القائد المؤسس واللحظة التاريخية
د ـ فالح حسن شمخي
يقال ان الفنان فان كوخ استوقف اللحظة التاريخية لكدح الفلاحين ورسم { زهرة عباد الشمس} التي ترمز الى جهدهم المضني ، تلك اللوحة التي اصبح يُشتَرى بثمنها اليوم مئات الدونمات من حقول عباد الشمس ، وكذلك فعل فرويد مؤسس مدرسة {التحليل النفسي} ، ودارون في نظريته {اصل الانواع} ، وكارل ماركس بنظريته الاقتصادية {رأس المال} ، ولينين وماو تسي تونغ في قيادتهم للثورات الشعبية.
شاب عربي سوري ، يستوعب اللحظة التاريخية التي تمر بها الامة بعد دراسة وافية ومستفيظة للواقع العربي والقوانين التي تحرك ذلك الواقع في الثلاثينيات من القرن الماضي وفي استقراء علمي وتحليل دقيق للمقدمات التي قادته الى نتائج تصل حد الاستنباط ، تمخض عنها دعوته لفكر {قومي اشتراكي} وقوانين بديلة لذلك الواقع ، فكان شعار {أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة } ، واهداف استراتيجية في { الوحدة والحرية والاشتراكية }.
ولم يكن من السهل على العرب ان يتعاملوا مع هذا الفكر اوالمفكر الشاب الذي عمل على تحدي كل ماهو قديم وبالي من الافكار ، فتحدى الافكار المستوردة التي لاصلة لها بالواقع العربي ، وتحدى اسباب التخلف المحلية ولخصها في الفقر والمرض والجهل، ذلك الثالوث الذي تسبب فيه الاستعمار والقوى التي تناصب الامة العربية العداء .
استمرت رحلته في نشر الافكار الجديدة عبر المقالات والندوات والمحاضرات ، الى ان تبلور كل شيء عام 1947م حيث عقد المؤتمر التأسيسي لحركة البعث في مقهى الرشيد الصيفي في دمشق ، و انتشر الفكر الجديد الذي ولد من رحم الامة العربية ومعاناتها بزمن قياسي في اوساط الشباب والمثقفين والعمال والفلاحين ثم اصبح قوة سياسية مؤثرة فكانت من ثماره الجمهورية العربية المتحدة ابان الاعلان عن الوحدة بين مصر وسوريا، وكان من ثمار هذا الفكر ثورتين شبابيتين في سوريا والعراق وتوحيد القوات المسلحة السورية العراقية تحت قيادة واحدة عام 1963 .
وكان موقف حزب البعث العربي الاشتراكي من الدين موقفاً جديداً واصيلاً وقد عبر عنه القائد المؤسس في اكثر من مناسبة ، وبامكان اي منصف العودة اليها لمعرفة موقف الحزب وقيادته من الدين والدور الثوري الهائل الذي اعطاه للقيم الايمانية وربطها بنضال الامة وتحقيق انقلابية الفرد على كل عناصرالتخلف . فالبعث ليس حزباً دينياً لكنه حزب أمن بروح ورسالة الاسلام الثورية التي نجمت عنها حضارة انسانية حملها العرب الى امم الارض وشعوبها . وكان القائد المؤسس مؤمن بقادة الاسلام الاوائل رضى الله عنهم اجمعين الذين نفذوا تلك الثورة واسسوا لتلك الحضارة فدعى الى استلهامها و انبعاثها من جديد في العصر الحديث . ولان هذا الانبعاث يسعى لتوحيد الامة لذا فهو يتناقض مع الاسس الطائفية التي يتبناها الاسلام السياسي في ارضنا العربية هذه الايام، وكما افرزته التجربة العراقية بعد الاحتلال، فحزب البعث هو جامع وليس مفرق لامة العرب كما هو حال الاحزاب الدينية الطائفية. لذا فان البعث وقادته يواجهون اليوم هجمة شرسة من قوى عالمية استعمارية تريد اجتثاث الفكر
العروبي من جهة، وقوى اقليمية طائفية تهدف الى الهيمنة على مقدرات الامة وقوى شعوبية وغير شعوبية ،ضلامية متحجرة ، حملت وتحمل حقداً دفينناً على البعث ومؤسسه وعلى قادة البعث من جهة اخرى وكلها تسعى الى التشكيك في موقف البعث والقائد المؤسس في الربط بين العروبة والايمان وجوهر الدين، وكأن تلك الفئات تمتلك حق احتكار التعبير عن جوهر الدين والايمان وعلاقته بحياة الامة ونضالها نحو وحدتها وتحررها.
لقد اكدت المبادئ التي نادى بها القائد المؤسس انقلابيته و تفتح عقله وروحه لكل ماهو عظيم ،و تؤكد ربطه بين القول والعمل ، وتؤكد تأثره بسيرة الرسول الاعظم صلوات الله عليه تأثراً حقيقياً لاغبار عليه ، وقد عبر عن ذلك في مقالته : (ذكرى الرسول العربي) المقالة التي كتبها في الاربعينيات ، ويؤكد تأثره بسيرة القادة العرب الاوائل رضوان الله عليهم اجمعين واعتمادهم كقدوات وملهمين له ولابناء الامة في عصرها الحديث .
ان القائد المؤسس هو مفكر وفيلسوف وعبقري اعطى لامته وشعبه العربي ماهو خالد وباقي مع بقاء العرب. ولسوف يذكره التاريخ طويلا ، فافكار القائد المؤسس وبعد اكثر من ثمانين عام مازالت الاكثر قدرة على معالجة مشاكل امتنا الراهنة في كافة اقطارها الى يومنا هذا .
يقال ان امتنا لاتكرم قادتها ومفكريها الا بعد موتهم ، الا ان القائد المؤسس كسر هذا القول وتلك القاعدة ، فقد عاش حياة حافلة بالنضال وحظى بتكريم اعضاء الحزب الذي اسسه وجماهير الامة العربية طوال عمره وسوف يتواصل تكريمه بعد موته ما بقيت هذه الامة .
كان الرفيق القائد المؤسس الذي عرفناه عبرمسيرته النضالية الطويلة ، رجل افعال لا اقوال ، رجل نبيل وسامي ، رجل تحدى الظروف الصعبة التي واجهته ، رجل لم يركع ويهادن ويساوم او يزايد وكان بذلك قدوة لرفاقه ، فجسد بالعطاء والابداع والايمان بمقدارات الامة ، كل صفات القائد الميداني وهذا يكفي البعث واعضاءه وجود سيرته بينهم لتشكل نبراساً ينير لهم الطريق.