لماذا حزب البعث؟ (الحلقة السابعة) (7/ 7)

دور فكر ونضال البعث في مواجهة التحديات الراهنة

 

كنا قد استعرضنا في الحلقات الأولى من هذه الدراسة بعض الجوانب التي تمثل فكر ونضال البعث والتي تبين كيف انه يمثل ضرورة لحياة ومستقبل الامة العربية. وقد عرَّجنا على أهم التحديات الداخلية والخارجية التي تعيق تطور الأمة العربية، ومواصلة مسيرة نهضتها الحضارية. وفي هذه الحلقة نبين بعض الجوانب النظرية والعملية، التي تميز فكر ونضال حزب البعث العربي الاشتراكي واستراتيجياته، طوال أكثر من سبعين عاماً وما تزال، وبما يبرهن على أنه العقيدة الامثل لمواجهة هذه التحديات في عالمنا المعاصر، وبالتالي فإنه يمثل ضرورة فكرية ونضالية وتنظيمية في حياة الأمة العربية.

وانتظاراً للبحث بالتفصيل في كل جانب من جوانب تجربة البعث الفكرية والسياسية والنضالية، وبما رافقها من تطبيقات عملية، تم اعداد هذه الحلقة لتشكل إطلالة مكثَّفة وموجزة تتعلَّق بالإجابة على السؤال (لماذا حزب البعث في مواجهة التحديات الراهنة؟).

ولأن أمام الحزب مهمات تتعلق بالتغيير من الداخل، وأخرى تتعلق بمواجهة العوائق الخارجية المتعلقة بالأهداف الصهيونية والاستعمارية والإقليمية وعلى رأسها الإيرانية ، سنوجز كيف تساهم سمات فكر ونضال حزب البعث في مواجهة التحديات، على صعيد أهداف الحزب الداخلية، وأهدافه الخارجية.

 

 أولاً: فكر ونضال الحزب على صعيد التغيير من الداخل

 1-على صعيد التطوير الفكري: يكفي حزب البعث أنه كان التجربة الرائدة في تحويل الفكر العربي القومي من طابعه النخبوي، الذي كان يسم المنهج الأساسي عند المنظرين الافاضل الأوائل، إلى متناول أوسع القطاعات من الجماهير الشعبية. وقد كان ذلك بعد إعلان تأسيس الحزب في العام 1947.

2-على صعيد التطور التنظيمي من أجل التغيير: لا شك في أن الفكر يعد عاملاً أساسياً للتغيير في المجتمع العربي، إلا أن التغيير بحاجة الى أداة تقوم به، وتضبط إيقاعه، وتضمن سلامة مسيرته نحو تحقيق الاهداف المرجوة. وفي القرن الماضي نشأت فكرة الأحزاب في الوطن العربي، التي كانت تعد تطوراً حديثاً مهماً يعمل على جمع أكبر حشد من الناس حول فكرة واحدة، ويعمل على توحيد جهودهم، لكي تأخذ طريقها نحو التنفيذ العملي. لذا فقد بادر الرفاق المؤسسون الأوائل، إلى حمل هذه الأمانة الى آفاق عملية على أرض الواقع، من أجل ضمان  تطبيق أفكار البعث ومبادئه، فانطلقوا نحو العمل التنظيمي مبتدئين بالاعلان عن تأسيس الحزب.

3- تنظيمه القومي ترجمة عملية لفكره الداعي للوحدة العربية: وإذا كان الحزب ذو الاتجاهات القطرية، بحاجة إلى جمع كل المؤمنين بسياسته ومواقفه من أجل تجميع جهودهم، فإن حزباً، كحزب البعث، يؤمن بأهداف قومية شاملة تحقق نهضة الامة العربية، لا بُدَّ من أن يكون هيكله التنظيمي قومي البنيان والطابع. ولذلك وُضع للحزب نظام داخلي تتشكل هيئاته القيادية بشكل هرمي، بحيث تبدأ من أدنى خلية في القطر الواحد، لتصل إلى أعلى قيادة له والتي تتمثل بالقيادة القومية، والتي يكون من بين أهم واجباتها نشر فكر وعقيدة الحزب، ووضع استراتيجيات نضاله، ومواقفه السياسية، واتخاذ ومتابعة القرارات التنظيمية، وعقد المؤتمرات التنظيمية لمتابعة وتقييم مراحل المسيرة، على أن تلتزم بها كل التنظيمات القطرية من القيادات الأعلى فيها فالأدنى وصولاً الى الخلايا القاعدية.

4-على صعيد القضايا الفكرية الاستراتيجية : عندما أقرَّ المؤتمر التأسيسي الأول دستور الحزب، فقد أعلن ثوابت اهدافه الاستراتيجية الفكرية بثلاثة:

– الوحدة : وهي التعبير السياسي للمضمون القومي العربي، والتي بتحقيقها تجسد الأمة هويتها، وتحقق تكامل مواردها كشرط اساسي لنهضتها في العصر الراهن، ومواصلة مسيرتها الحضارية الإنسانية بين الأمم الأخرى.

-الحرية: وهي التعبير الأساسي عن أنه لا تغيير في المجتمع العربي من دون ضمان الحريات الاساسية على صعيد الفرد او الشرائح المجتمعية ومشاركتهم في عمليات التغيير من جهة، وتحرر الأمة واستقلالها من أي شكل من أشكال الهيمنة الأجنبية من جهة أخرى.

-الاشتراكية: وهي التعبير عن حق كل مكونات المجتمع بالعيش بكرامة من خلال تحقيق العدالة الاجتماعية في كل جوانب الحياة، باعتبارها النظام المتكامل لتحقيق التنمية النهضوية الشاملة للأمة.

5- فكر البعث في بناء دولة مدنية ضمان لوحدة المجتمع: ولأن فكر البعث القومي، يعتمد أساساً على العمل من أجل حق الشعب بالسيادة على نفسه، وحقه في المشاركة ببناء نظام سياسي يضمن المساواة في الحقوق والواجبات، واعتبار العمل لمصلحة الأمة العربية هو المقياس الذي على أساسه تُكال قيمة المواطن، فقد شدَّد الحزب على بناء دولة مدنية، التي هي الضمانة الأساسية لإزالة الفروقات بين المواطنين دون الأخذ بعين الاعتبار الانتماء الطائفي والعرقي. وفي نفس الوقت تكون الركيزة الأساسية التي تضمن وحدة النسيج المجتمعي، وحماية الوطن من مؤامرات التفتيت والتقسيم وإشعال الحروب الأهلية التي تواجهها الأمة العربية الآن عن طريق إثارة النعرات والانتماءات الطائفية والعرقية بين أبنائها، وذلك تحقيقاً لأهداف استعمارية صهيونية وإيرانية.

6- فكر البعث  التنموي هو الطريق إلى نهضة الأمة الاقتصادية والاجتماعية :  تنص مبادئ البعث على تحقيق العدالة والمساواة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، والعمل من أجل تطبيقهما ليس على قاعدة التوزيع العادل للثروات وحسب ، بل على قاعدة أن على الدولة أن تضمن لكل مواطن منتج ، فرص العمل التي تتناسب مع إمكانيته وقدراته وطاقته. وإن عملية الإنتاج التي تقودها وتوججها الدولة بقطاعها العام وما تتيحه من فرص ومرونة لمساهمة القطاع الخاص في تنمية المجتمع، هي التي ترفد الدخل الوطني بإمكانيات توظِّفها الدولة لمصلحة عموم الشعب في شتى الحقول الاجتماعية والخدمية، وبما يحفظ حقه في العيش الكريم من جهة، ويحقق النهضة الاقتصادية والبشرية الشاملة للأمة من جهة أخرى.

لقد طبق الحزب في نضاله الميداني تلك الأهداف في العراق ، بعد ثورة 17 تموز 1968. ومن أهم معالم ذلك الإرث النضالي، والخطوات التنموية العملاقة التي قادها، كانت في كيفية توجيه الثروات والموارد الطبيعية والبشرية في ميادين التنمية الشاملة، وتوظيفها لمصلحة الشعب العراقي كله، ولمصلحة الشعب العربي في اكثر من قطر عربي واحد، وعلى قاعدة تفعيل التكامل العربي في هذا المجال. وما إتاحة الفرصة لأكثر من خمسة ملايين مواطن من القطر المصري للعمل في شتى المجالات في العراق، من دون شروط، أي توفر تأشيرة الدخول أو عقد عمل مسبق، إضافة إلى فتح التحويلات المصرفية لهم على مصراعيها، حتى شكلت المبالغ الهائلة لها أحد أهم دعامات الاقتصاد المصري، إلا أحد النماذج الواقعية الرائعة على التكامل الاقتصادي العربي الذي حققه البعث.

ولأن نتائج التجارب التنموية في العراق كبيرة، فقد وُضع العراق ليس على لوائح الدول النامية فحسب، بل وُضع على لوائح الدول المتقدمة في مجالات التعليم ومحو الأمية والرعاية الصحية. لقد كان ذلك من أهم العوامل التي زرعت الخوف عند الرأسمالية الغربية، والصهيونية العالمية، من أن قطراً عربياً قد تجاوز الخطوط  الحمر في مجالات التنمية الشاملة، البشرية والاقتصادية والصناعية والزراعية والعسكرية. وهذا ما يفسر السعي الاستعماري الحثيث  (لإعادة العراق إلى العصر ما قبل الصناعي) كما جاء في تهديد جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركية عام 1990 م.

ان توثيق تفاصيل التنمية الانفجارية في العراق، تحت قيادة البعث، تحتاج إلى مجلدات كثيرة، وإن إعادة دراستها يتطلب جهوداً استثنائية، لذا سوف يتم الاكتفاء باستعراض بعض عناوينها الرئيسية في ما يلي :

-كان مبدأ (ثروة العرب للعرب)، و(بترول العرب للعرب)، من المبادئ التي آمن البعث بها. لذا قامت ثورة تموز في العراق بتأميم النفط، وكذلك الفوسفات في السنوات الأولى لوصول الحزب إلى سدة الحكم، وذلك تحقيقا لهذا المبدأ.  بالإضافة إلى قيام البعث بتطبيق المشروعات التنموية الكبرى وبأبعاد قومية عربية شاملة، وذلك تحقيقا للتكامل العربي في الموارد  وكما أسلفنا.

-لم تعمل الثورة على إطلاق منهج المشروعات التنموية من زاوية اقتصادية ومادية بحتة، بل استندت إلى تطبيقها بمفهومها الشامل الذي يعتمد على التنمية البشرية، كهدف انساني وعصب رئيسي لا يمكن لمفهوم التنمية الشامل أن يكتمل من دونه. ولذلك قررت الدولة إلزامية التعليم وشيَّدت المؤسسات التعليمية، ووضعت أسساً لتطبيق التعليم المجاني، ابتداء من دور الحضانة وانتهاءاً بالمراحل الجامعية بما فيها الشهادات العليا وعلى أعلى مستوياتها. وهكذا تضافر عاملان أساسيان وهما : الثروة الوطنية المادية، والثروة البشرية المؤهلة لاستثمار الثروات المادية، ليشكلا نقطة ارتكاز أساسية، في انطلاقة قطار التنمية في شتى الحقول الأخرى.

وإذ نكتفي بتلك الخلاصات والعناوين القليلة، فإننا نؤكد من جديد على أن حزب البعث العربي الاشتراكي، بتجربته تلك، خصوصاً في عقد السبعينيات من القرن الماضي، الذي شهد تحولات جوهرية وعملاقة، شكَّل إحدى الخطوات العربية الرائدة التي يمكن ان تُعدُّ نمطاً جديداً يحتذى به فيما ينبغي أن تقوم به الدولة العربية. ولذلك يُعتبر الحزب ضرورة وحاجة قومية في هذا المجال، يمكن للعرب دراستها والاقتداء بها وتطويرها على طريق ترسيخ دولة المؤسسات وضمان الممارسات الديمقراطية العصرية من أجل بناء الدولة العربية القطرية الأنموذج كمرحلة على طريق بناء الدولة القومية المرتجاة.

 

ثانياً: مهمات الحزب في مواجهة التحديات الخارجية

لما كان الوطن العربي هدفاً رئيسياً لمشاريع الاستعمار والصهيونية والاطماع الايرانية التوسعية، وغيرها من التحديات الجسيمة الأخرى التي يواجهها العرب اليوم، فقد اعتبر الحزب مسألة مواجهتها أولوية مطلقة، فقام بتشخيصها منذ تأسيسه، وتصدى لها في خنادق النضال الفكري والسياسي والعسكري. وبهذا تميز البعث في الجمع بين النضال الفكري والسياسي في الحقل العمالي والزراعي والجماهيري والخندق العسكري بشقيه النظامي والشعبي، وبين التصدي للتحديات الخارجية التي تواجهها الامة، فأثبت البعث أنه في مقدمة القوى الفكرية والنضالية الميدانية في مسيرة العرب التي تجمع بين السعي الى التحرر من التخلف والجهل في الداخل، ومواجهة شتى المؤامرات من الخارج.

وإذا كان حجم هذه الدراسة قاصراً عن الإلمام بشتى جوانب المهام النضالية التي تصدى لها البعث، والتي لن تفيها حقها عشرات المجلدات، فإن العناوين السريعة التالية سوف تشكل مدخلاً أساسياً للتعريف بأكثر تلك الوجوه التي من شأنها أن تبرهن على أهمية حزب البعث في حياة الأمة وصراعها من أجل إثبات وجودها كأمة تلعب دورها على صعيد الأمم الحية، ولتواصل مسيرتها الحضارية التي كان لها تأثيرات ذات شأن عظيم في تقدم البشرية منذ بدايات تكوينها. ولذلك سنولي الاهتمام ببعض الجوانب وهي :

1- ضرورة البعث على صعيد النضال ضد الاستعمار والصهيونية والأطماع التوسعية الإيرانية:

كان حزب البعث، منذ العام 1948، أول حزب عربي يشارك في القتال من أجل القضية الفلسطينية، قيادة وقواعد. وهو من أعلن مؤسسه الرفيق احمد ميشيل عفلق أن (فلسطين لن تحررها الحكومات بل العمل الشعبي المسلَّح)، وذلك في الوقت الذي كانت فيه أحزاب عربية عريقة تساند احتلال الصهيونية لأرض فلسطين. وهو أول حزب عربي يشارك في العمل الفدائي الفلسطيني منذ انطلاقة رصاصته الأولى، في الوقت الذي كانت فيه أحزاب عربية تعتبر أن المقاومة الفلسطينية هي عمل مغامر. وهو أول حزب يشكل منظمة فدائية بتشكيلات عربية وليست فلسطينية فقط، وهو أول حزب أعدَّ لمقاومة العدو الصهيوني في جنوب لبنان منذ العام 1970، من خلال تجربته الرائدة في بناء القرية الجنوبية المقاومة. وهو الحزب الذي استشهد فيه، صدام حسين، أمينه العام، وهو يعلن (فلسطين حرة عربية من النهر إلى البحر). وهو الحزب الذي افتقدته القضية الفلسطينية، بعد احتلال العراق في العام 2003، لأنه كان الداعم الاسترتيجي لها، ومن بعد الاحتلال غابت القضية الفلسطينية عن الاهتمام الرسمي والشعبي العربي، واتجهت باتجاهات التقسيم والشرذمة، ووُضعت على طاولات المساومات والابتزاز خاصة من قبل الأنظمة الإقليمية التي راحت تستغلها لبرامجها واستراتيجياتها الخبيثة، واستخدمتها بوابة أخرى للتسلل إلى الوطن العربي، والاستيلاء عليه.

وهو الحزب الذي نجح تحت قيادة امينه العام الرفيق المجاهد عزة ابراهيم من خوض اشرف واقدس مقاومة وطنية في العصر الحديث ضد احتلال اكبر قوة عالمية للعراق تكللت بطرد القوات الغازية بعد هزيمتها شر هزيمة . وهو الذي يتصدى اليوم ببسالة ضد التمدد الاستعماري الايراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن . ذلك التمدد الذي يسعى حثيثاً لاستغلال القضية الفلسطينية من أجل إجهاض تحرير فلسطين، وقبل ذلك شلّ الأقطار التي تتوفر فيها قيادة مناضلة خططت لتحرير فلسطين عن طريق إشغالها بأزمات وصراعات خارجية وداخلية وفتن طائفية وعرقية. وهو الحزب القومي التحرري الذي لم تبق حركة من حركات التحرر العالمي إلا وقدم لها الدعم والاسناد من أجل التحرر ومواجهة الاستعمار في انحاء كثيرة من العالم.

2- ضرورة البعث على الصعيد الوحدوي العربي:

في مواجهة العوائق التي كانت بعض الأحزاب العربية، التي تناهض الفكر القومي العربي، باتهامه بـ(أنه فكر شوفيني)، وتعتمدها في محاربة قيام أي وحدة عربية، فقد أثبت الحزب إنسانية القومية العربية فكرياً وعملياً. وهو بالإضافة إلى نضاله الفكري في إثبات تقدمية القومية العربية وإنسانيتها، فقد سجل إحدى أهم مآثره التاريخية وهي الدعوة والمساهمة الرسمية والشعبية في قيام أول وحدة عربية بين سورية ومصر في العام 1958. واستأنف نضاله السياسي في التمهيد لإعلان الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق التي اعلن ميثاقها في 17 نيسان من العام 1963، ثم توحيد الجيشين العراقي والسوري تحت قيادة واحدة في خريف العام نفسه، فكان ذلك من أكثر العوامل إثارة وتخويفاً لكل أعداء الأمة العربية، التي وضعت كل إمكانياتها ليس في سبيل الحؤول دون قيام وحدة سياسية وعسكرية عربية وحسب، بل من أجل اجتثاث الفكر القومي بأسسه الفكرية والعملية ايضاً. ولعلَّها كانت المحرك الأول لصياغة مبادئ ما يسمى بمشروع ” الشرق الأوسط الجديد”  التي تقضي بتفتيت القطر الواحد على أسس عرقية وطائفية. وهو المشروع الذي كان ينتظر تنفيذه حصول متغيرات على الصعيد الدولي والعربي.

لقد ظلًّ النظام الوطني في العراق، الذي كان يقوده حزب البعث العربي الاشتراكي، المرجعية القومية التي يتظلَّل تحت خيمتها كل القوميين العرب، بعد انحسار الناصرية بوفاة الرئيس جمال عبد الناصر، وغياب دور مصر القومي، ودخولها في دائرة التبعية للاستعمار والصهيونية بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد. وبذلك أصبح النظام الوطني في العراق الحلقة القومية الوحيدة التي تحمل راية العمل الوحدوي القومي. حتى غدا حصاره وإسقاطه أكثر الأهداف الاستراتيجية إلحاحاً أمام قوى الاستعمار والصهيونية وشريكتهما الستراتيجية في هذا الهدف ايران. ولم يتم الاكتفاء باسقاط النظام الوطني الذي يقوده البعث في العراق، وإنما جرى تنفيذ أشرس حملات اجتثاث لفكره العروبي الوحدوي، والإبادة والمطاردة لمناضليه وكوادره والعمل على إسقاطه بقوانين الاجتثاث المتواصلة، التي لم تهدأ يوماً واحداً، والتي هي في حقيقتها جزء من استراتيجية اجتثاث جوهر وطاقات ومعالم الفكر القومي العربي. ورغم غياب ذلك النظام بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ، في محاولة لتغييب المرجعية القومية  على مستوى الدولة، إلا أن البعث كحزب قومي وكما كان قوة تغيير أساسية قبل استلامه الحكم في العراق، بقي كذلك بعد خروجه من الحكم، مرجعية فكرية وعقائدية وسياسية وتنظيمية قومية. ومما لاشك فيه أن تحرير العراق، وإعادة بناء قاعدته المحررة  سوف يعظم القدرات النضالية للحزب في الوطن العربي، ليواصل مسيرته و مهامه القومية المطلوبة لتحقيق نهضة الأمة وتحررها وانتصارها.

3-ضرورة البعث في مواجهة تفتيت الأمة على أسس طائفية باستخدام بعض الحركات الدينية السياسية:

لقد جاءت متغيرات مرحلة ما بعد إسقاط عهد الشاه، ووصول خميني لاستلام السلطة السياسية في إيران، وإعلان رجاله قيام نظام ديني سياسي ترسم تشريعات (نظرية ولاية الفقيه) أسسه الدستورية والفقهية، إلى التأثير على أهداف الصراع الذي كان يخوضه النظام الوطني في العراق مع الشاه للحد من تدخل الأخير وزعزعة أمن العراق والخليج العربي، بحيث انفتحت أنظار نظام (ولاية الفقيه) على (تصدير ثورته) إلى الوطن العربي بدءاً من  العراق . واستخدم النظام الجديد كل وسائل التحريض الطائفي والتخريب الأمني، والاعتداءات العسكرية على حدوده التي أدَّت إلى حرب استمرت ثماني سنوات، من أجل إسقاط النظام الوطني في العراق. وكانت النتائج العامة أن حصدت تلك الاعتداءات صفراً من النتائج رضخ من بعدها النظام الإيراني للأمر الواقع، ضامراً إعادة الكرَّة عندما تسمح له الفرصة  والظروف المناسبة.

حانت فرصة النظام الإيراني، مرة أخرى، بعد أن بدأت الولايات المتحدة الأميركية الإعداد لاحتلال العراق، وقامت بتنفيذه في العام 2003، وقد كان من الواضح أن النظام المذكور كان له دور كبير في نجاح العدوان العسكري، وقد اعترف أكثر من مسؤول فيه أنه لم يكن بوسع أميركا أن تحتل العراق من دون مساعدة ومشاركة إيرانية.

بعد احتلال العراق، كان من الواضح أن لبعض التيارات التي تستند الى تسييس الدين ، ممثلة بالأحزاب التابعة لنظام ولاية الفقيه وحركة الإخوان المسلمين في العراق، الدور الأبرز في مساعدة الولايات المتحدة الامريكية ، وبذلك انتعشت أدوارهم بالتنسيق التام فيما بينها. وعلى الرغم من أن تحالفهما كان مندرجاً تحت مسمى (التحالفات الشاذة) إلاَّ أن ماجمعهما كان هدف إسقاط ما يطلقون عليها (الأنظمة الكافرة). وأصبح من الواضح أن الاستعمار الأميركي والصهيونية وجدا في التحالف معهما فرصة ذهبية، لأنه من دون هذا التحالف لا يمكن تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يقوم على مبدأ إعادة تفتيت الوطن العربي على أسس طائفية وعرقية.

وإذا كان دور بعض الحركات التي تعتمد على تسييس الدين يستند إلى تلك الأهداف التفتيتية، فقد كان حصادها التخريبي وفيراً في كل من العراق، وليبيا وسورية واليمن والجزائر، كما كان واعداً في تونس ومصر لو لم تسقط تجربتها بعد فترة قصيرة من وصولها إلى الحكم. ولأن الأنظمة الرسمية العربية، والكثير من الحركات الشعبية العربية الأخرى، لا تمتلك الإمكانيات الفكرية أو التنظيمية أو إرادة الاستمرار في مواجهة تلك الحركات، لذا فإن الجواب على السؤال الذي يفتش عن طرق الخلاص، لن يكون سوى بإعادة إنعاش القوى والحركات الوطنية والقومية اولا ً. ولأن هذه القوى ستبقى عاجزة عن القيام بتوحيد جهودها من دون استنادها إلى حركة قومية محورية، لها امتدادات على كل ساحات الوطن العربي، والإمكانيات الفكرية، والإرادة والتجربة في مواجهة حركات التكفير التفتيتية، لذا فلن تجد تلك القوى الوطنية والقومية غير حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يمتلك القيم وأدوات الفكر والتنظيم والنضال الجامعة.

4- ضرورة البعث في مواجهة أثر العولمة الاقتصادية على الوطن العربي

إذا كانت الأسواق الاستهلاكية تشكل عاملاً أساسياً لترويج السلع التي تنتجها المصانع الغربية منذ بدأت الثورة الصناعية في أوروبا منذ اكثر من قرنين من الزمان ، فإنها أصبحت من أهم مهمات الرأسمالية العالمية في الوقت الراهن . ولهذا انتعشت أيديولوجيا (اقتصاد السوق) اكثر من أي وقت مضى وحوَّلتها الدول الكبرى إلى ثقافة عالمية،  وذلك كواحدة من عوامل العولمة الاقتصادية الاخرى . وهي تهدف فيما تهدف اضافة  لذلك الى تقليص الحاجة الى الطاقة النفطية العربية التي يعتمد عليها الاقتصاد الغربي بشكل كبير ، والبحث عن مواطن الايدي العاملة الرخيصة ، والى التخلص من مشاكل التلوث البيئي في الغرب عن طريق تصدير الصناعات التقليدية المنتجة لهذا التلوث الى الشرق وغير ذلك .

 ولقد افرزت العولمة الاقتصادية هذه قوى اقتصادية لعل من ابرزها هي الشركات العابرة للحدود او المتعددة الجنسيات . ومن أجل تنفيذ مهام الاخيرة دون معوقات او قيود اصبح إلغاء دور الدولة في قيادة الاقتصاد المحلي، وتسليم تنظيمه إلى طبقة التجار والصناعيين، تحت أقنعة حرية التجارة في داخل الدول، أو في تعميم ثقافة (حرية التجارة العالمية) مطلباً ملحاً لهذه الشركات وللعولمة الاقتصادية . ووعياً بكل هذه المتغيرات الجديدة على الوطن العربي ولخطورة أيديولوجيا (عولمة الاقتصاد) وآلياتها الخطرة ، فقد لعب البعث دوراً مهماً في رفض هذه العولمة نظرياً، وفي رفض تنفيذها  والتصدي لذلك على أرض الواقع.

و من الموضوعية  في هذا المجال أن نميِّز بين عولمة الأفكار كأداة للتواصل الإنساني، وبين العولمة الثقافية والاقتصادية بالمفهوم الرأسمالي الاستغلالي التي تشكل أحد أبرز المتغيرات العالمية في عصرنا الراهن والتي تلقى بظلالها على الوطن العربي ، وتفرز تحديات بحاجة الى مواجهتها وايجاد الحلول لكل منها وبما يواكب العصر الراهن ومتطلباته.

إن التلاقح بين الثقافات العالمية، هو ظاهرة انسانية حضارية ساهم فيها العرب أخذاً وعطاءاً على مر العصور، وهذا ما تؤكده حالة التواصل المعرفي في كل مراحل التكوين الحضاري القومي العربي، وما تؤكده حقيقة استفادة الغرب من الفكر العربي منذ قرون عديدة.

وبالنسبة الى العولمة المعاصرة بأبعادها الاقتصادية وغير الاقتصادية، فلا بد من الإشارة إلى أن مشروعية التبادل الاقتصادي بين الدول والأمم والشعوب، تكون صحية عندما تقوم على مبادئ تبادل المنافع والتكامل والندية والمعاملة بالمثل. إلا أن نظام العولمة الاقتصادية السائد في عصرنا الراهن قائم على أساس الاستغلال والتبعية، وإطلاق العنان لمبادئ (اقتصاد السوق) الذي يسخِّر الثقافة والإعلام، والعلاقات السياسية، واستخدام شتى وسائل الضغط العسكرية وغيرها مما يسمى بقوى الضغط الناعمة، في سبيل منفعة رأس المال العالمي وأصحابه ودوله، ضارباً عرض الحائط كل مبادي الاستقلال والسيادة والتوزيع العادل للثروة وأبسط قيم العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.

وفي هذا الجانب، يشكل فكر البعث الجواب الأنسب إلى ما تواجهه الأمة من تحديات في هذا المجال. إضافة إلى أن الدور الذي لعبه عملياً، قد شكل ريادة في النظرية والتطبيق من شأنه ان يغني التجربة العربية. ففكر ونضال البعث الذي جمع بين المبادئ الاشتراكية، كوسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية، واستنهاض قدرات الأمة ومواردها، وبين إبقاء الفرصة مفتوحة للقطاع الخاص للمساهمة في بناء المجتمع في حدود مدروسة وتحت تخطيط وتوجيه الدولة، يشكل الموازنة العملية بين المركزية والمرونة المطلوبة التي من شأنها توفير أفضل الحلول للأمة العربية لمواكبة متطلبات عمليات التنمية المستدامة، والتنافس العالمي في الانتاج ، وصعود القوى الجديدة في الصين وجنوب شرق آسيا والهند والبرازيل ، ومتغيرات العصر الراهن الأخرى وما تجلبه من تحديات. 

ولقد كان البعث رائداً في تشخيص تلك المتطلبات والحلول منذ البداية. فقد تضمنت عقيدته ذلك منذ أن وُضع دستور الحزب، حيث أكَّد الدستور، وكل الكتابات النظرية التي عالجت هذا الجانب، كما أكدته التجربة العملية لثورة تموز للعام 1968 في العراق. ونجد تجسيد ذلك في المبادئ الموثقة التالية :

-المبدأ الأول: تأكيد بناء الاقتصاد على أسس قومية:

 لقد جاء في المادة 26، من الدستور: إن الحزب (يؤمن بأن الثروة الاقتصادية في الوطن العربي ملك للأمة).

-المبدأ الثاني: دور الدولة في تنظيم الاقتصاد:

 لقد جاء في المادة 29، إن (المؤسسات ذات النفع العام وموارد الطبيعية الكبرى ووسائل الإنتاج الكبير ووسائط النقل ذات الاستثمار الكبير ملك الأمة تديرها الدولة مباشرة وتلغى الشركات والامتيازات الأجنبية).

-المبدأ الثالث: حماية الإنتاج الوطني وحماية المستهلك:

لقد تضمنت  المادة 37  أن (تتخذ الدولة الإجراءات التنظيمية في مجال التجارتين الداخلية والخارجية لإلغاء الاستغلال بين المنتج أو المستورد وبين المستهلك، ولحماية الإنتاج الوطني ضمن البرنامج الاقتصادي العام، وبحدود المصلحة العامة للاقتصاد القومي).

-المبدأ الرابع: أولوية التنمية الاقتصادية:

 جاء في المادة 38 من دستور البعث : (يوضع برنامج شامل على ضوء أحدث التجارب والنظريات الاقتصادية لتصنيع الوطن العربي وتنمية الإنتاج القومي وفتح آفاق جديدة له وتوجيه الاقتصاد الصناعي في كل قطر بحسب إمكانياته وبحسب توفر المواد الأولية فيه).

-المبدأ الخامس: التنمية البشرية

 لقد اعتمدت ثورة 17 تموز  1968 في العراق بشكل واسع استراتيجية تنمية بشرية عملاقة حققت انجازات مشهود لها على صعيد بناء الانسان وتنميته في كافة المجالات ولاسيما في القطاعين التربوي والصحي، حتى خرج العراق من فئة دول العالم الثالث في هذين المجالين بموجب معايير الامم المتحدة واصداراتها الرسمية .

ويكفي هنا، وانتظاراً للقيام بدراسات موسَّعة عن تلك التجربة، أن نؤكد على العمل الريادي في الجانب النظري من المبادرات الاقتصادية الثورية لتجربة البعث الاشتراكية ، وكذلك دوره الريادي في العديد من جوانب التطبيق العملي لها .

إن أهداف العولمة الاقتصادية في المفهوم الرأسمالي وما تتضمنه من آليات وما تفرضه من  تحديات على حاضر ومستقبل الأمة العربية، لا يمكن أن تتم مواجهتها بالانغلاق والتقوقع على الذات ، وإنما بالانفتاح على العصر، ومواكبة متغيراته، والتفاعل مع تجارب الامم الحية من حولنا. وتشكل تجربة البعث الغنية المستندة الى التطبيقات الاشتراكية ذات الأبعاد الوطنية والقومية والإنسانية، بصفتها النظام الاقتصادي – الاجتماعي المناسب، إضافة إلى فكره المنفتح على العصر،  يشكل كل ذلك ينبوعاً تنهل منه الأمة الاجابات الكفوءة، والكثير من الحلول الناجعة، التي من شأنها تلبية حاجات أمتنا العربية وضمان حفاظها على ثرواتها وتنميتها لأجيالها القادمة.

Author: Medhat