في ذكرى رحيل القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق
البَعث… عزيمة مناضل وأصالة تراث وقيَم
د.محمد رحيم آل ياسين
في هذه الأيام نستذكر بكل الفخر والاعتزاز، الرفيق القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق، الذي رحل عنَّا الى جوار ربِّه تعالى، وهو محمَّل بعبقٍ من أفكار وقيَم خوالد، ساهمت وتساهم في تعزيز قوة الايمان بالله تعالى، واستلهام تلك القيم ، وبالأمة العربية، كأمة عريقة حيَّة.
لقد عمل القائد المؤسس في عمقه الانساني، كمفكر عربي أصيل وكفء، فصاغ نظرية علمية عربية قومية تقوم على استلهام روح الايمان والدين، متخذاً من منهج الرسول محمد صل الله عليه وسلم القدوة والنموذج حين قال عنه (كان محمدٌ كل العرب، فليكن كل العرب اليوم محمداً). لقد صاغ فكراً يقوم على بعد تاريخي عميق يمتد الى آلاف السنين، ممزوجاً بروحية الإيمان، ومؤطَّرا بالحضارة الانسانية في عصرها الحديث. وهكذا اجتمعت في فكر القائد المؤسس ثلاثة أبعاد أساسية، تشكل في مجموعها مثلثاً بأضلاعٍ ثلاثة وهي: التراث العربي، وروح الدين، والحضارة المعاصرة، بمعنى الحداثة.
من هنا فإنَّنا لا نغالي بقولنا: انَّ عمر المؤسس قد تجاوز آلاف السنين! ذلك لأنَّه كان يغوص في أعماق الماضي التليد، والتراث المجيد للأمة، منذ أنْ كانت بداياتها، ومرحلة سطوع حضارتها على الدنيا كلها، وكأنَّه رحمه الله يحمل في ذاته وشخصه مكنونات هذه الأمة مُذ كانت منارة للهدى، اختارها الله تعالى أن تكون أمة الهداية.
هكذا كان مشروع القائد المؤسس القومي والانساني والحضاري، الذي اكتشف كنهه، ووضع موجبات تحقيقه من خلال العمل النضالي والثوري. وهو مشروعه العربي القومي النبيل الذي يعتمد الجماهير العربية في أولويات تحقيقه، من خلال بلورة الهوية القومية، ومزجها بعمق في علمية رصينة، لإغناء هذه التجربة، بالعلم والتحضر ومتطلبات العصر.
نقول، لقد تميَّز القائد المؤسس بصوتٍ متأنٍ هاديءٍ، وبتفكير عميق ورصين، وبفعل وجهد عزوم، وبوعي كامل بحجم مسؤوليته التي يجدها قد أُلقِيَت على عاتقه، وأنَّه أمام اختبار تاريخي حاسم، في أنْ يكتشف الحلّ الشامل لقضايا الأمة ومشاكلها، ويضع تصوره الدقيق لأفق هذا الحل، والوسائل المطلوبة لبلوغ الأهداف التي تتوق لها الجماهير العربية على أمتداد أرض العروبة.
كان المؤسس يؤمن أنَّ العرب لا بد لهم من الثورة، على أنفسهم أولاً، لمغادرة الضعف والتخلف والجهل، وعلى الأوضاع السائدة من استعمار أجنبي غاشم، وتبعية مُخلَّة لهذا الأجنبي. من هنا فقد ربط القائد رحمه الله بين رسالة الأمة الخالدة والثورة، ففكرة الرسالة مستمدة من التراث العربي الأصيل، الذي امتزج بالشخصية العربية المُثلى. لذلك وجد أنَّ التغيير الشامل لن يكون إلَّا بالثورة على الأوضاع القائمة، وتالياً فهذه الثورة العربية لا بد أنْ تستلهم التراث، وروح الرسالة العربية الخالدة. فارتباط الثورة بالرسالة هو المحرِّك للجماهير العربية، وهو الذي يوحدها لتحقيق أهداف الأمة في وحدتها وحريتها واشتراكيتها. كان القائد المؤسس يضع توازناً متيناً ورصيناً، بين شخصية الأمة القومية، وهويتها الحضارية، وتراثها الثقافي، ومشكلاتها الاجتماعية.
من هنا فقد اكتشف المؤسس تلك الهوَّة العميقة بين الأمة وماضيها الزاخر بالمجد والبطولات والمفاخر، وحاضرها المتردي بالقياس الى ذاك الماضي البهيّ، وبالقياس أيضاً للبَون الشاسع بينها وبين حاضر الأمم المتقدمة اليوم. وهكذا كانت وقفة القائد المؤسس بين تحدي(التراث) وتحدي(المعاصرة)…
فكان أنْ توصَّل الى الجمع بينهما في بوتقة جديدة، ومزج جديد بين الأصالة وروح العصر والتجديد. في تفاعل عميق وحيّ مع الحاضر. نجم عن هذا الفكر الرصين، شخصية حضارية متجددة للأمة العربية، تقف على أساسات صلبة، هي التاريخ، والتراث، والايمان وقيمه الانسانية السمحة، وروح العصر. وبذلك تشكَّلت فكرة(البعث) في عقل المؤسس رحمه الله، وتحولت الى نظرية عربية قومية وانسانية، والى واقع عملي وتطبيقي، أساسه النضال، وأدواته هي الجماهير العربية، التي تشكِّل في آنٍ واحد الوسيلة والغاية في هذا الفكر العظيم.
لقد شكَّل التراث في فكر القائد المؤسس، مكوناً أساسياً ومهماً للشخصية القومية لأمة العرب، لأنَّه يمثل عمق الأمة، وأصالتها، بينما كانت الأفكار والاتجاهات السائدة في مرحلة تأسيس البعث، تقوم على موقفين؛ موقف رافض للتراث، على اعتباره ماضياً يجب مغادرته، حتى يبدأ الشروع بالتغيير!. وموقف آخر يقوم على تقديس هذا التراث، وعدم اصلاح أو تغيير مما علق فيه خلال السنين المظلمة من عمر الأمة. غير أنَّ القائد المؤسس رحمه الله، استطاع أنْ يكوِّن موقفاً جديداً متميِّزاً من التراث، لا يتفق مع الرفض، ولا يميل الى التقديس. فانتهج اسلوباً جديداً يقوم على المنهج العلمي التاريخي،
من هنا جاء البعث حامياً لقيم وجوهر التراث في أصالته وروحه، دون شكله وظواهره، واعتبره هو المكوِّن الرئيسي لفكر البعث، وجوهر عملية الثورة على الوضع القائم والفاسد باتجاه بناء حاضر الأمة المزدهر ومستقبلها الواعد.
وفي الختام نقول، انَّ فكر القائد المؤسس هو معين ونبع جارٍ لا ينضب، يُشعرنا دائماً بقدرنا ومسؤوليتنا في تحمل أعباء المسيرة النضالية في سبيل تحقيق أهداف الأمة الكبرى ورسالتها الخالدة.
لقد قدَّم الرفيق القائد المؤسس بكل كرم وسخاء، خلاصة حياته وعصارة فكره الخلَّاق، ووجدانه النبيل، وذروة خُلُقه الكريم من أجل أمته العربية، وأبناء العروبة أينما كانوا… وها هي الايام تثبت ان لا طريق امام الامة العربية لتحقيق نهضتها وانتصارها على هجمات الاعداء التي تستهدفها من كل حدب وصوب الا بتحقيق تلك المبادئ، في الانقلاب الذاتي على الفساد والتخلف ، والتوحد والتحرر والتوزيع العادل للثروة .
لذا ستبقى تلك الاهداف والمبادئ التي نادى بها منارات تضئ طريق الاجيال في نضالها لتحقيق نهضة الامة مهما اشتدت الصعوبات وعظمت التحديات.