في الذكرى الثانية والثلاثين
لمؤسس البعث وقائده الثائر
الدكتور محمد مراد
تتسم رؤية ميشيل عفلق التحليلية التطورية التاريخية لمسارية الفكر القومي العربي بخصوصية استثنائية في المتابعة العميقة لحراكه في الزمن الماضي من ناحية ، وفي صياغة الاستنتاجات بدالّاتها الحاكمة لمعالجة قضايا الأمّة وإعادة التوازن إلى دورها كأمّة ذات وظيفة إنسانية استثنائية ، وصولا الى بناء نظرية قومية قادرة على استشراف مستقبل الأمة وبناء تجربتها المنتظرة في قيام وحدتها وتحررها وعدالتها الاجتماعية الداخلية من ناحية ثانية.
يتابع ميشيل عفلق بمنهجية بحثية تفصيلية المسار التاريخي للفكر القومي الذي بدأت تمظهراته الفكرية تتجلى في مقولات تراكمية لعدد من الروّاد الأوائل في مصر وفرنسا وفي الداخل العربي العثماني ، مقولات تلاحقت على امتداد القرن التاسع عشر ، وكانت بمعظمها عبارة عن محاولات لإبراز خصوصيات تشكّل الأمّة العربية في وجودها وتاريخها عن الحالة العثمانية كرابطة جامعة بين مجموعة قوميات وأعراق وملل دينية بتلوينات متنوّعة.
مع اندفاع الرأسماليات الأوروبية تحت ضغط المشاريع الاستعمارية للسيطرة على إرث السلطنة العثمانية بعد هزيمة الأخيرة في نهاية الحرب العالمية
الأولى، جاءت التوافقات الاستعمارية لتنتج خرائط جديدة لجغرافيات سياسية عبر ظهور سلسلة من الدول القطرية المتغايرة من حيث أنماط النظم الحاكمة وتشكّلات السلطة والإقتصاد والاجتماع ووظيفة الدولة الحديثة وبقائها تابعة في علاقاتها الخارجية لدوائر الدول الأجنبية.. في هذه المرحلة شهد الفكر القومي قفزات فكرية ارتقائية في محاولة لمجابهة التحدّيات الجديدة ، لكنّه ، مع كل الجديد الحاصل ، لم يستطع القفز فوق طموحات النخب السياسية في الوصول إلى سدّة السلطة ، وفي طرح مشاريع وحدوية لم تستطع الخروج عن كونها ردّة فعل على التجزئة القائمة من جهة، ولم تتحوّل إلى مادة ثقافية شعبية كافية لتوسيع دائرة الوعي الجماهيري بقضايا الأمة المصيرية ومستقبلها من جهة أخرى.
مع مطالع الثلاثينيات من القرن المنصرم ( القرن العشرين) ، ومع تصاعد الخطوات التنفيذية للمشروع الصهيوني المدعوم استعمارياً لاغتصاب فلسطين وتحويلها إلى حاجزٍ فاصل بين شطري الأمة في المشرق والمغرب ، ومع ظهور الاستراتيجيات الاستعمارية في تغييب هوية الأمةالعربية وتفريغها من دورها الحضاري الذي سجّل سبقاً على العالم في العلوم والثقافة والعمران وتصدير تجربة الإسلام العربي كرسالة لأنسنة العلاقات البشرية ، مع هذه التحدّيات كان ميشيل عفلق يغوص عمودياً في تاريخ الأمة باتجاهين :
- الأول ، باتجاه الماضي مستلهماً خصوصية الدور الحضاري للأمة .
- والثاني، استشرافي باتجاه المستقبل .
وقد ربط عفلق بقوّة بين العوامل الحاملة لفاعليات الأمة وقدراتها على الإنتاج والتطور والحضور الوازن والمؤثر في النهوض الإنساني للعالم ، وبذل جهودا غير عادية من أجل صياغة فلسفة قومية عربية مستمدّة من
الحراك التاريخي وتجلياته المضيئة في عطاءات الأمة من خلال تجارب نهضوية حضارية دامغة وبيانية.
لقد أدرك أن قوّة الأمة في وحدتها الجغرافية الجامعة كموقعية جيوسياسية تنفرد بها عن سائر العالم ، وعامل القوّة الثاني المتلازم والمرتبط تكامليا وتفاعليا مع الأول ، هو التحرر من الاستعمار وأطماعه في السيطرة ، ومشاريعه في الالغاء لدور الأمة العربية وتغييبها وصولاً إلى محوها كوجود تاريخي سابق على كل أمم العالم.
أما عامل القوّة الثالث المتكامل مع الأثنين فهو التحرر الاجتماعي أي التحرر من الداخل عبر علاقات توزيع عادلة بين القوى المنتجة وأصحاب الإنتاج، الأمر الذي يسهم في تطوير وتعزيز القوى العاملة التي تبقى أحد أبرز الشروط للتقدّم للدولة القومية أي الدولة – الأمة.
لقد ادخلت النظرية القومية التي صاغها ميشيل عفلق الفكر القومي في مسار زمني في جدلية ذاتية تستمدّ من روح الربط بين مثلث القوّة الحاكم لمسيرة النهوض في الأمة ، الأمر الذي يجعلها في حالة من الانبعاث الدائم وفي التمكّن من تحقيق ذاتها من جهة، والتبشير برسالتها القومية الإنسانية من جهة أخرى.
في ذكراه الثانية والثلاثين ، تحية الفكر المضيء، الفكر الإشعاعي الذي أخرجه وأنتجه مؤسس البعث رائد العروبة المعبّرة عن هوية الأمة العربية على المديات الزمنية ماضياً وحاضراً ومستقبلا، تحية الى حامل رسالة الأمة المفكر ببعثها .. أحمد ميشيل عفلق .