الوَحْدَة الوَطنِيَّة تَبْقَى رَافِعَة استِقلَال لبْنَان وتَحْصِينِه مِن استِهْدَافَاتِ الخَارِج
د. محمد مراد – باحث في التاريخ السياسي والشؤون الدولية
بعد مئة وأربع سنوات على نشاة الدولة اللبنانية الحديثة، وإحدى وثمانين سنة على إعلانها دولة مستقلة وذات سيادة، وصلت اليوم إلى المستوى الأدنى في انحدارها العمودي نحو التفكك والتلاشي نظراً للتصدّعات الخطيرة التي باتت تحكم هياكلها البنائية في اجتماعها السياسي وفي نظمها الاقتصادية والمؤسسية والمصرفية والمالية.
يتوقف المراقب المتابع في رصده للمسار التاريخي الذي عرفته الدولة منذ لحظة استقلالها وحتى باتت اليوم قاب قوسين أو أدنى من الهبوط في المجهول، يتوقف عند جملة من الحقائق الموضوعية، كان من أبرزها أربع هي الأكثر بروزاً كدلالات توصيفية للمسارات التطورية التي واكبت الدولة الاستقلالية منذ العام ١٩٤٣ وصولا الى الوقت الحالي:
الحقيقة الأولى، إن استقلال لبنان عام ١٩٤٣ كان تعبيراً لبنانياً جامعاً عن حاجة وطنية لكل تشكيلات المجتمع اللبناني بطوائفه المتعددة وبشرائحه الطبقية وبسائر نخبه وقواه المدنية من أحزاب سياسية ونقابات عمالية ومهنية وهيئات وروابط أهلية على اختلافها. وقد بدأ هذا الاجماع الوطني يظهر بتجلياته الواضحة إبان معركة الاستقلال بين ٨ و٢٢ ت٢ ١٩٤٣.
أما القول إن الصيغة الميثاقية غير المكتوبة التي توافق عليها الزعيمان البارزان آنذاك بشارة الخوري ورياض الصلح هي التي أنتجت الاستقلال فهو قول لا يعكس كامل الحقيقة التاريخية، فالميثاقية بين الرجلين لم تكن سوى تعبير وانسجام مع حالة وطنية كانت قد باتت شعوراً مسيطراً على سائر مناطق وطوائف وشرائح طبقات المجتمع اللبناني. فبعد ما يقرب من الربع قرن على قيام الدولة ( ١٩٢٠-١٩٤٣)، انخرط اللبنانيون في شبكات من المصالح الحياتية الاقتصادية والاجتماعية والتربوية المشتركة لدرجة باتوا معها يشعرون بحقيقة الهويّة الوطنية، وأن الدولة هي الحاضنة الوطنية الجامعة لكل اللبنانيين.
الحقيقة الثانية، أن الطائفية السياسية كانت بمثابة القطبة الخفية التي لم تسع النخب الحاكمة، بعد الاستقلال، الى معالجتها ومحاصرة مفاعيلها. ورد ذلك في البيان الوزاري لحكومة الاستقلال الأولى التي ترأسها رياض الصلح حين قرأ بيانها الوزاري في ٧ / ت١ معلنا ان لبنان يتطلع الى اليوم الذي تنتهي معه الطائفية في السياسة والادارة ومؤسسات الدولة، وفي كل ما من شانه ان يعوّق الاندماج الوطني للشعب اللبناني الواحد.
لم تلجأ النخب الحاكمة الى سحب مفاعيل الطائفية لاسيما في جانبها السياسي وتوزيع السلطة، لا بل على العكس، كان العامل الطائفي هو المعيار الأكثر بروزاً في كل مظاهر الحياة السياسية والادارية وحتى الاجتماعية أيضا.
برز العامل الطائفي كفاعل انقسامي في المجتمع اللبناني، وهذا ما تجلى بوضوح الصورة إبان الخمسينيات والستينيات مع بروز ظاهرة الطائفية السياسية في الوسطين الاسلامي والمسيحي، أذ في الوقت الذي تفاعلت القوى الاسلامية مع تصاعد المدّ القومي بفاعليه البعثي والناصري، وراحت معه تضفي طابعا أيديولوجيا على القومية العربية يربط عضويا بين العروبة والاسلام، راحت بالمقابل، القوى المسيحية تعمل على أدلجة القومية اللبنانية من خلفية عقيدية تربط بين خصوصية الوجود المسيحي واستقلال لبنان والدولة اللبنانية. تعاظمت فجوة الانقسام مع دخول الفصائل الفلسطينية المسلحة الى لبنان، حيث وجدت القوى المسيحية في هذا التطور ما يشكل خللا في التوازنات الداخلية السكانية والعسكرية والسياسية، الأمر الذي راح يدفع بسرعة الى حرب أهلية استمرت تتلاحق بفصولها المأساوية لأكثر من خمس عشرة سنة بين ١٩٧٥-١٩٩٠.
توقفت هذه الحرب ميدانيا بفعل تدخلات عربية وأجنبية خرجت بتسوية ميثاقية جديدة على أساس وثيقة الطائف لعام ١٩٨٩، التي لم تكن في الواقع الا تعويما لبنية سياسية للسلطة التي حكمت الدولة فكانت أكثر تطييفا للواقع السياسي والاجتماعي من ذي قبل. فقد جاءت التسوية الجديدة لترسي معادلة في الحياة السياسية على أساس المحاصصة بين زعامات الطوائف، الأمر الذي جعل الاستقلال والسيادة أمام التحدي الأصعب، حيث لا استقلال ولا سيادة في ظل الاستثمار السياسي للعصبيات الطائفية والمذهبية في كل مرة يعاد فيها تركيب وانتاج السلطة من جديد، لاسيما مع تشكيل المجالس النيابية والوزارية وانتخاب رئيس للجمهورية.
الحقيقة الثالثة، وهي ان النظام العربي الرسمي يتحمل المسؤولية الكبرى في إهماله معالجة الوضع اللبناني ، وفي تجاهله الخصوصية اللبنانية لجهة تنوعها الروحي والثقافي من جهة، ونزوع اللبنانيين الجامح منذ القدم للحرية والاستقلال متأثرين بعامل الجغرافية عبر تفاعل ثنائية الجبل- البحر من جهة أخرى. لم يعر النظام الاقليمي العربي الذي ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتحت يافطة جامعة الدول العربية أهمية لذلك، فلم يبادر إلى المحافظة على الخصوصية اللبنانية بهدف المساعدة على توفير ما يلزم لتعزيز الوحدة الوطنية وإتاحة الفرصة لتطوير الدولة اللبنانية في الإتجاه الذي يؤسس لهوية وطنية لبنانية عابرة للطوائف والمذاهب المتعددة.
الحقيقة الرابعة، تمثلت باستغلال الخارج الاقليمي والدولي الساحة الاجتماعية والسياسية اللبنانية بوصفها الساحة الرخوة والسهلة الاختراق لاختزانها ركائز داخلية انقسامية سريعة الاستجابة للتفاعل الولائي مع الخارج القريب والبعيد، يستطيع استثماره في الاختراق والتغوّل، وفي توظيفه في مشاريعه الاستراتيجية سواء على المستوى الاقليمي أو على المستوى العالمي لناحية قيام نظام دولي جديد.
مع الحقائق الأربع المشار إليها بقي استقلال لبنان منذ ١٩٤٣ وحتى اليوم أسير التجاذبات الطائفية السياسية لا بل المذهبية السياسية في الداخل، إلى قصور النظام الرسمي العربي عن دوره في معالجة الحالة اللبنانية باعتماده استراتيجية عربية من شأنها تعزيز البناء الوطني لدولة لبنانية تنعم بالاستقلال والحرية من جهة، وتكون قادرة على مواجهة التغولات والاستهدافات الخارجية من جهة أخرى.
إن لبنان اليوم، وبعد إحدى وثمانين سنة على نيله استقلاله الوطني، وصل ككيان وطني ومجتمعي ودولة إلى اللحظة الفاصلة بين أن يكون أو لايكون. فمنذ أكثر من ثلاثة عشر شهراً والشعب اللبناني برمته يدفع غاليا أثمان حرب مكلفة جداً ليس في خسائره البشرية والمادية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، وإنما، وهذا هو الأخطر على المصير الوطني، في مخاطر التهديد الواضح لاقتطاع أجزاء واسعة من أرضه الوطنية في الجنوب والبقاع وبمساحة قد تصل إلى نحو ثلاثة آلاف كم٢ أي ما يمثل حوالي الثلث من جغرافيته السياسية المحددة دوليا ب ١٠٤٥٢ كم٢. هذا مع دفع أكثر من مليون ونصف المليون نسمة من سكانه إلى التشرد والنزوح القسري والهجرة كشتات في بقاع العالم المختلفة.
إنها الحرب الأخطر على الوجود اللبناني بكل مقوماته كمجتمع ودولة وسيادة واستقلال ومستقبل لشعب سبق له أن سجّل سبقا حضاريا وابداعا معرفيا وعلميا واستعداداً للابداع والتميز في نشاطه الإنساني عبر التاريخ.
في معرض الحديث عن الحرب المدمرة التي ماتزال مستعرة وتطال بنيرانها واكلافها الباهضة كل لبنان بكل مناطقه وتنوعاته الروحية والثقافية والسياسية، أود ان أشير في ذكرى الاستقلال الحادية والثمانين إلى جملة حقائق على درجة عالية من الأهمية:
وهي أنه ليس هنالك أي مشكلة بين أبناء الشعب اللبناني بكل تنوعاته المشار اليها، وقد ظهرت هذه الحقيقة في كل مسلسلات الحروب التي عرفها لبنان في تاريخه الحديث والمعاصر..
أذكر للتاريخ إننا كنا طلاب في الجامعة اللبنانية ثم اساتذة فيها، من كل الطوائف والمذاهب متفاعلين ومتشاركين ومتكاملين في انشطة اكاديمية وتعليمية ومعرفية. وإني أشير اليوم الى الروح الوطنية في أعلى تجلياتها في تعامل أهلنا من كل الطوائف اللبنانية الكريمة مع نازحي أهل الجنوب والبقاع والضاحية، فقد فتحوا بيوتهم لإيواء النازحين الهاربين من نيران الحرب، مقدمين لهم كل المعونة والمحافظة على أمنهم وكرامتهم.
هذا هو لبنان مجتمع واحد موحّد على قواعد راسخة في الإنتماء والهويّة الوطنية والمصير الواحد المشترك. مشكلتنا في نظامنا السياسي وفي الزعامات التي راحت تستثمر الطائفية والتطييف السياسي من أجل أن تبقى ثابتة وتعيد انتاج زعامتها في كل مرة يعاد فيها تركيب السلطة الحاكمة على مستوياتها الهرمية المختلفة.
في ذكرى الاستقلال الحادية والثمانين ندعو ألى وقفة ضمير لبناني وطني مترفع عن الأغراض والفئويات السياسية والطائفية، وشدّ السواعد المشتركة، وتحشيد كل الطاقات الوطنية من أجل استعادة الدولة الوطنية اللبنانية ووضعها على سكة التطور والبناء والسلام الوطني الشامل.
عاش لبنان الواحد الموحد لكل أبنائه المستقل والسيد على أرضه وهويته ومستقبله.