التَغْيِير الدِيمُوغْرافِي في العِرَاق،
خَطَر مُرَكَّب التَداعِيات
الحلقة الأولى*
د. قحطان الخفاجي
الديموغرافية، هي علم السكان أو الدراسات السكانية. وهي فرع من علم الاجتماع والجغرافية البشرية، يقوم على دراسة علمية لخصائص السكان المتمثلة في الحجم والتوزيع والكثافة والتركيب والأعراق.
والتغيير الديموغرافي demographic change، هو حالة من التدخل المُغرِض في واقع طبيعة التركيبة السكانية القائمة لمنطقةٍ ما، من حيث العرق أو الجنس أو الطبيعة الإثنية. وهو ما ترتب عليه من ظلم وإجحاف بحق السكان المدنيين لصالحِ آخرين دون وجه حق. وهذا ما يرفضه المجتمع الدولي. فتهجير سكان مناطق معينة قسراً، لأي سببٍ وإحلال آخرين بدلاً عنهم، يُعدُّ جريمة ضد الإنسانية وفق المادة (7/1/د) وجريمة حرب وفق المادة (8/2/أ/7) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدّولية، التي تضمنت أن إبعاد السّكان أو النقل القسري لهم، إذا ارتُكِب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجَّه ضد أي مجموعة من السُّكان المدنيين، يشكّل جريمة ضد الإنسانية.
وقد يكون التهجير القسري، نتيجة لظروفٍ غير طبيعية كالنزاعات الدولية المسلحة والنزاعات الداخلية المسلحة، أو يكون تدبير ضروري لتفادي مخاطر محدقة تهدِّد سكان منطقة وأمنهم. وهذا لم يغفل عنه التشريع الدولي، فبينه بالمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والتي حظرت النقل القسري الجماعي والفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من مناطق سكناهم إلى أراض أخرى، إلّا أن يكون هذا في صالحهم، بهدف تجنيبهم مخاطر النزاعات المسلحة.
ومن هذه المادة، يمكن القول إن الفرق بين التهجير القَسْري أو ذلك الذي يُعرَف بالنزوحِ الإجباري، وهو الخروج الإجباري الذاتي والطوعي، لوجودِ حرب أو خطر محدق فعلاً، وبين ذات التهجير أو النزوح بوجودِ ظروفٍ مُختلَقةٍ، أو مفروضةٍ بقصدٍ محدد، هو:
- وجود خطر فعلي يستشعر به السكان الأصليين، يجبرهم على النزوح أو التهجير.
- تؤمَّن للنازحين أماكن بديلةٍ بمستلزماتٍ حياةٍ مقبولة.
- قصر المدة الفعلية للتهجير أو النزوح، مع إجراءات عملية لتجاوزِ الحالةَ الطارئة.
- عدم استبدال السكان الأصليين بآخرين، مهما كانت الحجة والغاية.
- الحفاظ على خصوصيات المنطقة وطبيعة الحياة فيها.
بخلاف ذلك فإنه يُعَدّ مخالفة أساسية وبَشِعة للتَشريع الدولي. وإذا استعرضنا تاريخ ذلك نجد انه لم يكن التهجير القسري ناصِعُ المقاصِد، وأن كان لتفادي خطر ما. وكذلك ينطبق الشيء نفسه على النزوح الإجباري الذاتي، حتى لو استشعر السكان بضرورته. بل قد يكون ذلك سبباً جوهرياً لحالة عدم الاستقرار واضطراب الأمن، وإذا ما استمرّ وتمادى فإنه يؤدي الى تغيير في جوهر التركيبة السكانية للعراق لخدمة اغراض سياسية محلية او اقليمية لا تُحمَد عقباها لأنها تهدد الأمن الوطني والإقليمي والقومي بالصميم.
وهذه الحالة تنطبق على حالاتٍ عدة في العراق، في مقدمتها، تهجير أهالي منطقتي جرف الصخر عند مدخل محافظة بابل، وعزيز بلد، عند مدخل قضاء بلد في محافظة صلاح الدين، فضلاً عن حالات أخرى في محافطة ديالى والانبار، وشمال بغداد عند مناطق الطارمية والمناطق المحيطة بها وفي مناطق أخرى من العراق. ومما يدل على ذلك هو ما يلي:
1- تعظيم مُتَعَمّد للخطر في هذه المناطق وإظهاره أكبر بكثير مما هو موجود فعلاً.
2- لم تؤمَّن للمهجرين أبسط الظروف الحياتية، بل العكس تماماً، إذ تمت وتتم الإساءة لهم عمداً.
3- إطالة مدة التهجير لدواعٍ غير منطقية ولا واقعية، فقد انتهت مخاطر داعش وغيره منذ سنوات، ولم يعد فيها ما يُعَكِّر الحياة، ومع هذا لم يُسمَح للأهالي بالعودة الى منازلهم.
4- تم التدخل المُغرِض بطبيعة مناطق المهاجرين، تدخلاً، ذا طابع طائفي، سواء بإطلاق تسميات جديدة، أو انشاء مظاهر تدل على إشاعة ممارسات عقائدية ضيقة. والأمور تتعقد يوماً بعد آخر لزيادة هذه الممارسات من جهة، ولعدم تدخل الحكومة لوضع حد للممارسات غير القانونية أو الحد من المتطرف فيها، من جهة أخرى. الأمر الذي يسمح بالاعتقاد، أن هذه الإجراءات او التغيرات وكأنها تتم بعلم الحكومة، أو بتهاون منها، والتهاون هنا يماثل العلم بالشيء.
ومن هذه الحقائق، يمكن القول، أن الذي حصل في العراق عموماً، وفي هذه المناطق خصوصاً، هو عمليات تهجير سكاني قسري، حيث تم استغلال بعض حالات انعدام الأمن أو حالات وجود خطر فعلي. وهذه العمليات في التهجير القسري هي عمليات يدينها القانون الدولي. والخطورة لا تكمن في ذلك وحسب، بل لأن لها تداعيات سياسية ومجتمعية كبيرة، فهي تعزز حالات عدم الاستقرار، ما دامت حالة التهجير القسري قائمة. وذلك للأسباب والاحتمالات التالية:
1- بقاء الرغبة للعودة متَّقِدة في نفوس المهجَّرين، والتي قد تتحول لموقفٍ سلبي من الدولة بشكلٍ عام، أو من الجهاتِ التي قامت بعمليات التهجير، وهذا الشعور يتَّسِع ويتعمق وفق معادلة رياضية، إذا ما تراجعت اسباب التهجير القسري في الوقت الذي يستمر فيه التهجير على حاله.
2- تنامي روح الكراهية والحقد عند المهجَّرين، حيال من حلّ محلهم إن كان جزء من الجهات التي هجَّرَتهم أو لا.
3- هذا الجو العام يُنعش تحرك الجهات الضالّة المُضَلِّلة من أعداء العراق من كل الأطراف، فيمنحهم مجالاً لاستغلال الوضع المأساوي للمهجَّرين بما يخدم اهداف هؤلاء الأعداء ويعزز موقفهم.
4- إطالة مدة التهجير القسري، مع التدخل المغرض لجماعاتٍ طائفية، في المناطق التي هجرتْ أهاليها، يزعزع ثقة الشعب عموماً بأي أمل بالمستقبل، وليس ثقة المهجرين قسراً فقط. ويزرع قناعات عندهم وعند الشعب، بانحياز الدولة لجهةٍ أو طائفة على حساب أخرى، وهكذا قناعات تمزق وحدة الشعب وذلك له تبعات كارثية على وحدة العراق ومستقبل اجياله.
5- الشعور بالانحيازية والاجحاف لصالح طائفة أو جهةٍ محددةٍ من الشعب، يدفع الجهات المتضررة منه، للبحث عن عونٍ للتخلص من هذا الوضع المأساوي للمهجرين خاصة في ظل غياب اية آفاق مستقبلية لهم، مما يسهل حصول تدخلات خارجية تزيد بلدنا تفريقاً وتعرض وحدته للخطر.
6- إطالة مدة التهجير القسري المغرِض مع انتفاء أسبابه، لا يزيد بمعاناة المهجرين، ولا يفسح المجال لتطرفِ البعض، فحسب، بل يزيدِ من تمادى المستفيدين على حساب تهجير الأهالي، وابعادهم عن مناطقهم، إذ سيعزز هؤلاء فوائدهم ومصالحهم، حتى تكون عملية التخلي عنها بعد كثرتها أمراً ليس سهلاً، بل يعتبره المستفيدون اجحافاً بحقهم.
7- ولأن المستفيدين يملكون قدرات عسكرية ذاتية، أو قدرات أخرى، فسيتَّجِه هؤلاء للتعرض للأبرياء المظلومين من المُهَجّرين، او لمقاتلة الدولة، إذا ما أرادت يوماً إنصاف المهجرين.
إن كل ذلك يُثقِل كاهل الدول التي يحدث فيها عموماً، ويعدِّد خُصومها. والأمر يتعقد أكثر على العراق إذا كانت هذه الجهات المستفيدة على حساب المهجرين، لها غايات طائفية، وتتمتع بعلاقات خارجية وترتيبات ومشاريع مستقبلية، ولا تؤمن إلا بإثارة النعرات والخلافات بين الشعب وتعتمدها كاستراتيجيات لتحقيق أهدافها، وهذا الأمر موجود في العراق بعد عام 2003.
ومن هذه الحقائق، يمكن القول، إن التغيير الديموغرافي في العراق، هو خطر مركَّب التداعيات على العراق ووحدة شعبه وسلامة أراضيه.
_______________
سلسلة مقالات لمجموعة من الكتّاب*
مكتب الثقافة والإعلام القومي
13-3-2022