في ظل الاحداث الاخيرة.. هَلْ سَنَشْهَدُ تَدَاعِيَات عَسْكَرِيَّة  امْ تَغَيُّرَات جَوْهَرِيَّة لِلجُغْرَافْيَا السِّيَاسِيَّة – ج2 –

في ظل الاحداث الاخيرة..

هَلْ سَنَشْهَدُ تَدَاعِيَات عَسْكَرِيَّة

 امْ تَغَيُّرَات جَوْهَرِيَّة لِلجُغْرَافْيَا السِّيَاسِيَّة

– ج2 –

أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة – السودان

تناولنا في الجزء الاول بعض معالم المتغيرات في زمن تتسارع فيه الأحداث بما يشبه القفزات الجيوسياسية، حيث تمر المنطقة عبر عتبة تُفتح على عالم جديد من المفاجآت والاستقطابات والتحولات الجوهرية التي تشمل الجغرافيا السياسية للمنطقة مما يحتم وجود المشروع العربي القادر على أن يُعيد ترتيب أوراقه على قاعدة الاستقلال لا الاصطفاف ، فما هي الابعاد الاربعة للمشروع العربي النهضوي ؟؟.

الأبعاد الأربعة للمشروع العربي النهضوي

يتأسس المشروع القومي النهضوي على تكامل أبعاد أربعة هي :

  • السيادة السياسية التي لا تُرتهن لإرادة الخارج،
  • العدالة الاجتماعية التي تكفل الكرامة لكل فرد،
  • الوحدة الثقافية التي تصون الهوية دون أن تلغي التنوع،
  • والتنمية المستقلة التي تخرج من نفق التبعية الاقتصادية.

أما الدور المنوط به اليوم، فهو بناء فضاء معرفي جديد، يحرّر الوعي من قبضة الاصطفافات الزائفة، ويستأنف التفكير في الدولة، والسلطة، والمجتمع، من موقع الأمة لا من موقع العشيرة أو الطائفة أو الإقليم. في زمن الاصطناع، يصبح المشروع القومي هو الأصيل الوحيد الممكن.. التحوّلات لا تنبع من الفوق فقط، بل من الحراك تحت السطحي في الوعي الجماهيري. وإذا كانت القومية في زمنٍ ما ارتبطت بالمركز، فإنها اليوم تبدأ من الأطراف، من المخيم، من المهمّش، من المُدان بتهمة الحلم، لتعيد للإنسان العربي دوره بوصفه حاملًا لمشروع تحرّري، لا مجرّد رقم في معادلة جيوسياسية مفروضة عليه من الخارج. إنها لحظة تحوّل، إن التحدي الحقيقي اليوم لا يكمن في اجترار مراثي الأمة، بل في بلورة برنامج فكري- سياسي عابر للطوائف والحدود القطرية، يستعيد الإنسان العربي بوصفه فاعلًا في التاريخ، لا هامشًا فيه.

إن الحرب، كما قيل، تتوقف حين يتفق الأقوياء. لكن المعركة الحقيقية تبدأ بعد الهدنة: معركة الوعي، معركة إعادة التأسيس، معركة ترميم الإنسان العربي من الداخل. الخيار واضح: إما أن نكون صدى لما يُقال في غرف القرار الدولي، أو أن نصبح نحن من يصوغ الخطاب، لا من يردده. في زمن ما بعد العاصفة، لن يكون الحياد خيارًا، بل التواطؤ المقنّع.

الرد العربي لا يجب أن يبقى محصورًا في دائرة الاحتجاجات، ولا في سجالات الإعلام والشاشات. ما نحتاجه هو مشروع قومي ملموس، متعدد الأبعاد، يأخذ بعين الاعتبار أن معركة الامة هي ليست فقط عسكرية، بل رمزية، اقتصادية، إعلامية، وسيادية. فبخصوص قضية غزة على سبيل المثال نقترح في هذا السياق الخطوات التالية:

  1. إنشاء صندوق عربي موحد يتولى معالجة قضايا الامة الملحة بدءً من إعمار غزة، لا يخضع لوصاية أجنبية أو شروط المانحين، بل يكون بإشراف مؤسسة عربية مستقلة، ويعتمد في تمويله على مساهمات الحكومات، القطاع الخاص، والشتات العربي.
  2. إطلاق (منصة رقمية عربية) لتنسيق المواقف والجهود، تجمع النخب الثقافية والإعلامية والسياسية، وتؤسس لخطاب عربي موحد تجاه اعداء الامة المباشرين ، وتكسر احتكار السردية الصهيونية والاقليمية والغربية على الفضاء الرقمي.
  3. بناء تحالف برلماني عربي– أوروبي، يضم نوابًا عربًا وأوروبيين مناصرِين للقضايا العربية، من أجل الضغط لتفعيل الأدوات القانونية لمحاسبة اعداء الامة على جرائمهم، سواء أمام المحاكم الأوروبية أو المحكمة الجنائية الدولية.
  4. صياغة ميثاق إعلامي عربي جامع، يمنع تطبيع الخطاب مع اعداء الامة أو تقديم اي احتلال كمجرد (طرف في نزاع)، ويُلزم الفضائيات والصحف والمواقع بحدّ أدنى من الالتزام الأخلاقي تجاه القضايا العربية، خاصة في التغطية.
  5. على الدول العربية العمل على توحيد فصائل المقاومة الفلسطينية وإعادة تعريف العلاقة مع المقاومة، ليس كمجرد بند في البيان الختامي، بل كعنصر من عناصر السيادة الوطنية.

لن يكون المستقبل العربي بانتظار من يكتب له التاريخ في العواصم الغربية أو الإقليمية. اللحظة التي نعيشها اليوم، لا تحتمل الخطاب الأخلاقي المجرّد، ولا التسويات الطائفية المؤقتة. إن ما نحتاجه هو صياغة مشروع قومي عقلاني، يربط بين التحرر الوطني والاستقلال الاقتصادي، بين استعادة القرار السياسي وبناء الذات الثقافية. ومَن لا يملك مشروعًا، سيكون وقودًا في مشروع الآخرين.

إن ما يواجهنا ليس فقط احتلالًا ماديًا لفلسطين وهيمنة ايرانية على العراق ولبنان واليمن وغيرها، وحربا اجرامية في السودان، وتغلغل اقليمي في اقطار اخرى، بل استعمارًا رمزيًا للوعي العربي.

ليس المطلوب من الأقطار العربية والقوى الحية العربية، السياسية والاجتماعية، أن (تناصر) فلسطين فقط على سبيل المثال، بل أن تدافع عن ذاتها. لأن من يسكت على احتلال غزة اليوم مثلا، او هيمنة ايرانية على قطر عربي، سيسكت عن تقسيم بلاده غداً . المعركة الآن هي معركة على الحقيقة، على الكرامة، وعلى المستقبل. إما أن نؤسس لمشروع نهضوي سيادي يعيد للأمة زمام المبادرة، أو نستمر في تكرار هزائمنا تحت رايات الإنكار والانتظار.

 ذلك أن ما يجري ليس مجرد تسوية مؤقتة بين نظامين إقليميين هما نظام الولي الفقيه في إيران والكيان الصهيوني، بل هو مشهد يُعاد ترتيبه عالمياً، حيث تُعاد صياغة الاصطفافات، وتُعطى الأولوية لتحالفات الطاقة والممرات البحرية على حساب العدالة والحقوق التاريخية. وفي هذا المنعطف الحرج، تبرز ضرورة ملحّة لتوظيف الحراك الجماهيري العربي، والعالمي الذي تجاوز الطابع العاطفي إلى أفقٍ من الوعي السياسي المتجذر – وتحويله إلى مضمون استراتيجي لبرنامج نضال دائم. ليس عبر الاحتجاج الموسمي فحسب، بل عبر تأطير القوى الشعبية، وتثبيت رموزها، وتنظيم وسائل تعبيرها من النقابات إلى الجامعات، ومن الإعلام إلى المجالس النيابية في الدول المتاحة. فالتاريخ لا يتغيّر بالومضات، بل بالاستمرارية المنظمة.

هنا، يصبح من الضروري استثمار هذا الزخم الجماهيري ليس فقط لفضح التواطؤ، بل لتجريم الاحتلالات قانونيًا، وأخلاقيًا، وسياسيًا، في كافة المحافل الممكنة.

المطلوب إذن هو الانتقال من ردّ الفعل إلى الفعل المُبادر، من الدفاع إلى الهجوم المعنوي والاستراتيجي، من الارتجال إلى البرنامج، من العفوية إلى التجذير. تلك هي مهمة الحركات الواعية، إن أرادت ألا تُفاجأ بما بعد العاصفة، حين تُفتح الأبواب الخلفية لتسويات تفكك ما تبقّى من الحق الفلسطيني والحق العربي وتشرعن الهيمنة تحت لافتة (السلام العادل).

Author: nasser