أيام مشرقة في التاريخ العربي المعاصر
في هذه الأيام المشرقة حيث ينتفض شباب الأمة في العراق وقبل ذلك في السودان والجزائر حاملين دمهم على أكفهم لتحرير الأرض والإنسان مدافعين عن حرية الأمة واستقلالها، ومن أجل ابقاء راية العروبة حية خفاقة نستذكر اليوم أياماً مشرقة في تاريخنا العربي المعاصر تحققت فيها انتصارات مجيدة تتزود من عبقها الأجيال الصاعدة العزيمة والثقة لمواصلة كفاحها الضروس دفاعاً عن عروبة الأمة وحقها في الحياة الحرة الكريمة.
فعلى الرغم من أن هناك أحداثاً وملاحم جرت في بقعة معينة من الوطن العربي ، لكن امتد اشعاؤها ليضيء لنا على امتداد الوطن الكبير، إما لأنها كانت دفاعاً عن وجود ومصالح ومستقبل الأمة وبجهد مشترك، أو انها أدت في نتائجها وانعكاساتها إلى حماية المصلحة القومية وتعميق التلاحم العربي فصارت معالم وأياماً مشرقة في تاريخنا العربي نستلهم منها القيم والدروس ونتزود من تفصيلات مجرياتها بشحنات من العزم لتجدد فينا روح الوفاء والإقدام والتضحيات في معاركنا الراهنة في مواجهتنا لأعداء الأمة من قوى الشر والعدوان حماية لمصالح الأمة وخياراتها ودورها الرسالي الإنساني.
برنامج أيام مشرقة في التاريخ العربي المعاصر يسلط الضوء على هذه الأحداث ويتناول بعدها القومي وتأثيراتها ودورها في التلاحم النضالي بين أبناء العروبة. من هذه الأيام الخالدة في تاريخنا العربي المعاصر هي عملية الساحل :
دَلال المَغْرِبِي و عمَلِيَّة السَّاحِل
أُسْطورَة الفِدَاء وايقونة الإنتِماء .
مع اطلالة الربيع من عام 1978 أطلت علينا قصة من أرقي وأغلى وأعلى سمات الفداء والوفاء والإنتماء للأرض الفلسطينية المغتصبة التي ارتوت بدماء بناتها الغيارى، كما هم شبابها البواسل، كي تبقى شاخِصة وشاهدة للأجيال، فالنضال والفداء لا يخبو ولا يكبت ولا يركُن الى السكون عندما يحمل رايتَهُ الأبطال والأحرار، فحياتهم لا معنى لها دون التضحية بكلِّ غالٍ ونفيس، فيجعلوا أنفسَهُم وأرواحَهُم مشاريع جاهزة ودائمة للإستشهادِ من أجل الوطن المُغتَصب، وليزرعوا الأمل في نفوسِ الآخرين بأن العَود المحمود لابدّ منه مهما طالَ الزَمَن، ومهما تفاقَمَت الخُطوب.
وهكذا كانت قصة المُناضِلة والمُجاهِدة الفلسطينية دَلال المَغربي التي شُرِّدَ أهلها من حَيفا بعد النكبة الى مخيماتٍ ببيروت، لتولَد هناك في تلكَ المخيمات عام 1958 وتترَعرَع بين دُروبها الضيّقة، وفي قلبِها غصّة وألم، مع غليان وثورة وأمل.
فآثرت منذ نعومة أظفارِها أن تتعلّم العِلمَ والفِداء على السواء، فأكملت دراستها الابتدائية والثانوية، وبذات الوقت أكملت تدريباتها العسكرية وحمَلَت البندقية بعد أن التحقت بالحركة الفدائية لتتفوّق في التدريبِ على فنونِ القتال في حربِ العصابات مثلما تفوقت في دراستها. وشهدَت كافة ميادين التدريب قدراتها الفذة منقطعة النظير، وشجاعَتها وجرأتها، فضلاً على حماسِها الوطنيّ والقوميّ.
اسمها لا ينطبق مع فعلِها الثوريّ، فلم تعرف دلال يوماً معنى الدَلال، فهي منظومة متكاملة من القوة والشجاعة والبَسالة وكلّ معاني البطولة. فخُلِّدَت وستبقى خالدة في التأريخ بما قدمَت وأقدمت على تلك العملية الفدائية النادرة بأرض فلسطين الحبيبة، المعروفة بإسم ( عمليّة السَاحِل ) والتي تمرّ علينا اليوم ذِكراها الرابعة والأربعون.
وإذا كانت المرأة العربية تحتفي مع نساء العالم بعيد المرأة الذي يقترب من ذكرى هذه العملية الفدائية الجَسورة، فحرّي بها ان تستذكر وتستحضر هذا العمل البطولي الذي قامت به دلال المغربي وهي ابنة الرَبيع العشرين في عام 1978.
ففي ظروفٍ بالغة التعقيد على الثورةِ الفلسطينية بعدما تعرضَت الى هجماتٍ ومذابح، وكاد اليأسُ ان يأخذ مداه، باتَ من الضرورةِ بمكان تنفيذ عملية نوعية وجريئة، لتعيدَ الثقة والأمل في نفوس العرب أجمعين، فوضِعَت الخطة، وحُدِّدَت أسماء المجموعة المنفذة من عشرة من خيرة الأبطال، تتقدمهم دلال حيث كُلِّفَت بقيادةِ المجموعة. الخطة باختصار تكمُن في ركوبِ البحر والنزول بقاربين صغيرين على الشاطئ الفلسطيني في مكان سبق وان تم استطلاعه، يخلو من البشر الا ما ندر. ومن ثم الاندفاع الى الشارع العام القريب والمحاذي للشاطئ للسيطرة على حافلة عسكرية، ومن ثم التوجّه بحافلة الجنود المختطَفة إلى تل أبيب لمهاجمة مبنى الكنيست ” الإسرائيلي.”
ومع صباح ذلك اليوم الربيعي تم تنفيذ العملية كما هو مُخَطَّط لها، فركبَت المجموعة الفدائية القوارب المخصصة واتجهت الى الموقعِ المحدَّد للنزول في الشاطئ الفلسطيني، فلم تُكتشَف. وما ان ترجَّل الأبطال من القوارب حتى انطلقوا مُسرِعين باتجاهِ الشارع بانتظار قدوم أول حافلة عسكرية صهيونية متجهة الى تل ابيب فاستولت عليها بجميع ركّابِها من الجنود، فأصبحوا رهائن لدى المجموعة.
وهنا أصدَرَت دلال أوامِرَها الى المجموعة لإطلاق النار على كلِّ سيارة عسكرية تقترب من الحافلة لتقتل من فيها في ملحمة كبرى. فهذا الطريق تسلكَه السيارات العسكرية لنقل الجنود من المستعمرات الصهيونية في الضواحي إلى تل أبيب، فأوقعت المجموعة الباسلة مئات القتلى والإصابات في صفوف جيش الإحتلال، والحافلة تشقّ طريقَها كما تم التخطيط لها.
مَضَت ساعتان منذ بِدء العملية والقتلى والإصابات تزداد في صفوفِ جيش الإحتلال، وما ان اقتربت الحافلة من مشارف تل ابيب حتى وصلت فرقة صهيونية خاصة بطائرات الهليكوبتر والدبابات بقيادة الإرهابي ايهود باراك شخصيا لايقاف الحافلة، ومحاولة قتل واعتقال المجموعة البطلة. فاندلع القتال بين أبطال المجموعة وجيش الإحتلال، وتمكَّنَت المجموعة الفدائية من قتل أعداد أخرى من جيش الاحتلال بعد أن قفزت دلال ومجموعتها من الحافلة، وفي الحال قامَت دلال بتفجيرِ الحافِلة وقتل جميع من فيها.
واستمر القتال سِجال بين المجموعة وجيش الإحتلال، حتى ارتَقَت روح دلال الى عِليّين، بعد أن رَوَت بدمِها الغالي تُراب فلسطين الحبيبة، فسَمَت شُموخاً وعِزّاً لتروي قِصَة الفداء، ولتبقى عمليتها الفدائية مناراً وفناراً لترشد الضالّين من الأمة الى طريقِ الهُدى والصَواب، طريق الفِداء والإنتماء والوفاء، دون كَلَلٍ او مَلَل او تخاذُل حتى التحرير الكامِل والشامِل لكلّ أرض العرب المغتَصَبة.
وإذا كان الإحتلال الصهيوني ما زال يُخبئ جُثمان الشهيدة دَلال، فإنه العزّ بعينِه أن يبقى هذا الجَسَد مُخَبَأً بين أشجار الزيتون وبساتين الكُروم الفلسطينية حتى يأتي اليوم الذي تَتَحرّر فيه الأرض السَليبة وليس ذلك ببعيد طالما ان في الأمة شباب ينتفضون في فلسطين والعراق والسودان واليمن ولبنان وفي كل ساحات المواجهة انتصاراً لحريتها وكرامتها.
مكتب الثقافة والاعلام القومي
11/3/2022