمختلف مكوناته على أساس المواطنة والمساواة أمام القانون.
هذه هي العلمانية التي يدعوا اليها البعث، فهي علمانية مؤمنة تماما، والبعث يرفض الإلحاد من خلال تبنيه للعلمانية. وهو ضده و في نفس الوقت ضد استغلال الدين من قبل المشعوذين والدجالين والفاسدين.
من كل ما تقدم تتضح رؤية البعث للعلمانية، وموقفه الصريح برفضها كغطاء لقطع الأمة عن ارثها الحضاري وحصنها المنيع وصمام أمانها ودعامة هويتها. وأعتبر أن اية محاولة لفصل الأمة العربية عن ذلك الارث هو عدوان على الأمة ووجودها وهو كالفصل بين الجسد والروح. فالعلمانية للدولة وقوانينها في التعامل مع كل مواطنيها بغض النظر عن معتقدهم الديني وانتمائهم المذهبي والعرقي، أما الدين فهو ملهم الأمة ومرجعها الحضاري والاخلاقي والجهادي والفكري.
وبهذا تحدى البعث العربي العلمانية الغربية والناسخين لهذا الفهم من المثقفين العرب، بشقيهم الماركسيّين اللينينيّين أو العلمانيّين الغربيّين، وأيضا تحدى من يحاولوا أن يجعلوا الاسلام دين الجمود او الرجعية والتخلف بدعوتهم الى التصدي لكل تطور، وفضح منهجهم الذي يريدوا به
توظيف الدين توظيفا مشوها لتحقيق اغراض ومصالح ذاتية أو فؤية تحت ظل الدين. كما أكد البعث العربي أنه حزب عروبي قومي، مهمته احياء وبعث روح الأمةالعربية، من خلال العودة الى ارثها وتراثها العظيم وهو الدين والاسلام بالذات، موحِّد الأمة.
علمية البعث
واذا كانت العلمانية تعني من بين ما تعنيه او تستند عليه (العلم ) كما جاء في سياق مفاهيمها، فإن البعث ميز بين اعتماد علمية أصيلة في النظرية والتطبيق وبين استسلامية علمية. فالعلمية البعثية ترفض الانقياد والنقل الجاهز والتقليد المستسلِم، وتحتم تحليل واقع الأمة ومواكبته وترجمة التحليل الى حلول علمية موضوعية بهدف تجاوز الأوضاع المتردية او المتخلفة للحاضر في اتجاه احداث تغييرات ثورية تخدم امال الجماهير العربية وتطلعاتها .
واعتماد العلمية في النظرية البعثية والتحليل العلمي للواقع العربي والدولي، يوصل من بين ما يوصل، إلى ان واقعنا العربي هو غير واقع الهند او الباكستان اوتركيا او اي من الامم الاخرى. وخصائص قوميتنا هي غير خصائص القومية الألمانية أو الإيطالية أو الفرنسية، لذا ترى النظرية البعثية العلمية:
إن القومية الاشتراكية هي ايديولوجية علمية، والعقل العلمي بطبيعته ينفتح دائما على الواقع ويتغذى من كل التجارب ويرفض كل الأطر المسبقة. فالبعث استناداً الى نهجه العلمي، لم يغفل مضامين التجارب العالمية والثورات الوطنية في كل مكان بما فيها الأوروبية غداة الثورة الصناعية، وهو يحلل في ضوء كل ذلك واقع الأمة العربية ويرسم طريقها الثوري ويحدد ملامح نظريته في التعامل مع أوضاع الحاضر وصورة المستقبل.
والنهج العلمي اليوم بات ضرورة ملحة للامة العربية كما هو للنظرية البعثية، في مواجهة كل المتغيرات ومنها العولمة ومايطلقون عليه بالنظام الدولي الجديد، والياته الآخذة في التجبّر والهيمنة، ومنها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، وطغيان القطب الواحد، والتقدم التقني الهائل، وكافة التطورات المتلاحقة التي تتطلب المواجهة الواقعية ومواكبة المتغيرات كي تتمكن الامة من التصدي بكفاءة لكل ما يواجهها من تحديات مصيرية .