المَحْكَمَة الجِنائيَّة الدَّوليَّة وإلزّاميَة قَراراتِها
بقلم المحامي حسن بيان
بعد نيفٍ وسنة على بدء الحرب الصهيونية على غزة عقب عملية “طوفان الاقصى” ، اقدمت المحكمة الجنائية الدولية على اصدار مذكرة توقيف بحق رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع المقال غالانت بتهمة ارتكاب جرائم وجرائم ضد الانسانية في غزة. كما اصدرت مذكرات مماثلة بحق احد قادة حماس محمد الضيف والذي سبق وروج الاعلام الصهيوني انه تم اغتياله في احدى العمليات العسكرية التي نفذها الجيش الصهيوني وبقي الخبر دون تأكيد.
ان المحكمة الجنائية الدولية التي وُضِعَ نظامها الاساسي قيد التنفيذ في الاول من تموز ٢٠٠٢ بعد توقيع ٦٠ دولة على ميثاقها الاساسي الذي استمر النقاش حوله ٤ سنوات، حَفَظَتْ لنفسها النظر بجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية والابادة الجماعية باستثناء جريمة العدوان بانتظار تحديد تعريف دولي لهذه الجريمة. اما الافعال الجرمية التي تشكل اركاناً مادية للجرائم الثلاث التي تنظر بها فهي المحددة في (المادة ٦ ) بالنسبة لجريمة الابادة الجماعية، (والمادة ٧ ) للجرائم ضد الانسانية، (والمادة ٨ ) بالنسبة لجريمة الحرب.
إن هذه المحكمة التي تتخذ مقراً دائماً لها في مدينة لاهاي الهولندية، تمارس اختصاصها على الاشخاص ازاء اشد الجرائم خطورة، ولها بموجب اتفاق خاص مع اية دولة منضمة الى نظامها الاساسي ان تمارس وظائفها وسلطاتها في اقليم تلك الدولة. كما أن هذه المحكمة ليست بديلاً للمحاكم الوطنية ، وإنما تكون ولايتها القضائية مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية. وهي بالتالي تنظر في القضايا الجنائية الخطيرة عندما تحول ظروف دون المحاكم الوطنية النظر في مثل هذه الجرائم.
والمحكمة الجنائية الدولية ، تتشكل من دوائر اربع، دائرة الادعاء العام والدائرة التمهيدية والدائرة الابتدائية والدائرة الاستئنافية. واحالة القضايا التي تدخل في نطاق اختصاصها والمحددة في ( المادة ٥ ) تتم عبر ثلاث طرق :
الاولى ، اذا احالت دولة طرف في المحكمة الى المدعي العام وفقاً ( للمادة ١٤) حالة يبدو فيها ان جريمة او اكثر من الجرائم المنصوص عنها في ( المادة ٥ ) قد ارتكبت.
الثانية ،اذا احال مجلس الامن، متصرفاً بموجب الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة حالة الى المدعي العام يبدو فيها ان جريمة من تلك المشار اليها في ( المادة ٥ ) قد ارتكبت.
الثالثة ،اذا كان المدعي العام قد بدأ مباشرة تحقيق فيما يتعلق بجريمة من تلك المحددة في ( المادة ٥) ووفقاً لما نصت علية ( المادة ١٥) من نظام المحكمة. والتي تنص فقرتها الاولى، على أنه يحق للمدعي ان يباشر التحقيقات من تلقاء نفسه على اساس المعلومات المتعلقة بجرائم تدخل في اختصاص المحكمة. واذا استنتج المدعي العام، ان هناك اساساً معقولاً للشروع في اجراء تحقيق، يقدم طلباً الى الدائرة التمهيدية للاذن باجراء تحقيق، مشفوعاً بأية مواد مؤيدة يجمعها ويجوز للمجني عليهم اجراء مرافعات لدى الدائرة التمهيدية وفقاً للقواعد الاجرائية وقواعد الاثبات. واذا رأت الدائرة التمهيدية ان ثمة اساساً معقولاً للشروع في التحقيق وان القضية تدخل في اختصاص المحكمة، تعطي عندئذٍ الاذن بالتحقيق دون المساس بما تقرره المحكمة فيما بعد بشأن الاختصاص ومقبولية الدعوى.
بالنسبة للقضية المطروحة وهي ارتكاب “اسرائيل”لجرائم حرب وجرائم ضد الانسانية وجريمة الابادة الجماعية ، فإن التحقيق بها يتم اما عبر طلب من دولة فلسطين مرفوع الى المدعي العام وهي طرف منضم الى نظام المحكمة واما بناء على اقدام المدعي العام على مباشرة تحقيق استناداً الى معلومات توفرت لديه حول جرائم تدخل في اختصاص المحكمة. وبالنظر الى الوقائع الجرمية التي حصلت في غزة، فإن واحدة منها تكفي لتشكل ركناً مادياً من اركان الجريمة والتي نصت عليهما المادتان (٦ و ٧ ) ومنها على سبيل المثال، لا الحصر قتل المدنيين وتعذيب الاسرى والمعتقلين والاخفاء القسري والتعذيب المادي والنفسي وتدمير الاعيان الثقافية والدينية والتربوية واستهداف الهيئات التي تمارس عملها في اوقات الحروب وهي محمية بالمواثيق التي تنظم عملها ، فكيف اذا كان كل ماورد في المادتين ٦ و٧و٨ قد شكل جرائم مشهودة وليس بامكان احد اخفاءها.؟
كما أنه من الناحية القانونية ، لا اهمية لرفض الكيان الصهيوني لقرار المحكمة . اولاً ، لانها ليست منضمة الى نظامها الاساسي ، وثانياً ، لانها ليست ذات سيادة قانونية على غزة والضفة الغربية لان مركزها القانوني لوضعها في هاتين المنطقتين يحكمه واقع السلطة القائمة بالاحتلال ، وهي تخضع لاحكام القرارين ٢٤٢ و٣٣٨ اللذين ينصان على انسحاب “اسرائيل” من الاراضي المحتلة.
إن عدم انضمامها الى المحمكة وعدم التصديق على نظامها الاساسي يجعلها بحل من الالتزام بتنفيذ قرارات المحكمة، الا اذا تم التنفيذ بقرار من مجلس الامن بموجب الفصل السابع ، وهذا غير ممكن في ظل الواقع السائد حالياً في مجلس الامن حيث اميركا تشهر دائماً سلاح حق النقض تجاه اي قرار يمس “اسرائيل” سياسياً وقضائياً واقتصادياً. الا ان هذا لايحول دون الدول المنضمة الى نظام المحكمة من تنفيذ قراراتها سواء تلك التي تصدرها الغرفة التمهيدية كهيئة تحقيق واتهام او تلك التي تصدرها المحكمة بغرفتيها الابتدائية والاستئنافية كهيئتي حكم.
إن المحكمة الجنائية الدولية اصدرت عبر غرفتها التمهيدية مذكرة القاء قبض بحق نتنياهو وغالانت، وهذه المذكرة تمت بناء على احالة من المدعي العام الذي ثبت له من خلال المعلومات التي توفرت له ان جرائم من تلك التي نصت عليها (المادة ٥) قد حصلت في غزة. وعليه اصدرت الهيئة التمهيدية مذكرة توقيف بحق رئيس وزراء “اسرائيل”ووزير الدفاع السابق غالانت ، لاقتناعها بوجود اسباب معقولة بأن الشخصين قد ارتكبا جريمة تدخل في اختصاص المحكمة ، وان القاء القبض عليهما يبدو ضرورياً لضمان حضورهما امام المحكمة، ولعدم قيامها بعرقلة التحقيق او اجراءات المحاكمة او تعريضها للخطر ولمنعهما من الاستمرار في ارتكاب الجرائم التي تم الشروع بالتحقيق فيها، ولمنع ارتكاب جرائم ذات صلة بالجرائم المرتكبة وتدخل في اختصاص المحكمة وتنشأ عن الظروف ذاتها. ( المادة ٥٨ ) من نظام المحكمة. والهيئة التمهيدية التي تصدر مذكرة توقيف او القاء قبض بناء على احالة من المدعي العام ،يصبح قرارها ملزماً للتنفيذ من قبل الدول الاطراف في المحكمة لاجل سوق المتهم للمثول امام المحكمة واخضاعه لمحاكمة عادلة ممكن ان تكون وجاهية أو ان تكون غيابية اذا لم يمثل المتهم طوعاً امام المحكمة او اذا لم يتم توقيفه وسوقه الى المحكمة موقوفاً.
بطبيعة الحال ان الاتهام لايعني الادانة ، فالقاعدة القانونية تنص على ان المتهم بريء حتى تثبت ادانته، والحكم بالادانة او بالبراءة تصدره المحكمة عن احدى غرفتيها الابتدائية او الاستئنافية. وحتى هذه اللحظة فإن نتنياهو وغالانت هما متهمان وليس مدانيين، وهو مايتوقف على اجراءات المحاكمة التي ستحصل.
ان اهمية هذا الاجراء ، انه فتح مساراً لمقاضاة المسؤولين الصهاينة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية التي ارتكبت في غزة وتلك التي ترتكب في لبنان، علماً ان لبنان ليس طرفاً في هذه المحكمة لانه لم ينضم اليها ولم يصادق على نظامها الاساسي. وهذا المسار القضائي الذي بدأ التأسيس له في المحكمة الجنائية الدولية عبر اصدار قرار اتهامي عن الهيئة التمهيدية وسطرت بالاستناد اليه مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت يكمل بمفاعيله المسار الذي بدأ التأسيس له في محكمة العدل الدولية والتي وضعت يدها على ملف قضية جريمة الابادة الجماعية وقد اصدرت حتى تاريخه اكثر من قرار وفيها ادانة واضحة “لاسرائيل” لارتكابها جريمة ابادة جماعية ولم تتخذ الاجراءات الاحترازية التي تحول وارتكاب هذه الجريمة.
ان الاهمية التي تنطوي عليها عملية صدور قرار اتهامي وبالتالي تسيطر مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت، هو أنها ستبقي كلا المتهمين موضع ملاحقة سواء مثلا امام المحاكمة او لم يمثلا، وهذا سيبقى سيفاً مسلطاً على رقابهما وعلى اخرين قد يطالهم التحقيق والاتهام سواء كانوا في السلطة السياسية او العسكرية، لان الجرائم التي ينعقد الاختصاص بها للمحكمة الجنائية الدولية لاتسقط بالتقادم.
كما ان الاهمية التي ينطوي عليها نظام المحكمة، تكمن في كون إختصاصها وإن كان ينحصر بملاحقة الاشخاص الطبيعيين وليس الكيانات المعنوية ، فإن الاشخاص الذين يلاحقون سواء كانوا متهمين او مدانين، لاتسبغ عليهم اية حماية دستورية او قانونية. وبالتالي فإن الاشخاص الذين يصبحون قيد الملاحقة لما هو منسوب اليهم من اعمال جرمية، لايستفيدون من اية حصانات دستورية او قانونية تكون ممنوحة لهم في نظام الدولة القضائي، وبالتالي فإن الملاحقة بحقهم لايحول دونها ، اية دفوع شكلية تتعلق بتلك الحصانات الممنوحة لهم في اطار مسؤولياتهم مهما بلغ علوَ شأنها.
وتبقى مسألتان ، الاولى ، مدى التزام الدول المنضمة الى نظام المحكمة في تنفيذ قراراتها ، والثانية ، في قوة التنفيذ الجبري لقراراتها.
بالنسبة للاولى ، ان نظام المحكمة ينص على الزامية تنفيذ قراراتها من جانب الدول المنضمة اليها. وعليه يجب على كل دولة طرف فيها ، ان تنفذ مذكرة التوقيف الصادرة عن غرفة المحكمة المختصة حالما وطأت من صدرت مذكرة التوقيف بحقه اقدام تلك الدولة. اما اذا لم تقدم الدولة الطرف على تنفيذ قرار المحكمة ، فتكون بذلك قد اخلت بالتزامها بميثاق المحكمة ، وهو ميثاق دولي يتقدم في تراتبيته على القوانين الوطنية . وما اكثر الحالات التي ابدت فيها كثير من الدول وللأسف عدم التزامها بالمواثيق الدولية، ولا امكانية لاتخاذ اجراءات عقابية بحقها. وهنا يبرز التأثير السياسي على مسار عمل المحكمة.
واما بالنسبة للثانية ، فان الاحكام التي تصدرها المحكمة بالادانة لاتأخذ طريقها للتنفيذ الجبري الا بقرار من مجلس الامن الدولي بموجب الفصل السابع ، وهو غير ممكن حالياً في ظل الواقع السائد في مجلس الامن.
لكن رغم كل ذلك ، سواء احجمت بعض الدول الاطراف في المحكمة عن تنفيذ مذكرات توقيف استناداً الى قرار اتهامي او حالت الظروف السائدة في مجلس الامن من التنفيذ الحبري للاحكام القضائية بالادانة ، فإن قرارات الاتهام وقرارات الادانة ولو لم تنفذ وذلك لاسباب سياسية، الا انها تبقى تحافظ على قيمتها المعنوية والاعتبارية، لان الملاحقين بالاتهام والادانة سيبقون دائماً تحت تأثير احكام العدالة الانسانية التي تسبغ حمايتها على ضحايا جرائم الحرب والابادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية.
كما إن تأثير ووقع قرار المحكمة واهميته إنما يقرأ من خلال رد الفعل الاميركي الهستيري، كما رد الفعل عند كافة الاطراف السياسية في الكيان الصهيوني، من هو في موقع السلطة ومن هو في موقع المعارضة، حيث ظهر اجماع سياسي على رفضه ومقاومته لا يوازيه سوى رفضهم الاعتراف بحق شعب فلسطين في تقرير المصير. وعليه فإن المواجهة مع الكيان الصهيوني في الميدان القضائي هي جزء من المواجهة الشاملة التي تخاض ضده على الصعد العسكرية والسياسية والتعبوية. وعلى الدول العربية التي مازالت محجمة عن الانضمام الى نظام المحكمة ان تبادر فوراً للتصديق عل نظامها وبالموازاة نفسها الانضمام الى دعوى مقاضاة “اسرائيل” بجرم الابادة الجماعية التي تقدمت بها دولة جنوب افريقيا.