البعث في ظل تحديات المرحلة الراهنة:
التفتيت العرقي والطائفي،والغزو الثقافي،
وتفكيك الدولة الوطنية، وآليات العولمة
كثيرة هي المتغيرات التي حصلت على المستوى الدولي في القرن الحادي والعشرين، والتي انعكست بشكل كبير على أوضاع أقطار الوطن العربي. تلك المتغيرات التي إن لم ندرك خطورتها على الأمة العربية فهي سائرة إلى المزيد من التقهقر ومن أهمها فقدان هويتها،والحاق المزيد من الفناء والدمار. وإذا عرفنا أن المؤامرة سائرة على هذا الطريق فعلينا أن نحصِّن أنفسنا كعرب من أجل منع تمريرها. ففقدان الهوية مثلاً هو فقدان لذاتنا، وفقدان الذات يُشرِّع الأبواب واسعة أمام غزوات الخارج الفكرية والسياسية والاقتصادية لتجعل أمتنا جزءاً من إمبراطوريات القرن الواحد والعشرين التي يتم إنشاؤها من جديد بعد أفول عصر الإمبراطوريات السابقة التي غزت الشعوب في عقر دارها، وجعلت منها رعايا ومطايا وخدم في بلاطات الإمبراطوريات الاستعمارية من جديد.
بعد الحرب العالمية الأولى في العشرية الثانية من القرن العشرين، ظلَّت أحلام القوى الخارجية ظاهرة وجاهزة لإعادة الهيمنة على الوطن العربي بأثواب جديدة وبوسائل جديدة. وتحددت تلك الوسائل من خلال المؤتمر الصهيوني الأول، وما تلاه من مؤتمرات واتفاقيات ومعاهدات كما مرَّ معنا في فصول سابقة من هذه الدراسة. واستناداً إلى ذلك فان الأمة العربية بعد أن وصلت إلى مراحل النضج بوعيها القومي العربي،أصبحت مؤهَّلة أكثر من أي وقت مضى لكي تستنهض نفسها لاستعادة إسهاماتها الحضارية من خلال دروس الماضي وتجاربه، واستخلاص دروس للمواجهة الجديدة التي تخوضها منذ أكثر من قرن من الزمن، والتي تتمثل بوجود تحديات جديدة قسم منها محلية والقسم الآخر يأتي كانعكاس لما يجري من متغيرات على الساحة العالمية برمتها
وسوف نتناول في هذا المجال اربعة محاور وهي:
– المحورالأول : إعادة التذكير بثوابت حزب البعث التي أعلنها منذ ثلاثة أرباع القرن، خاصة أن مؤسسي الحزب قاموا بتحديدها على ضوء حقائق المؤامرة التي صيغت من أجل إعادة الاستيلاء علي الوطن العربي من قبل التحالف الصهيوني –الأميركي .
– المحورالثاني: القيام بتوصيف وسائل الاستعمار الجديدة التي وضعها من أجل إعادة احتواء الوطن العربي والهيمنة عليه.
– المحورالثالث : اهم التحديات الراهنة التي تواجهها الامة
– المحور الرابع : إيجاز استراتيجية البعث في مواجهة تلك التحديات والمتغيرات .
أولاً: ثوابت البعث في مواجهة الاستعمار والصهيونية
منذ ولادة البعث، في العام 1947، وفي مؤتمره القومي الأول، وُضع دستور الحزب الذي حدَّد فيه ثوابته الثلاثة في الوحدة والحرية والاشتراكية. هذه الأهداف وإن كانت تدل على أن مهمات تحقيقها مرهونة بالنضال من داخل المجتمع العربي، إلاَّ أن المبادئ الأساسية في الدستور أشارت إلى مبدأ مكافحة الاستعمار. وهذا يعني أن الحزب في الوقت الذي دعا فيه إلى التغيير من الداخل، فإنه ربط تلك المسؤولية بمهمة مكافحة الاستعمار كعامل خارجي، لأنه أسهم ويسهم وسيسهم في كبح عوامل التغيير، ويحول دون تحقيقها إذا لم تصب في مصلحته.
ومن أجل التغيير من الداخل، أعلن الحزب ثوابته العقائدية في الوحدة والحرية والاشتراكية، وهي الثوابت، التي إذا ما طُبِّقت فستكون رداَ يحول دون تحقيق الاستعمار أهدافه في إبقاء المجتمع العربي جاهلاً ومتخلفاً ومفتتاً. وأهداف الاستعمار هذه وُضعت منذ العام 1905 – 1907،فيمقرراتمؤتمركامبلبانرمان.
والحال كذلك، اعتبر الحزب أن أسس المواجهة تتم بالنضال من أجل التغيير من الداخل ومكافحة المؤامرة القادمة من الخارج، لأنهما وجهان لعملية تغيير واحدة. إذ طالما ظلَّ للاستعمار وجود على أرضنا، وعامل تأثير على تركيب أنظمتنا السياسية، وعلى صياغة أسس ثقافتنا، فسوف يعيق عملية التغيير الداخلي. وطالما تأخر التغيير من الداخل، سواء أكان عائداً لاستفحال الجهل والتخلف، أم كان يعود إلى بقاء عوامل التفتيت، فسوف يبقى للاستعمار أكثر من بوابة ليتدخل في شؤون الوطن العربي الداخلية، ويعمل على إعاقة عملية التغيير الداخلي. ولكل هذه الأسباب ربط الحزب ربطاً جدلياً بين عوائق التغيير من الداخل، وعوامل التأثير من الخارج. ودعا إلى مواجهة الاستعمار ومواجهة عوامل التخلف في الداخل من دون فصل إحداها عن الأخرى. ففي النجاح في عملية التغيير من الداخل، إضعاف لعوامل التأثير من الخارج. والعكس صحيح أيضاً. ولهذا نعتبر أن ما ربطه دستور الحزب بين أهداف الأمة في الوحدة والحرية والاشتراكية وبين مكافحة الاستعمار، سيبقى المكيال الذي نكيل به مدى قرب الأمة العربية من تحقيق أهدافها أو بعدها عنه.
ولأن هذه المعادلة كانت صحيحة في الماضي، وهي صحيحة في المرحلة الراهنة، وستبقى صحيحة في المستقبل إلى أن تستطيع الأمة العربية من تغيير واقع الحال. وإلى ذلك الحين، ولأن أطماع الخارج السياسية والاقتصادية تبقى ثابتاً استراتيجياً، ولأن ترجمتها الميدانية تتغير، نرى أنه لزاماً على العرب بوجه عام، أن لا يطمئنوا إلى ما يظهره الاستعمار من نوايا حسنة في بعض خطاباته المرحلية، بل أن يدرسوا بتمعن وسائله التي يعتقد أنه بها يستطيع تحقيق أهدافه الاستراتيجية.
ثانياً: توصيف وسائل الاستعمار الجديدة
لقد مرَّت وسائل الاستعمار للهيمنة على الوطن العربي بمتغيرات أخذت أشكالاً متعددة وبما يتناسب مع طبيعة المرحلة السياسية، عربياً ودولياً وإقليمياً. وعن ذلك سنرصدآخر التطورات التي ما تزال قيد التشكيل.
فبعد العالم المتعدد الاقطاب الذي شهدته مرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى شهد العالم النوع الثاني وهو صعود القطبيتين الأميركية والسوفياتية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث انتقلت وراثة النفوذ في اقطار الوطن العربي ، من فرنسا وبريطانيا وايطاليا إلى كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. ومع قرب نهاية القرن العشرين ظهرت القطبية الأميركية الواحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وفيها ترأست الولايات المتحدة الأميركية قيادة العالم من دون منافس. ومع انتهاء الحقبة الاولى من القرن الواحد والعشرين نشهد اليومالنوع الرابع وهو قيد التشكيل ويتمثل في اختراق الدور الروسي لنظام القطبية الواحدة وذلك ابتداء من العام 2012، في أحداث ما سُميَّ بـ(الربيع العربي). وعن ذلك، ولما اكتشف النظام الروسي مدى خطورته على أمنه القومي ومصالحه في الوطن العربي، زجَّ كل إمكانياته ومنها التهديد بحرب عالمية ثالثة من أجل حماية ما تبقى له من حصة فيه. وبالفعل استطاع أن يفرض نفسه قوة عالمية من جديد كبديل للاتحاد السوفياتي، وكان مدعوماً من الصين. ولكن هذه المرة دخل النظام الروسي إلى حلبة التنافس من أجل صياغة النظام الدولي الجديد كدولة رأسمالية لا علاقة لها بتُراث الاتحاد السوفياتي الاشتراكي، ذلك التراث الذي استند إلى أحلام الدعوة لبناء إمبراطورية شيوعية هدفها إنهاء التاريخ عند حدود دولة شيوعية مثالية تحكم العالم. وكان هذا الحلم يُعتبر النقيض الأساسي للفكر الرأسمالي، الأميركي منه بشكل خاص، الذي كان يريد إنهاء التاريخ عند حدود الإيديولوجية الرأسمالية.
كماأن هناك نوعاًأخطر من الاستعمار الغربي، وهو الاستعمار الإقليمي الفارسي، والذي يعتمد على تغذية الطائفية من أجل تفتيت الوحدة الوطنية في الأقطار العربية.وهو كما أشرنا سابقاً تحول من خطر من بين أخطار عديدة إلى الخطر الرئيس بعد احتلال العراق.
ثالثاً: أهم التحديات الراهنة التي تواجهها الأمة
- تجدد وسائل الاستعمار الغربي والصهيونية وايران : أهداف ثابتة ووسائل متغيِّرة
عندما فشلت اتفاقية سايكس بيكو في تنفيذ مشروع التقسيم، ولما ورثت الولايات المتحدة الأميركية قيادة المنطقة، وجدت أن التقسيم على الصعيد الجغرافي لم يعد يلبِّي الحاجة، وأما السبب فيعود إلى تأسيس الأحزاب والحركات السياسية، كما إلى ولادة أنظمة تقدمية، تتبنى أهداف الوحدة العربية، والتنمية البشرية والاقتصادية والسياسية. وكان يقف في مقدمة تلك الحركات والأحزاب حزب البعث العربي الاشتراكي .
كل ذلك إلى جانب أن الوضع القومي الجديد في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، رسمياً وشعبياً، حوَّل وظيفة جامعة الدول العربية من هيكل يكرِّس التقسيم، بحيث كان هذا الهدف الذي من أجله سمحت دول الغرب بإنشائها، إلى وظيفة تأسيس بنى سياسية واقتصادية ودفاعية عسكرية. وقد أنتجت مؤسسة القمة العربية، التي قادت العمل العربي المشترك لعقد من الزمن. كل ذلك أخذ يدبُّ مكامن الخوف في أوصال الدول الرأسمالية. ولهذا السبب أخذ الغرب، وفي مقدمته أميركا، يعيد النظر في الوسائل التقليدية لعلَّه في ذلك ينجح فيما فشلت فيه الوسائل السابقة. ومن أجل توضيح دور حزب البعث في إحباط المخططات الجديدة، يمكننا الإطلالة بشكل مكثَّف على أهم الوسائل التي أخذت المؤسسات السياسية والاستخبارية والإعلامية الغربية تضعها منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين.
بداية، لا بُدَّ من الإشارة إلى أن وسائل تصدير الغرب لمخططاته التآمرية إلى الوطن العربي، لم تكن لتشمل استخدام القوة العسكرية بشكل مباشر ضد الأقطار العربية التي كانت أيديولوجيتها تنطلق من أهداف ثورية، وذلك بفعل حالة التوازن النووي بين الغرب بكل دوله، والشرق المتمثل بالاتحاد السوفياتي في حينها. ولكنه كان يتبنى سياسات أخرى مثل سياسة (الحرب بالوكالة ) في زمن الشاه ، وهي خطة أدت الى عرقلة وتأخير أو إفشال حركات التحرر العربية من خلال نظام الشاه ولكن هذه السياسة فشلت لانها كانت تعتمد على النزعة القومية الفارسية وهي نزعة تزيد من حصانة العرب ووحدتهم الوطنية ضد التدخلات الايرانية، فاستبدلت بنظام الملالي لأنه يمتلك أدوات بشرية داخل الأقطار العربية، وهي مجموعات بشرية تدين بالولاء لإيران، لأسباب مغلفة باغلفة دينية مذهبية، وليس لوطنها.
- الإعلام في المنظور الأمبريالي:
يُعتبر الإعلام في استراتيجية الدول الرأسمالية الذراع الأكثر تأثيراً في صياغة الرأي العام، وذلك لسعة انتشاره، ودخوله إلى كل بيت عبر أكثر من وسيلة تأتي كثرة الفضائيات في المقدمة منها لأنها تقع بمتناول كل البشر. ولهذا يفوق تأثيرها تأثير الوسائل الأخرى حيث يتابعها المتعلم والأمي، كما تحمل عوامل التشويق من أخبار وبرامج مخصصة لجذب مئات الملايين من الناس . وتأتي خطورتها من أنها تغزو العقول وتروِّج إلى مفاهيم الرأسمالية بشكل جذاب. هذا ناهيك عن أنها تقوم على تجويف عقول ناقصي الثقافة.
وعن ذلك، لم يكن الإعلام الرأسمالي وليد المرحلة الراهنة، بل وُضعت أسسه منذ اللحظة التي أعلنت البورجوازية الناشئة في أوروبا، في القرن الثامن عشر، إيديولوجيتها الأممية التي تفرض عليها التوسع والسيطرة على دول العالم، للحصول على المواد الخام، وإيجاد الأسواق الاستهلاكية لمنتجاتها الصناعية. حينذاك كانت نقطة البدء في تأسيس معالم الإيديولوجية الأمبريالية.
وخطوة فخطوة، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، تحوَّلت تلك الإيديولوجيا إلى مؤسساتدورها إعداد دراسات فكرية وسياسية واقتصادية تخدم مخططات الشركات الكبرى. ومن أهم مهمات تلك المؤسسات أن تروِّج لأفكار، وترسم سياسات تطال مجتمعات الأسواق الاستهلاكية. والغاية من ذلك أن تمهِّد الطرق أمام انتشار سيطرة رأس المال العالمي.
- الوطن العربي يقع في القلب من الاستراتيجية الإعلامية الرأسمالية:
أما ما طرأ من جديد على الإعلام الرأسمالي، فهو تطوير الوسائل التي بلغت في هذه المرحلة مستوى غير مسبوق. فقد دخل الإعلام إلى كل بيت في العالم كله بشكل عام، وإلى كل بيت في الوطن العربي بشكل خاص. وأما السبب فلأن الوطن العربي له موقع القلب في المخططات الرأسمالية منذ عشرات القرون. وأما استهدافه فقد ظهر أكثر وضوحاً في كل المؤتمرات التي نظمتها الحركة الصهيونية والأمبريالية التي سبقت إسقاط الإمبراطورية العثمانية كما اشرنا سابقاً.
أهداف الإعلام الأمبريالي في الوطن العربي:
يصح إدراج القضايا والأحداث والأفكار، التي يهتم بها الإعلام الصهيوني –الأمبريالي،بـ(الغزوالثقافي). ويصح اعتبار وظائف وسائل الإعلام، على شتى أشكالها وأنواعها واتجاهاتها، أنها تصب في خدمة الأهداف الرأسمالية المرسومة. ويأتي في المقدمة منها والأخطر ما فيها الفضائيات، ثم تفوقت عليها شبكة الانترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي والهواتف النقالة في القدرة على التغلغل في نفوس الناس ، لأنها من بين كل الوسائل تستطيع الدخول إلى كل بيت. ولأنها بمقدورها أن تقوم بعمليات غسل الأدمغة لأوسع شريحة من الرأي العام الشعبي. وأما غسل أدمغة المثقفين غير الملتزمين بقضايا المجتمع، فتأتي من الوسائل الأخرى من صحف مكتوبة وألكترونية، وتقوم مراكز الأبحاث الممولة من قبل الشركات الكبرى، والدول الكبرى، وأجهزة المخابرات بالإشراف عليها، وتحديد مناهجها، وصياغة مضمونها، في الدخول إلى عقول أوسع شريحة من المثقفين.
وقبل أن نبدأ بتحديد أهم الوسائل والأهداف للإعلام الرأسمالي، علينا أن نميِّز بين أهداف الغزو الثقافي الذي تعمل الدول الكبرى على عولمته لأسباب لا علاقة لها بتعميم الفكر الإنساني، وبين أهداف الفكر التنويري الغربي الذي يصبُّ في دائرة عولمة الثقافة وأنسنتها. ولذلك نختصر أهم معالم الغزو الذي تديره مؤسسات الأبحاث التابعة للشركات الكبرى والدول الرأسمالية وأجهزة مخابراتها بما يلي :
- تجهيل الهوية القومية العربية والعمل على إلغائها:
منذ توقيع اتفاقية سايكس –بيكو،كانمنالواضح أن أهدافها تصب في دائرة إبقاء المنطقة العربية مقسَّمة. ولذلك وُضعت خرائط تقسيمها إلى أجزاء جغرافية. وترافق ذلك، بعد إعلان قيام الأنظمة العربية استناداً الى مقاييس تلك الخرائط، مع تأسيس للأحزاب القطرية في شتى أنحاء الوطن العربي. وقد نصَّت دساتير تلك الأحزاب على اعتبار القطر وطناً نهائياً. وفي ذلك ما فيه من تجهيل للهوية القومية العربية.
ولهذا السبب، واستباقاً لمخاطر الدعوات القطرية، فقد جاء تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في العام 1947 بعد تبشير فكري لأكثر من عشر سنين. ومن بعده بدأ انتشار الحركة الناصرية في العام 1952، ردَّاً على الدعوات القطرية، وكذلك ردَّاً على الدعوات الأممية التي كانت الأحزاب الشيوعية العربية، وحركة الإخوان المسلمين، من أهم أدواتها الداخلية. ولقد عبَّر عن ذلك دستور حزب البعث حين اعتبر ان الدعوة القومية هي دعوة مقدَّسة. لقد اثار هذا التحول في الحياة الحزبية العربية مخاوف وقلق التحالف الصهيوني –الأمبريالي. فلذلك كان من أهم أهداف ذلك التحالف هوإسقاط الأنظمة التقدمية، لقطع الطريق على انتشار شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية.
عن ذلك فقد كان من أهم أهداف حرب حزيران في العام 1967، العمل على إسقاط تلك الأنظمة درءًا لمخاطر استمرارها. وقد تحقق أول هدف منها بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر. واستكمل خلفه أنور السادات ذلك بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد من اجل عزل مصر ومنعها من اداء دورها القومي العربي .
وقد لعب الإعلام الغربي دوراً كبيراً في دعم الأحزاب القطرية، بتوظيف وسائل الإعلام المحلية وتقديم الدعم لها، للترويج للدعوات القطرية. وأصبح الأمر أمامها أكثر إلحاحاً خاصة بعد أن امتلكت الدول التقدمية وسائل الإعلام الخاصة بها.
بـ-الترويج لمنهج العولمة الاقتصادية:
لقد عُرف المنهج الاقتصادي الرأسمالي بـ(منهج اقتصاد السوق). وهذا المنهج يستند إلى الحؤول دون تنفيذ مناهج التنمية الاقتصادية في كل الدول، وبالأخص منها الدول العربية، بسبب كثرة الثروات الطبيعية ومن أهمها، الثروة البترولية أولاً، ولتعداد السكان الواسع الذي يبلغ مئات الملايين من المستهلكين ثانياً. ومن أجل ذلك كانت الأسواق الرأسمالية تعمل على تنمية طبقة (الكومبرادور) أي طبقة التجار ووسائطهم التجارية. وإذا كانت تسهِّل العمل الصناعي هنا وهناك فإنما بشرط أن يرتبط ذلك بالمصانع الكبرى للدول الرأسمالية. وإننا نلاحظ بوضوح أن الرأسمالية قد حوَّلت كل الدول العربية، التي تمتلك الثروات الطبيعية، إلى أسواق استهلاكية، وشجعت رؤوس الأموال العربية على استثمار رساميلها في الحقل التجاري، والابتعاد عن توظيفها في حقول التنمية الصناعية والزراعية، درءاً للمخاطر والخسائر التي ستلحق بإنتاج مصانع الدول الكبرى. وجرى ذلك تحت غطاء منهج الدعوة إلى أن الحقل التجاري أكثر أماناً لتلك الرساميل.
إن العولمة الاقتصادية، واتجاه الرأسمال العربي بتوظيفه في الحقل التجاري، والابتعاد عن توظيفه في الحقلين الصناعي والزراعي، قد جعل من المجتمع العربي مجتمعاً متخلفاً لا مجتمعاً نامياً يأكل مما ينتج. وأحدث هوة كبرى بين الفئات الاجتماعية، بحيث تحوَّلت الثروة إلى أيدي قلة من الرأسماليين. كما ادى الى ضعف الطبقة الوسطى التي هي عادة ما تتشكل من العاملين في حقول التنمية الاقتصادية، واتَّسعت فئة الفقراء والمحتاجين تبعاً لذلك .
وقد انعكس غياب البنى الإنتاجية بشكل واضح على اتساع نسبة البطالة والفقر. وإذا كان الانتاج الصناعي والزراعي قد أوجد فئتين، الصناعية والإقطاعية من جهة، والعمالية والفلاحية من جهة أخرى. فقد اضعف ذلك الصراع التقليديوغابت معه مخاوف الرأسماليين من النقابات العمالية. وتخفف الرأسمالي العربي اليوم من تبعات صراع اجتماعي- اقتصادي حاد مرسوم الخطوط ،وطغى بدلاً عنه الصراع بين المواطن والحكومة. وهنا يكمن مأزق الأنظمة الرسمية العربية التي تقف عاجزة عن تلبية حاجات المجتمع طالما أن موازناتها لم تعد تستطيع أن تقوم بواجباتها تجاه الأكثرية الشعبية الواسعة.
وباستمرار الحال على هذه الاوضاع ، لن تستطيع الأنظمة الرسمية من الاستمرار باداء واجباتها ومسؤولياتها سوى بالعودة إلى مناهج التنمية والانتاج في شتى الحقول، سواءٌ أكان الأمر متعلقاً بتطبيق المناهج الاشتراكية التي تضمن العمل لكل مواطن، أم كانت بتطبيق مناهج العدالة الاجتماعية في توفير الضمان الاجتماعي للفئات الاجتماعية المحتاجة. وطالما ظلت الأنظمة الرسمية عاجزة عن إيجاد الحلول التنموية ، فانهاستبقى عرضة لمواجهة غضب الجماهير المحتاجة، وستبقى تدور في حلقة مفرغة، وستجد أنه لا بُدَّ من تغيير نمط اقتصاد السوق، الذي كان يستميت النظام الرأسمالي العالمي في سبيل المحافظة عليه، إلى نمط التنمية الاقتصادية التي وحدها تحوِّل المجتمع من مجتمع مستهلك لا يجد مالاً يشتري به السلع الاساسية ، إلى مجتمع منتج يحصل فيه المواطن على الدخل الذي يوفر له كافة حاجاته.
وإن نزول عشرات ملايين المتظاهرين في شوارع معظم العواصم والمدن العربية، منذ بدايات العام 2012، مطالبة بحقوقها تتحدى آلات قمع الأنظمة. وقبل أن تسطو على نضالاتها شتى أشكال الأجهزة والقوى الداخلية والخارجية، كانت المثال الأهم الذي سيبقى معيار الجماهير الثابت في مساءلة الأنظمة الملحقة بعجلة الرأسمال الأميريالي ومحاكمتها مهما طال الزمن.
ولأن هذا هو واقع أهداف العولمة الاقتصادية، لذا يمثل هدف الاشتراكية، الذي رفعه حزب البعث منذ البداية ، رداً عملياً وفعالاً على منهج العولمة الرأسمالية ، وذلك من خلال الاهتمام في تنمية الاقتصاد بالاعتماد على الإنتاج الوطني وتحقيق التكامل الاقتصادي العربي . لقد رفع الحزب منذ تأسيسه الاشتراكية هدفاً، وعندما طبَّقتها ثورة البعث في العام 1968، فقد شكل ذلك تحدياً واضحاً لمطامع الرأسمالية وجهودها في وضع العراقيل في وجه التنمية الاقتصادية الذاتية للدول العربية. ولعلَّ هذا الأمر قد لعب دوراً أساسياً في ازدياد النقمة الرأسمالية ضد حزب البعث. وكان اعتناق البعث منهج التنمية الاقتصادية وتأميم ثرواته، ووضعها في خدمة الجماهير الشعبية، من أهم أسباب إستهداف النظام الوطني في العراق في العام 2003 ، لانه كان اميناً على ترجمة مبادئ البعث الى واقع حي وكما نصت عليه كافة وثائقه الرسمية منذ التأسيس .
وعن ذلك نصَّ دستور الحزب في مواده: (29)، على أن تكون (المؤسسات ذات النفع العام والموارد الطبيعية الكبرى ووسائل الإنتاج الكبير ووسائط النقل ذات الاستثمار الكبير ملك الأمة تديرها الدولة مباشرة وتلغى الشركات والامتيازات الأجنبية).
وحول قطاع التنمية الزراعية، نصَّت المادة (30)، على ما يلي:(تُحدد الملكية الزراعية وأشكال الاستثمار الزراعي تحديداً يتناسب مع مقدرة المالك على الاستثمار ونوعية الزراعة والظروف الزراعية والاقتصادية السائدة في كل منطقة دون استغلال جهد الآخرين تحت إشراف الدولة ووفق برنامجها الاقتصادي العام).
وفي سبيل بلوغ أهداف مبادئ العدالة الاجتماعية فقد نصت المادة (32) على ما يلي: (تسعى الدولة لتحقيق أفضل العلاقات بين الإدارة والعاملين في الوحدات الإنتاجية لتحقيق أفضل النتائج الاقتصادية والإنسانية بما في ذلك الاشتراك بالإدارة والأرباح وربط الأجر والرواتب بمستوى الإنتاجية كماً ونوعاً).
3-مشاريع التقسيم الجغرافي -الإجتماعي:
- من أيديولوجيا التقسيم الجغرافي إلى أيديولوجيا التفتيت الاجتماعي:
لم تتغيَّر أهداف تحالف الاستعمار والصهيونية في تقسيم المجتمع العربي وتفتيته وغرس روح التخلف الثقافي والسياسي والاقتصادي، بل أحدث تغييراً في وسائل الوصول إليها لأن الوسائل القديمة عجزت عن تحقيق تلك الأهداف. إذ بدلاً من أن يقود التقسيم الجغرافي، كما نصَّت عليه اتفاقية سايكس –بيكو، إلى تقسيم فعلي، فقد أحدثت الأحزاب والحركات والقوى العربية ثغرة في جدار التقسيم الجغرافي بعد أن حفرت عميقاً في بنية مفهوم الدولة الحديثة، ولذلك انتشرت مفاهيم الوطنية والقومية والحض على توحيد المجتمع وتحويل ثقافته إلى ثقافة إنتاجية، وذلك بمحاربة الفكر الطائفي، وتعزيز مفاهيم الديموقراطية السياسية والتنمية الاقتصادية. تلك المفاهيم أخذت تعزِّز ليس اللحمة الاجتماعية على مستوى القطر الواحد فحسب، بل وصلت إلى سقف انتشار شعارات الوحدة القومية بشكل واسع أيضاً، حتى إنها اخترقت جدران أنظمة سايكس بيكو ولذلك عرفت تلك المرحلة تأسيساً فعلياً لأنظمة رسمية وُصفت بـ(الأنظمة التقدمية)، لم يكن الاستعمار ليتنبَّأ بتأسيسها، كمثل ما حصل في سورية والعراق ومصر وليبيا. وقد وُصف مرحلة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين بالعصر الذهبي للفكر الوطني والقومي.
كانت نتائج تلك المرحلة كابوساً يؤرق جفون واضعي المشاريع المعادية للأمة العربية. ولذلك، وكما دلَّت التقارير لاحقاً، أعلنت الدوائر السياسية والاستخبارية فشل وسائل اتفاقية سايكس – بيكو، وأثبتت عدم جدوى التقسيم على قواعد جغرافية، فكان الخيار الآخر وهو التقسيم على أسس طائفية وعنصرية في بداية السبعينيات من القرن العشرين، عندما تولى زبجنيوبريجنسكي مسؤولية الامن القومي للولايات المتحدة الامريكية ووضع استراتيجية سميت بـ (استراتيجية الضربأاسفل الجدار)،أي تهديم ما يستند إليه المجتمع والدولة وهو وحدتهما عن طريق إثارة الصراعات الدينية والطائفية والاثنية. كما جرى تكليف برنارد لويس، المفكر الصهيوني (وكما اسلفنا في الحلقة السابقة) من قبل الإدارة الأميركية بوضع مشروع آخر مشابه يضمن تنفيذ الأهداف المرسومة منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى. ولذلك قدَّم مشروعه المبني على قواعد التفتيت الديني والطائفي، كبديل للتقسيم الجغرافي. وذلك بأن تُبنى الدويلات الجديدة حسب خطوط تواجد الأكثريات الطائفية. ولذلك وضع برنارد لويس خطوطاً جغرافية لتلك الدويلات، مبنية على تأسيس كل دويلة تبعاً لتواجد أكثرية محسوبة على طائفة من الطوائف.
ب- مراحل التقسيم والتفتيت الحديث
لقد حاولت أمريكا تنفيذ المشاريع التفتيتية الجديدة المشار إليها أعلاه بواسطة خميني، وكانت الخطوة الأولى الضرورية جداً هي غزو العراق من قبل نظام خميني تحت شعار (تصدير الثورة الاسلامية) لكنه فشل في تحقيق ذلك بعد حرب دامت ثمانية اعوام .
من أجل تحقيق أهدافه في التقسيم والتفتيت والتجهيل واحتواء جميع الأنظمة الرسمية العربية، وضع اليمين الأميركي المتطرف مشروع الشرق الأوسط الجديد قيد التنفيذ. متوسلاً إسقاط ما أسماه (العراق يقع في مركز الدائرة) الذي ما إن يتم إسقاطه حتى تتداعى بقية الأنظمة كأحجار الدومينو. وقد لخَّص المشروع جيمس بيكر، وزير خارجية إدارة جورج بوش الأب، عندما هدَّد العراق، في العام 1990، قائلاً (سوف نعيد العراق إلى ما قبل العصر الصناعي).
لقد كان ذلك التهديد بمثابة الإفصاح عن الاستراتيجية الأميركية الجديدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وحصول الفراغ في قيادة العالم بقطبية أميركية واحدة. وهذا ما لم يكن بمقدور الإدارة الأميركية أن تفعله لأنه يقع بالضد من الاتفاق الضمني بين القطبين الدوليين بمنع استخدام القوة العسكرية المباشرة لكليهما في صراع التسابق على كسب مراكز القوى في العالم، وبالأخص منه في الوطن العربي. لذا كان سقوط الاتحاد السوفياتي، على الرغم من أطماعه بأن يكون الوطن العربي ملحقاً بالمشروع الشيوعي الأممي، يمثِّل نقطة البداية لانفلات الحلم الأميركي من أوسع البوابات.
ثم جاء هدف تقسيم العراق، بعد احتلاله، إلى ثلاثة أقاليم، كردي وشيعي وسني. مؤشراً لتنفيذ مشاريع بريجنسكي وبرنارد لويس والاسرائيلي عوديد ينون. وبُني على أساس المحاصصات الطائفية والعرقية كما هو عليه النظام السياسي في لبنان. إلاَّ أن المقاومة الوطنية العراقية أحبطت أهداف الإدارة الأميركية عندما ألحقت الهزيمة بالجيش الأميركي، لذا فقد تأجل تنفيذ المشروع إلى أوائل العام 2012، بناء على توقيت يضمن سلامة هروب الجيش الأميركي وانسحابه بعد هزيمته النكراء في العراق.
والمطلوب في الوقت الراهن من كل الاطراف الوطنية دراسة للحصيلة التي رسا عليها تنفيذ المشروع، فعلى الرغم من أن تنفيذه لم يكتمل كما وضعه تحالف الاستعمار والصهيونية بسبب المقاومة الوطنية له، مضافاً لها مواجهته بعراقيل خارجية دولية، وإقليمية، وداخلية عربية، إلاَّ أنه ترك ندوباً عميقة في بنية الاقطار التي اجتاحها، كما في بنية المجمعات التي انخرطت فيه مما يتطلب حشد كافة الجهود والطاقات الوطنية والقومية لتجاوز هذه الاثار وافشال المشروع بشكل نهائي .
ت- الالتفاف على اهداف الحراك الشعبي المشروع :
وإذا كان التمييز بين أهداف الحراك الشعبي المشروع، وأهداف واضعيه على سكة التنفيذ، فإنه من الواضح أن واضعيه قد استفادوا من الحراك الشعبي وشعاراته وأهدافه، ودفعوا بكل أدواتهم المحلية إلى تصدر واجهته وسرقة إيجابياته، وحرف أهدافه. وأغدقوا بمساعداتهم على شتى المستويات المالية والعسكرية وتجنيد المرتزقة بكل تلويناتهم الطائفية للانخراط في الحروب الداخلية في الأقطار التي نالت نصيبها من المشروع.
وإذا كان المشروع قد خفَّت حدته بسبب بعض العوائق التي أحدثتها المتغيرات الدولية والإقليمية، وفرضت إيقاف تنفيذه بالطريقة التي بدأ بها فأصبح غير قابل للتنفيذ في المدى المنظور، الا انه من المرتقب التجديد في وسائله في المستقبل، إذا ما لاحت الظروف المناسبة لاستكماله. وإذا كانت حركة التحرر العربي غائبة عن قيادة الحراك الشعبي منذ بدايته لسبب أو لآخر. فإن هذا الأمر يفرض علينا أن ندرس أهم النتائج الخطيرة التي رسا عليها المشهد في المرحلة الراهنة. وذلك لوضعها في استراتيجية الحزب المستقبلية لكي تكون واقية من الوقوع في الثغرات والأخطاء والمطبات التي وقع فيها الحراك الشعبي منذ بداياته الأولى.
جـ -الأهداف التي حققها التحالف الاستعماري –الصهيوني–الإيراني:
كان وما يزال خطر التقسيم على قواعد طائفية وعشائرية وعرقية، من أهم الأهداف التي يسعى التحالف الاستعماري –الصهيوني– الايراني الى تنفيذها بشتى الوسائل، كما تؤكد على ذلك محاولات تقسيم العراق، بعد الاحتلال في العام 2003، إلى أقاليم ثلاثة عرقية وطائفية. وكما تسير عليه خطى التنفيذ في ليبيا واليمن وسورية.
ولقد شاهدنا بعد اتضاح هذا التحالف وانفلاته بشكل واسع، في العام 2012، أن مشروعه لا يقف عند حدود تحويل العراق لوحده إلى (العصر ما قبل الصناعي)، بل بإعادة الدول العربية كلها إلى (عصر ما قبل الدولة الوطنية). وهذا يعني العودة إلى عصر الدويلات الطائفية التي عرفها العصر العباسي منذ أكثر من عشرة قرون، وما رافق تلك الدويلات من حروب طاحنة .
وبإيجاز عن هذا الجانب، فقد استخدم التحالف كل وسائل الفوضى والتدمير في بنى الدول العربية التي استُهدفت بمشروع التقسيم الجغرا-إجتماعي .
4- التحطيم المنظم للدولة الوطنية ومؤسساتها:
تشكل عملية التحطيم المنظم والممنهج لمؤسسات الدولة الوطنية احد اهم اهداف الاستعمار الجديد وذلك لضمان الهيمنة العالمية الجديدة ، ومن أهم مظاهرها ما يلي :
أ-الحل المنظم للجيوش النظامية واستبدالها بميليشيات متناحرة :
لقد ادرك حزب البعث العربي الاشتراكي منذ تأسيسه اهمية وجود و بناء جيوش عربية وطنية مشبعة بالعقيدة الوطنية للدفاع عن سيادة أوطانها وعن الامن القومي العربي . وقد جاء في المادة 21 من الدستور، ما يلي:
(الجندية إجبارية في الوطن العربي)، أي بمعنى أن يكون الجيش الوطني واحداً، يُفرَض على كل المواطنين الانخراط في صفوفه، من دون تمييز بينهم بالعرق أو المذهب، أي رفضاً للمحاصصات الطائفية والعرقية. على أن تكون من واجباته الدفاع عن الأرض الوطنية. وبهذا يكون الانتماء للجيش الوطني تعزيزاً للوحدة الوطنية. وعن هذا الجانب، فقد كان الجيش العراقي في العهد الوطني مثالاً يُحتذى في الدفاع ليس عن العراق فحسب، بل إنه كان أيضاً يؤدي واجبه القومي في حماية أمن الأمة العربية من الاختراق. وما مشاركته في معظم المعارك منذ العام 1948 في فلسطين، وفي حرب تشرين الأول من العام 1973، وتصديه للعدوان الإيراني في العام 1980، وطوال ثماني سنوات، إلاَّ الدليل الأبرز على نموذج بنية الجيش الوطني وقيامه بمهامه الوطنية والقومية على اكمل وجه .
الا انه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ودخول العالم مرحلة جديدة ، فقد شرعت قوى الهيمنة العالمية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية بالعمل على حل الجيوش النظامية في الدول التي تستهدفها بالعدوان ، واستبدالها بميليشيات خاصة . وقد حصل ذلك في الصومال ومن ثم في العراق منذ بداية الاحتلال الامريكي له ، فمن أوائل القرارات التي أصدرها بول بريمر، الحاكم الأميركي للعراق بعد الاحتلال، كان قرار حل الجيش العراقي. وكان البديل للجيش تأسيس عشرات الميليشيات التابعة لطوائفها أو للقوى السياسية التي وكَّلها الاحتلال بإدارة الحياة السياسية في العراق المحتل. وسُمح لتلك الميليشيات بسرقة مخازن الأسلحة، إما باستخدام ما تستطيع استخدامه منها، أو ببيعها للدول الإقليمية وبشكل خاص للنظام الإيراني التوسعي . وأما في مرحلة تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، وإن لم يكن القرار معلناً، فقد راح التحالف الاستعماري –الصهيوني- الايراني ، يعمل على تطبيقه في ليبيا واليمن وسورية. ففي ليبيا مثلاً، وبعد انفراط عقد الجيش الليبي، واستفحال شأن الميليشيات وكثرة انتشارها، فقد استخدمت تلك الميليشيات مخازن الجيش الليبي لتسليح عناصرها، أو لبيعها إلى منظمات دولية في الخارج، خاصة إلى الميلشيات التي انتشرت في أقطار عربية أخرى.
ان سعي الاستعمار بصيغه الجديدة الى إلغاء الجيوش النظامية العربية يصب في خدمة مشاريع التفتيت من جهة كما ويهدف الى إضعاف لعوامل الردع العسكري الذي كان يمكن توظيفه، ضد العدو الصهيوني.
بـ-إضعاف المؤسسات الاقتصادية واتنمويةالوطنية وتدميرها:
لقد شخص حزب البعث العربي الاشتراكي منذ تاسيسه اهمية وجود مؤسسات للدولة الوطنية لضمان تحقيق الاستقلال والتحرر الناجزمن الاستعمار والهيمنة الاجنبية ، فقد نصت المادة (23) من الدستور على ما يلي: (يناضل العرب بكل قواهم لتقويض دعائم الاستعمار والاحتلال وكل نفوذ سياسي أو اقتصادي أجنبي في بلادهم).
وذلك ادراكاً من البعث الى ان من أهم أهداف التحالف الاستعماري الصهيوني، منذ بداية تأسيسه قبل الحرب العالمية الأولى، هدفان رئيسان، وهما:
-أولاً : السيطرة على مناطق الثروات الطبيعية، كمصدر أساسي للمواد الخام التي تحتاجها الحركة الصناعية في دولهم، وقد أصبح النفط لاحقاً من أهم تلك الثروات.
-ثانياً : إيجاد الأسواق التي تستهلك الإنتاج الصناعي لتلك الدول. لأنه بغيابها سيبقى الإنتاج الصناعي مكدَّساً في المخازن. وهذا يعني بالمصطلح الاقتصادي بـ(الركود الاقتصادي)، الذي تتفوق فيه كمية الإنتاج على حجم الطلب.
علماً أن العلاقة بين الهدفين علاقة عضوية، اذ لا فائدة من الحصول على أحد منهما بغياب الآخر. فإنتاج السلعة يرتبط بوجود المواد الخام، وكمية الإنتاج ترتبط بحجم الطلب عليها. ومن هنا كان الترابط الوثيق بينهما، وعليهما بُنيت النظرية الاقتصادية للرأسمالية العالمية. ولأن الوطن العربي غني بالمواد الخام، وفي مقدمتها الثروة النفطية من جهة، ولأنه خزان بشري يمكنه استهلاك كميات كبيرة من الإنتاج من جهة أخرى، لذا فقد كان هدفاً دائماً للمؤامرات الخارجية التي وضعها التحالف الصهيوني –الأمبريالي.
ورغم قدم هذه الأهداف ، فإنها ما تزال صالحة في المراحل الراهنة. وإذا كانت قد وُضعت في مرحلة ما قبل ظهور الاستعمار الأميركي، إلاَّ أنها أصبحت من أهدافه الرئيسية.
لقد وظَّفت الرأسمالية العالمية، وفي المقدمة منها الرأسمال الصهيوني والأميركي، كل وسائل الإعلام الحديثة من أجل الترويج لنظرية (اقتصاد السوق).
ان اقتصاد السوق هو نظام اقتصادي يتمتع فيه الأفراد والشركات بحرية المبادرة وحرية تبادل السلع والخدمات وتنقلها دون عوائق. ويتم تخصيص الموارد في ظل هذا النظام عبر مؤسسة السوق وآلية الأسعار التي تسهر على معادلة العرض (الإنتاج) والطلب (الاستهلاك)، دون الحاجة إلى تدخل مركزي من الدولة لكي تنظم عملية تنسيق الإنتاج.
إن أخطر ما في هذه النظرية هو اطلاق العنانلجشع الاقتصاد الرأسمالي، وفي ذلك ما فيه من إعطاء الحرية له بعيداً عن إشراف الدولة. وإذا ما أضيف إلى ذلك دوره في تعزيز مواقع الوسطاء التجاريين، ومواقع التجار، ينفلت الحبل على غاربه أمام اقتصاد السوق، الذي سينمو على حساب التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلدان المتخلفة والنامية على حد سواء.
ولكن الرأسمالية الامريكية بعد ان وصلت الى مرحلة تراجع وضعف شديدين، شرعت في عهد الرئيس ترامب باستبدال اقتصاد السوق بسياسة الحماية القديمة وبموجبها عادت الدولة في امريكا الى التدخل كثيراً وضبط السوق، فيما لجأت في الخارج الى التنصل من اقتصاد السوق العالمي والذي كانت تتبناه وتعتبره من أهم وسائلها لتحقيق اختراقات مباشرة للدول الاخرى، وكانت منظمة التجارة الدولية التي فرضتها امريكا على العالم احد ابرز الأمثلة على محاولتها تجاوز دور الدول واحلال المنافسة المطلقة محلها، ولكنها تراجعت وانسحبت من المنظمة وعادت تفرض الضرائب والقيود على السلع غير الأمريكية التي تنافس السلع الامريكية .
وقد برزت الأيديولوجيا الرأسمالية في أبشع صورها، بعد احتلال العراق في العام 2003، واستفحلت أكثر بعد البدء في تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد في العام 2012. وباستعراض المشهد بإيجاز ستظهر لدينا بشاعة الرأسمالية ووحشيتها من خلال قيامها بما يلي :
-تدمير البنى التحتية لكل المرافق العامة من أجل توفير فرص العمل للشركات العقارية والهندسية التابعة للطبقات الرأسمالية في الدول الغربية.
-تدمير المصانع، أو سرقتها وتصديرها إلى الخارج وبيعها. وذلك لضمان إبقاء الدولة العربية في عصر ما قبل الصناعة. وفي ذلك ضمان لبقاء الدول بعيدة عن دوائر التنمية الصناعية، وفيه توفير أسواق الاستهلاك أمام البضائع الأجنبية.
-تلزيم الشركات التجارية، وحق الاستيراد، والكثير من المفاصل الحيوية الهامة إلى المافيات وعصابات الجريمة المنظمة ، لأنها تسهم بالغش والفساد من دون رادع أو ضمير في تحقيق كل الاهداف المطلوبة منها . وهي مثالهافي ذلك مثال الطبقة الحاكمة التي وكَّلها الاحتلال بإدارة (العمليات السياسية) حيثما وقع الاحتلال، أو حيثما سادت الفوضى وانتشار الميليشيات المسلحة التابعة لـ(المافيات)، بعد تفكيك بنى الدولة السياسية والإدارية والقضائية.
رابعاً: إيجاز استراتيجية البعث في مواجهة المؤامرة الخارجية
يشكل ما تقدم تمهيداً لدراسة تتناول أسس المقاربة بين فكر البعث و استراتيجياته لمواجهة الإشكاليات الداخلية التي كانت تعاني منها الجماهير العربية في التصدي لعوامل التخلف في جميع ميادينه، ومواجهة الأنظمة العربية القاصرة عن بناء الدولة المدنية الحديثة، والسائرة في خدمة الاستعمار حماية لكياناتها، وكذلك مواجهة المؤامرات الصهيونية –الاستعماريةالتيتحاكضدالأمةالعربية. ومن ذلك، نجد ان هناك اربعة مراحل يمكن تأشيرها من بين بعض تلك الاستراتيجيات وليس كلها ، و يمكن تلخيصها بالتالي:
- في المرحلة الأولى:
جاءت شعارات البعث وأهدافه، منذ تأسيسه في العام 1947، لتشخِّص الواقع كما هو، وهذا ما تدل عليه أهدافه في الوحدة والحرية والاشتراكية، كأساس للتغيير من الداخل. والدعوة إلى مكافحة الاستعمار، كجانب من جوانب إزالة العوامل الخارجية التي تعيق عملية التغيير من الداخل.
وقد رفض البعث تقسيم الوطن العربي بما في ذلك التقسيم على قواعد طائفية وعشائرية وعرقية، فكان واعياً لذلك منذ وقت مبكر، أي منذ مرحلته التاسيسية في الاربعينات من القرن الماضي. فقد نص عليه دستور البعث، ودعا إلى مكافحته في المادة (15) من الدستور التي نصَّت على ما يلي: (الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة، وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية).
- في المرحلة الثانية:
وقف الحزب ضد الولايات المتحدة الأميركية كدولة استعمارية حامية للكيان الصهيوني، وأعلن استراتيجة الكفاح الشعبي المسلَّح لتحرير فلسطين، واعتبر أن الوحدة العربية طريق لتحرير فلسطين، وتحرير فلسطين طريق للوحدة العربية. وبنى علاقات إيجابية، اقتصادية وعسكرية، مع الاتحاد السوفياتي. ولكن تلك العلاقات لم تكن على حساب استراتيجية الحزب في اعتناقه الفكر القومي على العكس من مواقف الماركسية السلبية منه. وكذلك في الثبات على استراتيجيته في تحرير فلسطين ، وهو الموقف المعاكس لمواقف الاتحاد السوفياتي الذي اعترف بالكيان الصهيوني وكان من بين أهم مواقف الحزب ضد الاستعمار الطامع باحتكار السيطرة على النفط العربي، المتمثل بما تبلور لاحقا باسم (مبدأ كارتر) : (من يملك البترول يسيطر على العالم) فقد أعلن الحزب أن (نفط العرب للعرب)، وأمم نظامه الوطني في العراق بترول العراق، ونقل ملكيته من حساب الشركات الغربية لمصلحة الشعب العراقي.
- في المرحلة الثالثة:
وعلى الرغم من انهيار الاتحاد السوفياتي فقد ظلَّ الحزب أميناً على أهدافه بمكافحة الاستعمار، ولذلك لم يرضخ لمحاولات أميركا باحتواء العراق، واحتواء قرار نظامه الوطني، خاصة بالنسبة لموقفه من القضية الفلسطينية، وبالنسبة إلى مواقفه المعادية للسياسات الاستعمارية الامريكية طالما ظلَّت متمسكة بأهدافها الاستعمارية وفي المقدمة منها حماية الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة. وإن كانت هذه المواقف تشكل جزءاً قليلاً منها إلاَّ أنها توضح مدى أمانة الحزب لأهدافه التي يناضل من أجلها، والتي لأنه لم يتنازل عنها كانت سبباً لاحتلال العراق.
ولكن الاحتلال وإسقاط النظام الوطني لم يثبطا همم البعثيين، بل أطلقوا المقاومة الشعبية التي أنجزت مهامها بطرد الاحتلال الأميركي في العام 2011. ولم يثبطهم تسليم العراق للنظام الإيراني، بل أعلنوا تصديهم لهذا الاحتلال الجديد. ونصَّت استراتيجية البعث، في المنهاج السياسي والستراتيجي للبعث والمقاومة الصادر في أيلول من العام 2003، على تحرير العراق من أية قوة أو جهة تحتله. وعن ذلك فقد قدَّم الحزب في العراق مئات الآلاف من أرواح مناضليه، واضعاف ذلك من خلال التشريد والتهجير والملاحقة والاجتثاث.
- في المرحلة الرابعة :
لم تتغير استراتيجية البعث، فقد أثبت الحزب على المستوى القومي أنه فوق كل عمليات العزل والاجتثاث، وبقي البعثيون في كل أنحاء الوطن العربي أمناء على مبادئهم. وظلوا كذلك على الرغم من كل مزاعم القوى المعادية بأن البعث قد انتهى.
ولأن الشيء الكثير كُتب عن المراحل السابقة من أسفار البعث النضالية، فإننا بحاجة إلى إطلالة ولو كانت سريعة، على مسارات النضال البعثي في المراحل الأخيرة خاصة تلك التي تتعرَّض لها الأمة العربية من محاولات الاجتثاث، وتجهيل الهوية على شتى الصعد الفكرية والسياسية والتفتيت الاجتماعي والتقسيم الجغرافي. وهنا نعتقد أن بوابة الدخول إلى الإطلالة على نضالات الحزب في مواجهة المخططات الخارجية المعادية للامة العربية يجب أن تمر عبر معرفتنا بوسائل المؤامرة الجديدة، ومضامينها الثقافية والسياسية والعسكرية.
فـي الـخـاتـمـة
ولأن ما قمنا بتوصيفه من الحالات التآمرية التي تتعرَّض لها أمتنا العربية على أيدي الصهيونية وقوى الاستعمار وايران ، منذ انهيار الدولة العثمانية، يدل على أن حزب البعث قد صاغ مبادئه على اساس مواجهة المؤامرة المخططة ضدها. وعمل منذ البدء ليس على التبشير بنظريته فحسب، بل عمل أيضاً على النضال من أجل أهدافه.
وبالعودة إلى دستور الحزب يبدو هذا التوصيف لموقع الحزب في الحياة العربية واضحاً من حيث أنه شخَّص أمراضها، ووضع الحلول لها، وناضل من أجل تطبيق تلك الحلول. وبسبب من امتلاكه كل تلك المواصفات فقد تعرَّض مناضلوه منذ البدء للملاحقة والاعتقال والاغتيال، وكان أكثرها شراسة وخبثاً وشدة هو القرار باجتثاثه وتصفيته. وهو القرار الذي ترافق مع توقيع بول بريمر، الحاكم الأميركي في العراق بعد الاحتلال. ذلك القرار الذي لم تعرف له مثيلاً كل الأنظمة الديكتاتورية في تاريخ العالم، بحيث أدمج بدستور الاحتلال، وفي القوانين والتشريعات اللازمة لتنفيذه. هذا ناهيك عن كل حملات الملاحقة التي وجهها النظام العربي الرسمي بحق البعثيين في معظم الأنظمة الرسمية العربية.
وأخيراً، ولكي لا يبقى تشخيصنا مبنياً على وقائع المؤامرة التي حيكت منذ أكثر من قرن من الزمن، ولكي لا يتلطى النظام السياسي الرسمي بتلك المؤامرة لكي يعفي نفسه من تحمل المسؤولية. ولكي لا يتلطى الرأي العام الجماهيري بها، وكأنه لا مردَّ لها. وكي لا يجد بعض المنتسبين الى الحركات الثورية العربية عذراً في صعوبة مواجهتها. علينا أن لا ننسى أن حزب البعث فصل فصلاً واضحاً بينهما. وهو في الوقت الذي دعا فيه إلى اقتلاعها، فإنه حضَّ الأنظمة والجماهير والحركات الثورية، على أن تقوم بدورها في المواجهة على قاعدة تحصين الجبهة الداخلية بالإنجازات المطلوبة منها، كل من موقعه. وذلك بأن تقوم الأنظمة بواجباتها تجاه الشعب في شتى المجالات. وأن تنظم الجماهير نفسها في أحزاب وتجمعات الهدف منها مساءلة الأنظمة. وأن تقوم الحركات والأحزاب الثورية بالعمل الدؤوب من أجل تنظيم الجماهير وتوعيتها.
وبين هذا وذاك، سيبقى حزب البعث، بنظريته والحلول التي وضعها ونضالاته التي لم تهدأ يوماً ، الحزب القومي الذي لو لم يُوجد لكان على العرب أن يؤسسوه.