في ظِلِّ العمليّة السِياسيّة الإحتلاليّة
فوضى السِياسَة وفوضى الإقتِصاد،
تَأْثِيرٌ مُتَبادل
الأستاذ الدكتور فارس حمزة البغدادي*
عندما يتحول السياسيون والمُعَمّمون إلى اقتصادين ويبدأون بالإفتاء، بل وفي حالات شهدناها في العراق، بتأليف الكُتب الإقتصادية، فقل وداعاً للإقتصاد السليم. وهذا ليس مستبعداً في ظلِّ عمليةٍ سياسيةٍ جاء بها المُحتل الأجنبي لا لهدف الّا لتخريب البلد في كافة المجالات، و يأتي هَدم الإقتصاد الوطني في مقدِّمَتها. ولعل حالة سعر صَرف الدينار التي مسَّت حياة الشعب العراقي بالصَميم وانحدرت بأكثر من أربعين بالمائة منه الى خط الفقر، هي الأكثر وَطْأة وأهمية.
إن ما يسمى “بالحكومة” الحالية، او حكومة الصدفة التي اشتهرت بفتح التحقيقات المنتهية دائماً بنهاية معروفة مسبقاً وهي (القاء المسؤولية على طرف ثالث او مجهول)، سمعت و أطاعت ذوي (القربى) بأن أقالت المحافظ الرافض لتغيير سِعر الصرف بآخر، ثم اضطرّ للموافقة حينما أصر “وزير” مالية مجهول الهوية السياسة على تخفيض سعر الصرف.
وفي خطّة غائرة بالإلتواء والتضليل، خدع علي علاوي الجميع بتضخيم النفقات وتضخيم الرواتب بشكل مفتعل، من اجل تضخيم نفقات مجهولة تذهب لجيوب غير معلومة الهوية والانتماء والمكان.
إن النفقات التي قدمها وزير المالية في مشروع الموازنة لما يسمى بمجلس النواب للعام 2021 تجاوزت 160 ترليون دينار. غير ان حجم النفقات التي اقرها قانون الموازنة قد بلغ 129 تريليون دينار (نحو 88 مليار دولار) وعجزاً قدره 28 تريليوناً (نحو 19 مليار دولار). ومع هذا التخفيض الهائل الذي أجرته اللجنة المالية في المجلس والذي كان بحدود 30 ترليون دينار لم تتمكن وزارة المالية من انفاق سوى مائة ترليون دينار منه فقط.
إذاً فالتهويل الذي كان يفتعله الوزير و كذلك التضخيم لحجم الإنفاق لم يكن من دون قصد بل هو متعمَّد لإيذاء الشعب العراقي والتحايل عليه على طريق سلب موارده. وللوصول لهدفِه في تضخيم النفقات حاول ان يضرب على الوتر الحساس، وهو رواتب وإجور موظفي الدولة أو ما يطلق عليه بتعويضات المشتَغلِين، حيث تحدّث عن حجمها الذي قدّره بخمسة ترليونات دينار شهرياً، ليصل الى 60 ترليون دينار في السنة. في حين ان بيانات دائرة المحاسبة في وزارة المالية تُظهِر ان هذه الفقرة لم تتجاوز 38 ترليون دينار حتى شهر تشرين الثاني من العام2021. اي بحدود 3.4 ترليون دينار شهرياً.
تلا ذلك قيام “وزير” المالية بشنّ حملة تضليل للرأي العام مفادُها عدم توفر الأموال لدفع هذه الرواتب الضخمة، مُعلناً انه سيتوقف عن دفعِها في بداية العام 2021، وذلك بهدف الضغط على البنك المركزي للموافقة على طلبِه بالاقتراض منه عبر خصم الحوالات، حيث تمت الموافقة على 15 ترليون دينار خصم حوالات، وخمسة مليارات دولار قروض خارجية.
في هذه الاثناء لم يستجب “وزير” المالية لطلب اللجنة المالية بتقديم مقترحات لتعظيم الإيرادات وتقليص النفقات وفقا لما قدمته، بل ذهب لتقديم ورقة تعجيزية ظاهرها حق وباطنها باطل (الورقة البيضاء) وهي في حقيقتها ورقة اصلاح اقتصادي وفق نموذج مؤسسات بريتون وودز (صندوق النقد والبنك الدوليين) والذي يقوم جوهره على شدّ الحزام على بطون الفقراء بهدف تقليص الاستهلاك ورفع مستويات الإدخار لدى الاغنياء واحداث فوائض تدريجية في الميزان التجاري والموازنة العامة لتمكين الاقتصاد من تسديد مديونيته.
وهنا لابدّ من التأكيد على حقيقة ان العراق لا تصلح له مثل هذه الاجراءات فهو ليس بلداً افريقياً او لاتينياً غارق في مديونية لا يمكن تسديدها. كما انه يفتقد للبُنية الصناعيّة النشِطة التي يمكن ان تستفيد من تنافسيتها مع الدول الاخرى بسبب انخفاض سعر الصرف. وبالتالي فان الهدف الحقيقي من التخفيض هو فقط الضغط على مستويات معيشة الشعب من خلال تخفيض المستحقات المالية للموظفين والمتقاعدين والرعاية الاجتماعية بطريقة غير مباشرة عبر تخفيض القوة الشرائية للعملة من خلال سعر صرف منخفض، بدلا من الاستقطاع المباشر عن طريق تخفيض الرواتب ومنح الرعاية الاجتماعية.
وبعد ان نجح وزير المالية في احداث الكارثة الإقتصادية التي انتجت إلى جانب إفقار المواطنين، ركوداً تضخمياً اضاف لآثار جائحة كورونا، آثاراً مدمرة للاقتصاد تمثلت في مزيد من الإفقار للشعب ومزيد من الإثراء للفاسدين، ومزيد من العاطلين في قطاع الاعمال الخاص، الصغير منه على وجه التحديد.
وهكذا انتقل الاقتصاد العراقي الى حالة المعزِّز للفوضى السياسية التي كرّسها المحتل، ونشر آثاره وانعكاساته الكارثية على الوضع الاقتصادي. فمستويات
الفقر والبطالة دفعت الالاف من الشباب اليائس للانخراط في اعمال غير لائقة، او للإلتحاق بالميليشيات المسلحة التي تدفع رواتب مجزية مصدرها الأموال الضخمة التي تنفقها الموازنة والتي لم يشأ وزير المالية المساس بها، والتي اغتنت بها الاحزاب التي تتبعها تلك المليشيات. كل ذلك بفعل اجراءات الوزير والتي كان يمكن له ان يحد من استحواذه عليها من خلال مراقبة اعداد الفضائيين المزعومين، ومن خلال اغلاق ومنع اللجان الاقتصادية في الوزارات، و ايقاف ابواب الصرف مجهولة الوجهة الإنفاقية.
وفي ظلّ انفلات الوضع الأمني وعودة جرائم الاغتيالات، عاد التأثير على الوضع المالي وخصوصاً بعدما ارتفعت اسعار النفط، فوزارة المالية استحوذت على كامل ايرادات النفط ولم تتقيد بقانون الموازنة الذي حدد السعر الافتراضي للنفط ب 45 دولار للبرميل. وبدلاً من ان يظهر فائض في الموازنة بما لا يقل عن عشرين مليار دولار، ظهر فائض لم تعلن عنه وزارة المالية بمقدار يقل عن مليار دولار. وهكذا يتبين ان وزارة المالية، التي خَدَعت الشعب العراقي بتضخيمها للنفقات والحاجة للموارد المالية، توصَّلَت لهدفِها في إفقار العراقيين وارغام اعداد منهم الى رمي انفسهم في اتون الجحيم.
وهكذا وجد شعبنا العراقي الصابر نفسَه أمام آلية شيطانية تتمثل في جعل الاقتصاد العراقي أداة لتكريس حكم وتسلّط الأحزاب العميلة على رقابه واحكام سيطرتهم على قوتِه ومقدراتِه والاستحواذ على كل مكامن القوة لإرهابه من أجل منع الثورات وقمع الانتفاضات الشعبية. الا ان شعبنا الأبي المعروف بوعيه وشجاعته سوف يُسقط كل تلك الآليات والخطط الشريرة وينتصر لحقه في الحياة الحرة الكريمة وبما يليق بموارده وقدراته العملاقة.
(*) الأستاذ الدكتور فارس حمزة البغدادي – دكتوراه في الإقتصاد المالي.