في ظل الأحداث الأخيرة.. هَلْ سَنَشْهَدُ تَدَاعِيَات عَسْكَرِيَّة  أمْ تَغَيُّرَات جَوْهَرِيَّة لِلجُغْرَافْيَا السِّيَاسِيَّة-ج1

في ظل الأحداث الأخيرة..

هَلْ سَنَشْهَدُ تَدَاعِيَات عَسْكَرِيَّة

 أمْ تَغَيُّرَات جَوْهَرِيَّة لِلجُغْرَافْيَا السِّيَاسِيَّة

– ج 1 –

أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة – السودان

في زمن تتسارع فيه الأحداث بما يشبه القفزات الجيوسياسية، تمر المنطقة عبر عتبة تُفتح على عالم جديد من المفاجآت والاستقطابات والتحولات. فالأحداث تصنع في اغلبها بقرار فوقيّ صادر من القوى الكبرى، وبضغط أمريكي– صيني، يهدف إلى إعادة تشكيل المسرح في الوطن العربي والمنطقة بما يناسب ترتيبات ما بعد العمليات العسكرية  التي دارت لبضعة ايام بين الكيان الصهيوني ونظام الولي الفقيه في ايران. هنا، لا يكون (وقف النار) مجرّد حدث عسكري، بل تحوّلات جوهرية تشمل الجغرافيا السياسية للمنطقة بهدف رسم خريطتها وبما يشبه حرباً باردة جديدة بأدوات مختلفة. تساهم بها العوامل السياسية الانية بالضغط الى حد كبير حيث تسبق الاحداث الانتخابات الأمريكية، كما وتتزامن مع أزمة اقتصادية عالمية خانقة، فيكون وقف النار حلاً براغماتيًا لأميركا، ربما يكون لا نهائيًا. وهو بالنسبة للصين، فرصة لتأكيد دورها كوسيط حضاري في عالم يتوق إلى الاستثمارات الاقتصادية. لكن السؤال الأكبر يبقى: ماذا سيحدث لفلسطين والعرب في صبيحة ما بعد النار؟. فما هي بعض المتغيرات المحتملة عربياً واقليمياً وعالمياً نتيجة لذلك، وما هو الدور العربي ازاء كل ذلك؟

فلسطينياً : جيل جديد يتشكَّل

في الضفة الغربية وغزة، قد يكون الصمت أكثر ضجيجًا من المعارك. هناك جيل جديد يتشكّل على أنقاض كل السرديات السابقة. جيل يرفض أن يكون مجرد (ورقة) في الصراع الإقليمي، يرفع شعارًا بسيطًا وعميقًا في آن: (لا إيران ولا “إسرائيل”… ثورتنا فلسطينية خالصة). فنحو 78% من الفلسطينيين تحت سن 35 يرفضون أي تبعية لمحاور الخارج وبالذات ايران التي طالما تاجرت بقضيتهم لاجل مصالحها الاقليمية، ويريدون مشروعًا فلسطينياً صافياً، لا نسخة مشوّهة من معارك الآخرين.

لكن الكيان الصهيوني، سيغتنم لحظة الهدوء للانقضاض على ما تبقى من فكرة (الدولة الفلسطينية). فمشروع الضم المتدرج سيُستأنف بهدوء، وغزة قد تُحوَّل إلى كيان منفصل، تحت إدارة عربية مشتركة تُقدَّم بوصفها حلًا إنسانياً، لكنها في حقيقتها محاولة لإعادة صياغة الجغرافيا بما يخدم فكرة (السلام الاقتصادي) لا السياسي. وكذلك اقتراح وتطبيق مشروع (الضم الرقمي) عبر تطبيقات إلكترونية لتسوية الأراضي. إضافة الى احتمال تحويل غزة إلى منطقة اقتصادية خاصة بذريعة الإعمار.

عالميًا: القوى الكبرى وتنافس الاستثمار والنفوذ

ستكون الولايات المتحدة أمام انقسام داخلي غير مسبوق: فريق المحافظين الجدد سيضغط لبقاء الكيان الصهيوني كقوة مطلقة، فيما يراهن فريق الرئيس ترامب على شرق أوسط هادئ لتمرير أجندته الاقتصادية. اما الصين وروسيا، في المقابل، ستتحركان لا من باب الأيديولوجيا، بل عبر رؤوس الأموال، وستقدمان مشروع (طريق حرير فلسطيني)، يربط بين الاستثمار والنفوذ في المنطقة.  وكذلك من المحتمل ان تدخل روسيا في لعبة الخطوط الحمراء الجديدة في لبنان وسوريا.  ومع تراجع المخاطر الجيوسياسية، قد تتقلب أسعار النفط، مما يؤدي إلى صعود ما يمكن تسميته (اقتصادات الحرب الباردة الجديدة)، حيث تصبح التكنولوجيا والتحالفات الأمنية هي سلعة القرن.

الموقف الأوربي والأزمة الأخلاقية  للخطاب الليبرالي فيه

تاريخيًا، مثّل الاتحاد الأوروبي شريكًا اقتصاديًا وسياسيًا للاحتلال في فلسطين، عبر صفقات (السلام مقابل التنمية)، ودعم السلطة الفلسطينية في مسار ما بعد أوسلو ضمن سياسات الضبط الناعم للمقاومة. لكنه في الآونة الأخيرة، بدا منقسمًا ومترددًا، حيث يراوح بين خطاب حقوق الإنسان وبين التمويل غير المباشر لجرائم الحرب، كما في مواقف بعض الدول التي تعارض وقف تصدير السلاح للكيان الصهيوني رغم الجرائم الموثَّقة.

ورغم أن بعض دول الاتحاد الاوربي كإسبانيا وأيرلندا وبلجيكا أبدت مؤخرًا مواقف أكثر شجاعة بالاعتراف بفلسطين، فإن الموقف الأوروبي يظل رهينًا لمنطق (الحياد النشط)، أي التنديد اللفظي دون تحوّل في السياسات. هذا التناقض يعكس عمق الأزمة الأخلاقية في الخطاب الليبرالي الأوروبي، ويكشف هشاشة القيم حين تتقاطع مع المصالح الجيوسياسية.

الموقف التركي والحبل المشدود

أما تركيا، فهي تسير على حبل مشدود: بين احتضانها لخطاب القضية الفلسطينية، خاصة في خطب الرئيس أردوغان، وبين استمرار علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع الكيان الصهيوني. حيث تؤكد الأرقام الأخيرة على أن حجم التبادل التجاري بين الطرفين تضاعف منذ العدوان على غزة، مما يجعل من خطابها نوعًا من إعادة التموضع البراغماتي لا الانقلاب الاستراتيجي. ومع ذلك، تظل تركيا لاعبًا مهمًا يجب استقطابه من قبل العرب، خاصة دورها في الضغط على بعض ملفات الحصار الإنساني، ويمكن، إذا وُوجهت بمواقف عربية أكثر صلابة، أن تنزاح نحو تنسيق أكثر فاعلية لصالح القضية الفلسطينية وقضايا العرب المحورية الأخرى.

لكن كل إعادة تشكيل، سواء قادتها أميركا أو نظام الولي الفقيه او الكيان الصهيوني، تظل محكومة بمنظور استراتيجي خارجي، يعيد هندسة المنطقة وفقًا لمصالح غير عربية.

أين المشروع العربي المستقل

وهنا يُطرح السؤال الجوهري: أين المشروع العربي القادر على أن يُعيد ترتيب أوراقه على قاعدة الاستقلال لا الاصطفاف؟ مشروع لا يُختزل في رد الفعل، بل يبني فعله على رؤية نهضوية متكاملة، تُعيد للعروبة مضمونها الوحدوي والتحرري، لا كشعار شعبي، بل كمؤسسة استراتيجية تُبنى من جديد، بقيادة الشعب الواعي والنخب المستقلة.

الدول العربية، ستقف أمام فرصة تاريخية، لكنها أيضًا مهددة بالانهيار الداخلي إذا لم تُحسن قراءة الموقف.  ثمة من ستغريه مشاريع محدودة مثل إطلاق مشاريع إعمار وهمية في غزة، ومن سيتوهّم أن الهدوء يعني العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر، لكن الزلزال وقع بالفعل، ولا عودة إلى الوراء.

وقبل صياغة مشروع لموقف عربي مستقل لابد من تناول بعض من أهم ما يواجهه من تحديات:

مخاطر التقسيم وفقدان الهوية وإضعاف الدولة الوطنية

من أخطر التحديات التي تواجهها الامة العربية هي اقحام الاصطفافات الفئوية أو الدينية أوالمذهبية أوالعرقية وذلك امعانا في تقسيم المقسَّم وتحويل الاقطار العربية إلى كانتونات طائفية او عرقية تغذيها الميليشيات والمصالح الإقليمية.

وليس التمزق العربي الحاصل هو مجرّد تشتّت جغرافي أو خصومات سياسية بين عواصم شقيقة، بل هو تعبير وجودي عن فقدان البوصلة الحضارية، وعن غياب المشروع الجامع الذي يتجاوز الجغرافيا القُطْرية نحو (الرسالة التاريخية).

فالخلافات العربية لم تعد صراعات على وجهات نظر، بل صراعات على البديهيات مثل تعريف الذات. واصبحت تُطرح على المواطن أسئلة مُحقَمة ومفتَعَلة مثل من هو العربي؟ وما هو الوطن؟ وما الذي يجمعنا أكثر مما يفرّقنا؟ .

وفي ظل واقع يريده العدو ان تتنازع فيه الهويات الطائفية والعرقية والولاءات الإقليمية والدولية، تحوّلت الدولة الوطنية من رافعة للسيادة إلى ساحة لصراعات الآخرين. ولم تعد الجامعة العربية جامعة، بل متحفًا للبيانات الختامية.

في هذا المناخ، لا يمكن للتمزق العربي أن يُقرأ فقط بلغة التحليل السياسي، بل بلغة الفقد الوجودي، إذ أصبح العربي غريبًا في وطنه، مشتتًا بين ذاكرة مجيدة لكنها لم تُبْنَ بشكل صحيح ومعاصر، وبين مستقبل لم يُصنَع.

 وهنا يُطرح السؤال الفلسفي الكبير: هل نحن مجرد تجمعات بشرية؟ أم أمة مُستهدَفة باستمرار وبشكل استثنائي من قبل عدو يسعى لإجهاض مشروعها النهضوي؟

نحو مشروع قومي نهضوي يتجاوز التنسيق السياسي إلى إعادة بناء الإنسان العربي وسط هذا الضباب الكثيف، يظل هناك مخرج واحد: أن يتحوّل العرب من ملعب إلى لاعب. ان تشكيل تحالف عربي، تشكل الجماهير العربية جوهره ومحور اساسي فيه، هو الفرصة الذهبية. ليس فقط لإعادة بناء غزة، بل لإعادة بناء الفكرة العربية ذاتها، على أساس المبادئ، لا العواطف. مشروع مارشال عربي، تُكتب بنوده بأيدٍ عربية، لا بإملاءات مانحين، يمكنه أن يكون بداية زمن جديد.

إن هذا التحالف، لكي يكون أكثر من مجرد ردّ فعل على الفراغ، يحتاج إلى محتوى استراتيجي: إنه المشروع القومي النهضوي، الذي يتجاوز التنسيق السياسي إلى إعادة بناء الإنسان العربي، على أساس المساواة، والحرية، والوحدة، والتنمية العربية المستقلة البعيدة عن التدخلات الإقليمية وأجنداتها.

صراع الوجود بين امة تنزع للنهوض، وعدو يريد لها انكسارات متناسلة في زمن الانكسارات المتناسلة، حيث تتكاثف الهويات الجزئية، وتُستنزف الإرادات تحت وطأة الاستقطابات الطائفية والعرقية والإقليمية، ينهض المشروع القومي النهضوي العربي لا بوصفه حنينًا إلى ماضٍ قديم، ولا شعاراتٍ تقاوم الموت بالبلاغة، بل باعتباره ضرورة وجودية لإعادة ترسيخ الذات العربية في عالم يتجه نحو الكتل الكبرى والأقطاب المتعددة.

إن المطلوب من هذا المشروع اليوم ليس استعادة الخارطة، بل استعادة البوصلة؛ ليس الدفاع عن التاريخ، بل إنتاج مستقبل ينتمي إليه الإنسان العربي لا بوصفه متلقيًا للهزيمة، بل فاعلًا في صياغة النهضة.

فما هي الأبعاد الأربعة للمشروع العربي النهضوي؟؟.

يتبع لطفاً..

Author: nasser