في ذكرى القائد المؤسس
المقاربة بين الفكر القومي وحاجات المجتمعين العربي والإنساني
حسن خليل غريب
الفكر الجديد يشق الطريق لمسارات التغيير في واقع المجتمعات، ولا فكراً جديداً إذا استسلمت قواعده لمسارات الأفكار السابقة، خاصة تلك التي كانت السبب في تخلف تلك المجتمعات. ولأن بعض عناصر ثقافة المجتمعات المتخلفة مبنية على أفكار تقليدية تشكل سبباً رئيسياً في تخلفها، وجمود حركتها، لا يمكن السير على دروب تغييرها سوى بالانقلاب على تلك العناصر التي كانت سائدة. ومن هنا نستند إلى المقولة التالية: (قل لي كيف تفكر أقل لك من أنت).
غالباً ما تتشكَّل الثقافات الشعبية على مقاييس مصالح النخب الحاكمة، وليس للتعبير عن مصالح الجماهير الشعبية الواسعة. ولم يشذ المجتمع العربي عن تلك القاعدة. وتلك كانت باكورة المظاهر التي لفتت إليها أنظار أوائل المفكرين القوميين العرب الذين وسموا الظاهرة الفكرية التي سبقت فكر القائد المؤسس.
لقد عانى المجتمع العربي، طوال مسيرة تاريخية عبر القرون الاخيرة و حتى الآن من عقبات أساسية ، حاول المفكرون العرب الأوائل أن يؤسسوا قواعد فكرية لتذليلها. و بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تحول دون
حصول العرب على حقوقهم بالتمايز في شخصيتهم القومية فقد طفت على السطح مخططات التفتيت وإرغام العرب على البقاء في دوائر التخلف والتبعية، ولكن هذه المرة لدول الغرب الاستعماري والحركة الصهيونية الوليدة في الجيل الأخير من القرن التاسع عشر.
ولقد سجَّل النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والربع الأول من القرن العشرين، نقطة الانطلاقة الأولى في مسيرة الفكر القومي العربي. وركَّز المفكرون في تلك البداية على مسألتين أساسيتين وهما: بناء الشخصية العربية أولاً، والدعوة إلى بناء الدولة المدنية ثانياً. وحصرت البداية الأولى اهتمامها بالجانب النظري من دون الاهتمام بجوانب تنفيذها العملي.
لقد حفرت الكتابات الأولى للرواد القوميين العرب في عقول المفكرين الذين واكبوهم، آثاراً بارزة من مظاهر الاهتمام والعناية بالدرس والتمحيص؛ وبحركة تجديدية أخذوا منها وأضافوا إليها. وكانت أبرز معالمها الحركة التجديدية التي بناها مؤسس البعث لبنة لبنة منذ العام 1933، أنتجت لاحقاً، في العام 1947، حزباً عقائدياً سياسياً اجتماعياً، أساسه التحرر من عوامل الإعاقة الخارجية الطامعة باستغلال الأمة وموارد الوطن العربي من جهة، وترتبط من جهة أخرى بحركة جدلية مع أسس معركة التحرر من الثقافات المتخلفة التي كانت سائدة طوال مئات السنين، والتي كانت تعمل على تدجين أوسع الشرائح الشعبية في مفاهيم تصب في مصلحة الشرائح السياسية الحاكمة.
بتأسيسه لحزب سياسي ثوري، مع مجموعة من النخب العربية، أطلقوا عليه اسم البعث العربي بداية، وحزب البعث العربي الاشتراكي لاحقاً، يكون مؤسس البعث قد أحدث ثورة في المسار القومي العربي، وبها انتقلت الحركة الفكرية القومية العربية من النظرية إلى التطبيق. ومعها نزل الفكر القومي العربي بأهداف الأمة من برجه النظري إلى ميادين التطبيق العملي.
ولكي لا تتصف هذه النتائج بالنرجسية التي عادة ما تطبع خطاب الغالبية من الأحزاب، نقول بأن حزب البعث لا يزال يمثل التجربة الأكثر نضجاً في حياة الأمة العربية الحديثة والمعاصرة. ومن أجل ذلك سنسوق بعض الأدلة والبراهين التي تؤكد ذلك.
لكي لا يبقى الفكر القومي خالِ من مضامينه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فقد رسم دستور الحزب، الذي أقرَّه في مؤتمره التأسيسي الأول في العام 1947، خارطة طريق واضحة، تؤكد على الترابط الوثيق بين تحرير الأمة العربية من الاستعمار والصهيونية، وتحرير الإنسان العربي من الأثقال السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تعيق مسارات تقدمها.
وبمثل هذا الترابط أنقذ فكر البعث الفكر القومي من الوقوع في أفخاخ التعصب القومية الشوفينية، وانتقل به إلى رحاب الفكر الإنساني الذي يُعنى بحاجات الإنسان العربي، من دون تمييز بين عرق أو عرق، أو بين لون ولون، أو بين دين ودين، أو بين طائفة وطائفة، ولكن ما اعتبره مبدأ مقدساً هو حرية الاعتقاد الديني، وحرية الرأي والقول. وأضاف إلى ذلك مبدأ انفتاح الفكر القومي العربي وشرَّع أبوابه أمام التبادل المعرفي وتبادل المصالح بين شعوب الكرة الأرضية.
وإذ ارتقى الفكر القومي العربي الموحِّد فوق الفوارق الدينية والطائفية والعرقية، فإنه دعا لتأسيس الدولة المدنية العابرة لكل تلك الحواجز. وفي مقابل ذلك، فقد حثَّ جميع مكونات المجتمع العربي، العرقية والدينية، لاعتبار المصلحة القومية فوق كل اعتبار، كما اعتبر الدفاع عنها واجب كل ابناء الامة من دون استثناء.
وإذ يُطلق مكتب الثقافة والاعلام القومي موقعه الألكتروني وذلك احياءاً لذكرى الاستاذ ميشيل عفلق، مؤسس البعث، فإنما فيه تكريم شخصي له ولدوره الرائد وايماناً بالمبادئ التي دعى لها. وفيه تكريم للبعثيين الذين انتموا إلى هذا الفكر،
واعتبروه دستورهم الدائم. كما فيه تكريم وإحياء لشعور القوميين العرب من أجل الدفاع عن هذه الأمة التي نالها ما نالها من مصاعب ومؤامرات عملت على اجتثاثها ومسح وجودها عن خارطة العالم المعروف في هذه اللحظات.
في الأول من أيار من العام 2003، العام الأكثر سواداً الذي طبع تاريخ أمتنا العربية، عندما احتل التحالف الأميركي – الصهيوني، بتواطؤ إيراني، أرض العراق، أصدر بول بريمر، أول حاكم عسكري للعراق، قراره الرقم واحد، والمعنون (إجتثاث فلسفة البعث). والذي يدل عنوانه على أن الهدف منه، اجتثاث كل من يؤمن بأهدافه في الوحدة والحرية والاشتراكية، وهو بذلك لا يطول البعثيين لوحدهم، بل المقصود منه كل من يؤمن بأهداف أمتنا العربية ويعمل من اجل توحدها وتحررها وتحقيق العدالة الاجتماعية فيها.
ولأن اجتثاث فكر الأمة العربية هو اجتثاث لكل أهداف وحدتها وتحررها، نعتبر في هذه المناسبة، أن الدفاع عن الفكر هو هدف رئيسي من أهداف البعثيين بشكل خاص وابناء الامة بشكل عام. ومن هذا المنطلق كانت الغاية من إطلاق هذا الموقع، وذلك من أجل الدفاع بالكلمة والرأي العلمي عن الفكر القومي الوحدوي التحرري، وتعميقه بالشكل الذي يتناسب مع متغيرات العصر.
ولأن مؤسس البعث، دعى الى ما مفاده: نحن نشق الطريق وعلى الأجيال القادمة تقع مسؤولية التتمة. ولأن الفكر الحيّ هو حالة عقلية تتجدد وتتطور بتجدد التطورات والمتغيرات، ولكي لا يقع فكر البعث في متاهات التجميد، ونرجسيات التمجيد، فإن من مهمات هذا الموقع هي تعميق الفكر القومي الوحدوي التحرري والدفاع عنه وتحصينه في مواجهة كل العوائق التي يمكن أن تُنصب في طريقه ، وأن يشكل القاعدة الأمامية أمام البعثيين خاصة والمفكرين والمثقفين القوميين عامة لإبقاء شعلة جوانبه الإنسانية العامة ، متقدة ومضيئة من أجل خير البشرية جمعاء.