نحوَ استراتيجيّة لتَعزيز الوَعي القومِي الوحدَوي لدى الأجيالِ الصاعِدة
المحور الرابع من
(راهِنيّة العرُوبَة والاستهدافات الداخلّيةِ والخَارجيّة)*
تواجه الأمة العربية في كافة مناحي الحياة، استهدافاً متوحشا، عبّر عن نفسِه بفرض تحديات غير مسبوقة، تهدف كلها الى ضرب ومحو الأمة من الوجود وطمس هويتها وحضارتها. لذا تواجه حركة النضال القومي العربي عقبات ومصاعب وتحديات متزايدة منذ أكثر من ربع قرن، منها تحدي الديمقراطية والانفتاح السياسي، والاستهداف الأمريكي والدول الإقليمية المجاورة للوطن العربي، وتحدي وجود القواعد الأجنبية فيه. وفيما يلي موجزاً للمحور الثاني من هذه التحديات.
الوطن العربي والاستراتيجيات العدائية الخارجية
تحالف عضوي بين أطماع الاستعمار ودول الإقليم
حسن خليل غريب
تقديم
مشروعان تآمريان طبعا تاريخ الوطن العربي، هما:
– مقررات مؤتمر كامبل بانرمان في العام 1905. والذي قسِّم الوطن العربي حسب خطوط جغرافية.
– ولأن الخطوط الجغرافية لم تؤد وظيفتها المرجوَّة، وضع برنارد لويس مشروعاً تقسيمياً على أسس طائفية، وافق عليه الكونغرس الأميركي في العام 1980، وبدأ بتطبيقه في العام 2006. وعرف أكثر فصوله زخماً في العام2011، عبر ما عُرف بمظهرية (الربيع العربي).
وبالإضافة إلى ذلك، أثبت التاريخ وجود علاقة وثيقة بين دول الاستعمار الكبرى ودول الإقليم الجغرافي للوطن العربي.
واستناداً إلى أن الظاهرة الطائفية حفرت بعمق في الثقافة الشعبية، وأصبحت عامل تفتيت للمجتمع العربي. استفادت القوى المعادية للأمة العربية من تلك الظاهرة لتضع مخططاتها التقسيمية، ولهذا برزت ثلاثة أحداث مترابطة، وهي:
الحدث الأول: موافقة الكونغرس الأميركي، في العام 1980، على مشروع تفتيت الشرق الأوسط إلى دويلات طائفية. ولأن واضعه الصهيوني برنارد لويس، فهو يلبي مصالح الصهيونية والرأسمالية. ولأنه لا يمكن تنفيذه من دون توفير الشروط الضرورية لنجاحه، ومن أهم تلك الشروط تتوفر في كل من إيران وتركيا.
الحدث الثاني: نجاح حركة ولاية الفقيه في الوصول إلى حكم إيران في العام 1979، بعد إسقاط نظام الشاهنشاه العلماني.
الحدث الثالث: نجاح حزب العدالة والتنمية الذي يرفع شعار (الإسلام المعتدل) في الوصول إلى حكم تركيا في العام 2002، بعد إسقاط نظام أتاتورك العلماني.
أولاً: ترابط مصالح الدول الإقليمية مع المشاريع الاستعمارية
بفعل أحداث التاريخ المتتالية، تجذَّرت في ذاكرة الدولتين الجارتين للوطن العربي، إيران وتركيا، نزعتان تشكلان عليه خطراً مستمراً ما لم تتخلصا منهما، وهي:
- النزعة الإمبراطورية: تمتد النزعة الفارسية إلى آلاف السنين. ومئاتها للنزعة العثمانية التركية. وإن استكانت بعد الحرب العالمية الأولى، إلاّ أنها لاحقاً تم استنهاضها بفعل عوامل مشروع تفتيت المنطقة على خطوط طائفية.
- الأيديولوجيا الطائفية: بعد أن أصاب الضعف الأيديولوجيا الدينية، بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، استنهضتها الدول الاستعمارية من جديد منذ السبعينيات من القرن العشرين، وللخطورة المتمثلة فيها على صعيد المنطقة عموماً والوطن العربي خصوصاً، قمنا بعرض تفاصيلها التي نوجزها بما يلي:
1-الأهداف الإيديولوجية لنظام ولاية الفقيه:
تقوم أيديولوجيا النظام الإيراني على مفهوم الانتظار الغيبي، في بناء نظام عالمي يحكم تحت إمرة الوليّ الفقيه، نائب “الإمام المهدي المنتظر”، والذي يتميَّز بخاصيتين هما: له ما للإمام من صفات القدسية من جهة، وله الأمر والنهي في كل شؤون الدين والدنيا من جهة أخرى. أما أدوار المؤسسات الأخرى التابعة له، فلا تملك غير الإذعان.
ولذلك فهو يتناقض مع مفاهيم الفرق الشيعية الأخرى، وكذلك مع كل الأديان، ومع المذاهب الإسلامية، تحت طائلة تكفيرها. وأما موقفه من الأنظمة الوضعية، فهو يعتبرها أنظمة كافرة. ولذلك يجاهر بعدائه الشديد للقومية العربية، وهذا ما تفسِّره دعوته لنظرية (تصدير الثورة) إلى خارج إيران، الأمر الذي أخذ فيه نظام ولاية الفقيه يشكل خطورة بالغة على الجوار العربي، ويأتي العراق في المقدمة منه.
2- الأهداف الإيديولوجية لتنظيم الإخوان المسلمين:
لقد تفرعت حركة الإخوان المسلمين إلى العشرات من التنظيمات، يجمعها هدف معلن هو استعادة الخلافة الراشدة. ومشروعه السياسي والأيديولوجي هو ادعاء تطبيق الشريعة الإسلامية حصرياً ( اي رفض تبني اي من التشريعات والقوانين العصرية الملائمة لواقع وقيم مجتمعنا وأمتنا)، في كافة شؤون الحكم والدولة، وقتال كل المخالفين، وصولاً إلى إقامة دولة دينية كهنوتية. ووسيلة الوصول إلى الهدف هو القتال /”الجهاد” كفرض ضد كل المخالفين لهم بالرأي الذين يعتَبَرونهم عند ذاك مرتدين عن الإسلام، ويجب أن يُقتلوا شرعاً. ويتعمد هذا التنظيم اغفال الحقيقة القائمة حالياً، وهي ان الشريعة الإسلامية هي أصلاً المصدر الأساسي والأول للتشريع في كل دساتير الدول العربية والإسلامية الدينية منها والعلمانية.
3- النظامان يلتقيان في مراحل ويتكافران في مراحل أخرى:
ولما كان مفهوم إعادة بناء الخلافة الإسلامية عندهما يتناقض إلى حدود التكفير، يعني أن مبدأ الصراع بينهما هو القاعدة، وإن كان مؤجلاً في الوقت الراهن الى حين. وما نشاهده من لقاءات بينهما في هذه المرحلة فهو يستند مرحليّاً الى هدف العمل على إسقاط الأنظمة “الكافرة”، ومن بعدها يجري التحضير لصراع مستقبلي.
ومن الجدير بالذكر أن إصرار الدول الاستعمارية على التحالف معهما،
- فلأنها تثق بأن هذه الانظمة والاحزاب تعرف كيف تهدم ولكنها لا تعرف كيف تبني من جهة..
- وأن وجودها يؤسس لمشاريع حروب دائمة بينهما من جهة أخرى. وبهذا تتفرَّغ الدول الطامعة لسرقة ثروات الأمة.
4- دور النظامين الإقليميين في مرحلة تنفيذ استراتيجية مشروع الشرق الأوسط الجديد:
أ- الأيديولوجية الطائفية للنظام الايراني غطاء لدور سياسي إقليمي:
إن أهداف النظام الإيراني، استعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية. وعلى شاكلة وسائلها التاريخية باستخدام التشيع كمدخل لتنفيذ خطتها التوسعية، فهي لجأت إليه في هذه المرحلة. لذا يشكل العراق بوابتها الرئيسية بفعل عاملين أساسيين، وهما:
- العامل الجغرافي ، إذ ليس لإيران حدوداً برية مع الوطن العربي إلاَّ عبر الحدود مع العراق.
- والعامل الاجتماعي، حيث شكل جنوب العراق، امتداداً مذهبياً مع إيران تستخدمه للتسلل عبره إلى الوطن العربي، ولما فشل عبر ثماني سنوات من الحرب بين 1980 و1988، وجد نظام ولاية الفقيه الايراني فرصته الذهبية بالعدوان الأطلسي في العام 2003. وقام بالعمل على تأهيل حاضنة مذهبية كي تساعده على وراثة تركة الاحتلال الأميركي بعد هزيمته في العام 2011. الأمر الذي وفَّر له الإمكانيات المادية الهائلة في ثروات العراق، وبواسطتها تمددت قوته إلى سورية، ولبنان، وتجاوزتهما إلى التسلل للساحة اليمنية.
بـ- تركيا في ظل حزب العدالة والتنمية:
حزب العدالة والتنمية، حزب سياسي تركي، وصل إلى الحكم في تركيا في العام 2002. وأعلن أن (العثمانية) مرجعيته التاريخية.
وعلى الرغم من ذلك، وفي الوقت الذي يحاول فيه التجديد في الفكر الإسلامي بما يتناسب مع أهدافه السياسية بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إلاَّ أن اعتداله هذا لم يلغ طموحاته بأن يتزعم حركة إسلامية، خاصة في جواره العربي. لأن تلك الحركة تعطيه وزناً على الصعيد الدولي. هذا ناهيك عن أهدافه بالحصول على حصته من مخطط تفتيت الوطن العربي إلى دويلات دينية. وبعد بدء الانتفاضات الشعبية، وبشكل مترافق معها، تأسست فروع للحزب، في العام 2011، في عدد من الأقطار العربية، هي مصر وسورية وتونس وليبيا.
جـ- لضمان نجاح تنفيذ مشروعها، الإدارة الأميركية عقدت التفاهمات مع الدولتين الإقليميتين:
أن الإدارة الأميركية عقدت معاهدات وتفاهمات مع النظامين معاً. وإذا كانت التفاهمات جاهزة مع النظام الإيراني منذ ما قبل العام 2003، فإنها أخذت وقتاً مع تركيا في ظل قيادة حزب العدالة والتنمية. ولذلك، في الوقت الذي كانت تركيا تسعى إلى اتفاقيات (صفر مشاكل) مع سورية، فقد تغير سلوكها بفعل مشروع “الشرق الأوسط الجديد ” التقسيمي ، لما قدمه من إغراءات.
ولذلك كان من المرسوم له أن يتعهَّد النظام الإيراني هلالاً شيعياً يمتد من طهران مروراً ببغداد ودمشق وصولاً إلى بيروت. كما كان من المرسوم له أن يتعهَّد النظام التركي هلالاً سنياً يمتد من تونس مروراً بليبيا ومصر وصولاً إلى سورية. ولكن بعد التدخل الروسي، أصبحت سورية العقدة التي كان يتسابق فيها كل من إيران وتركيا للحصول على حصته منها.
ثانياً: نتائج المرحلة
الرياح تجري بما لا تشتهيه سفن مشروع تفتيت الوطن العربي تحت مسمى “الشرق الأوسط الجديد”:
من رحم الأنظمة العربية الرسمية التي تواطأت مع أميركا والغرب، هبَّت موجة عرقلة المشروع في قمة نجاحه. والسبب الذي كشف اللثام عن خطورته هو التسرُّع الإيراني في الكشف عن أهدافه الحقيقية في استعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية عندما أعلنت أنها وصلت إلى شواطئ المتوسط، وباب المندب. وبعد أن وصل الإخوان المسلمون إلى سدة الحكم في تونس ومصر وليبيا.
وانكشفت أهداف التحالف الغربي الصهيوني بعد أن منحوا النظام الإيراني هبة توقيع الاتفاق النووي الإيراني، بما رافقه من إفراج عن مئات المليارات من الدولارات، التي كانت ممولاً ضرورياً لاستئناف المشروع الإمبراطوري الفارسي. تلك الوقائع كانت سبباً في تشكيل تحالف ضم المملكة العربية السعودية (بعد تراجع العلاقات مع أميركا في ظل دعمها للمشروع الايراني) ، ومصر بسبب إيصال الإخوان المسلمين إلى حكم مصر.
ومن بعدها تكاثرت التداعيات من حيث البدء بانهيار ما سمي “بالهلال السني”، في إسقاط حكم الإخوان في مصر وتونس، وظهور حركة يقودها الجنرال حفتر لمواجهة المشروع في ليبيا. وما عزَّز التداعيات هو التدخل الروسي في سورية الذي أخذ يخفف من وطأة الهجوم الإيراني والتركي على تلك الساحة.
ثالثاً: الواقع الراهن
تراجع كبير في الأهداف التركية، وبداية انهيار في الأهداف الإيرانية
لقاء تلك التحولات قامت إدارة الرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب بمراجعة لكل مفاصل المشروع، وقلبت الطاولة رأساً على عقب. وظهر واضحاً دور مصر والسعودية في هذا التحول وعرقلة المشروع الأميركي السابق.
وأما النظام التركي، بما لحق به من أذى جراء سياسات إدارة أوباما، خاصة ما نقلته التقارير عن دور في مساعدة حركة انقلابية ضد حزب العدالة والتنمية من جهة، وإصرار تلك الإدارة الامريكية على حماية مشروع كردي انفصالي في شمال سورية يهدد الأمن القومي التركي من جهة أخرى. وبعد أن تراجع مشروع حزب العدالة والتنمية التركي بالجملة، راح اليوم يفتِّش عن ترميم مشروعه بالمفرَّق بالحصول على علاقات إيجابية مع هذه الساحة القطرية العربية، أو تلك.
وأما النظام الإيراني، فهو لا يزال مصراً على متابعة تنفيذ مشروعه، وذلك على الرغم من تراجع الإسناد الأميركا، وكذلك الاتحاد الأوروبي بفعل الانشغال بالحرب في أوكرانيا، هذا ناهيك عن مخاوف النظام العربي الرسمي.
ويصح أن نتوقع واقعاً شديد الخطورة يحيط بالنظام الإيراني، والذي لم يبق لديه من يؤيده باستثناء تلك القوى الطائفية الغيبية المتعصِّبة، وتلك المستفيدة من تقديماته المالية. وهو سائر الآن باتجاه تحجيم دوره في المنطقة إلى دون الحد الأدنى الذي يراهن ذلك النظام للحصول عليه.