لماذا حزب البعث؟ الحلقة الرابعة (4/7)

لماذا البعث… قومياً وعربياً

(مهامه التوحيدية والتحررية)

لا تعاني أمة من الأمم ما تعاني منه الأمة العربية. فمن خصوصياتها أنه في الوقت الذي انهارت فيه الإمبراطورية العثمانية، آخر إمبراطورية في التاريخ، لجأ كل شعب ينتسب إلى قومية من القوميات التي كانت تابعة لها إلى بناء كيانها السياسي الوحدوي باستثناء الشعب الذي ينتمي إلى الامة العربية، فقد حالت الدول الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى دون وحدته السياسية و تحقيق نموذج (دولة- الامة ) المعاصر من خلال بناء الدولة المدنية الدستورية، وكان ذلك عن سابق تصور وتصميم.

بالإضافة إلى عوائق الوحدة الخارجية نشأت في اقطار الوطن العربي تيارات وقوى وأحزاب وحركات لا تعترف بالمفاهيم القومية، ولا بالمفاهيم الوحدوية السياسية، وشكلت على مدى قرن من الزمن مضى عائقاً داخلياً أربك حركة القوميين العرب وأدخلهم في معارك وصراعات جانبية. تلك التيارات والأحزاب والقوى، وإن كانت تقف من بعض أهداف الصهيونية والاستعمار على الطرف النقيض؛ إلاَّ أنها في موقفها السلبي، والمعادي في أكثر جوانبه، من المسألة القومية، قدَّمت لهما خدمات جلية عندما اقتطعت جزءاً مهماً من الشعب العربي وعملت على تضليله ثقافياً وسياسياً، وحرفه عن الاهتمام بالوحدة القومية، وليس هذا فحسب، بل وضعته أيضاً في الموقع المعادي للقومية العربية والوحدة العربية.

فيما يلي سنلقي أضواء موجزة على أهداف القوى الخارجية والقوى الداخلية وعلى مواقفها المعادية للفكر القومي، والوحدة السياسية بين أقطار الوطن العربي.

 

أولاً: تحالف الصهيونية والاستعمار الغربي و الفارسي:

إذا كانت الأسباب التي حدت بتلك الدول للحؤول دون تحقيق العرب لوحدتهم السياسية أصبحت معروفة في ثقافتنا القومية، فإن التذكير بها بإيجاز، يدفعنا إلى اختزال تلك الأسباب بموضوعين: الأهداف والوسائل.

1-الدوافع والأهداف:

تاريخياً شكلت المنطقة التي يقع فيها الوطن العربي القوة الصانعة للتاريخ الوسيط في العالم . ففي القرون الوسطى كانت أوروبا تعيش فترة ظلام وتخلف، بينما كان العرب أصحاب أهم حضارتين أنارتا العالم حتى ذلك الوقت، وهما الحضارة الاموية والحضارة العباسية. وبفضل ذلك التقدم الحضاري توسعت الدولة الإسلامية العربية في أوروبا غرباً، ووصلت الى حدود الصين شرقاً. وعلى الرغم من أن ذلك التوسع كان السبب الرئيس في نهضة أوروبا وتقدمها اللاحقين،إلاَّ أن حروباً طاحنة نشأت بين العرب وأوروبا.

وما قيام الدولة  الاموية الاندلسية في إسبانيا  في العام 756 م، واستمرارها  حتى العام 1031 ، واندلاع الحروب الصليبية بين القرنين 11 و 14، والتنافس بين الاسلام والمسيحية، إلاَّ مظاهر لصراع  تاريخي وسم حياة العرب والاوروبيين، وترك بصماته النفسية والتربوية في أوساط أوروبية كثيرة سعت إلى إخضاع العرب بغزو وطنهم وإضعافه ونهبه واضطهاده .

فالتاريخ وأحداثه ليس بعيداً عما جرى ويجري في القرون الاخيرة. بل إنه أحد أهم محركات الغرب في غزوه واستعماره وعدائه للعرب. وما قاله الجنرال الفرنسي غورو عندما وصل الى قبر صلاح الدين الايوبي في دمشق ( ها قد عدنا يا صلاح الدين)، وما قاله بوش الصغير عندما تم غزو العراق، ووصف الحرب بأنها حرب صليبية، إلاَّ مثالين واضحين لوجود أوساط أوربية وأمريكية، تحركها دوافع تاريخية ودينية اضافة للدافع الاستعماري ، بل إن الدافع الاستعماري تغلف بغطاء ديني وثأري في حالات كثيرة.

أما دوافع الاستعمار وأهدافه في المنطقة فتعود إلى أن بناء كيان عربي موحد سياسياً سيعرقل أهداف الدول الغربية في السيطرة على الوطن العربي الممتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي. فالسيطرة على هذه البقعة الجغرافية قد انطلقت  من دوافع وأهداف معينة اهمها  التالي:

أ-الاستيلاء على منطقة ذات أهمية استراتيجية جغرافية تربط الغرب الأوروبي والأميركي بالشرق الأقصى الهندي والصيني.

ب- الاستيلاء على خزان اقتصادي غني بالبترول والثروات الطبيعية يشكل العصب الأساسي للآلة الصناعية الغربية الحديثة. وينطبق الأمر على الآلة العسكرية الغربية، وهي الحقيقة المشتقة من مبدأ كارتر حيث تبنت ادارته في النصف الثاني من السبعينيات في ضوء دروس حرب اكتوبر 1973 ما سمي بـ(مبدأ كارتر) الذي اعتبر اقليم النفط وهو الخليج العربي ، جزءاً من مكونات الامن القومي الامريكي. وهي تمنح من يسيطر عليه القدرة على السيطرة على العالم. ولهذا فإن أي تهديد لتدفق النفط الى امريكا وحلفائها، أوروبا الغربية واليابان، سيكون دافعا لمنع ذلك بما في ذلك خوض الحرب، وهو تغيير في اهم مفاهيم الجيبولتيك، وهو المفهوم القائل (من يسيطر على اوربا يسيطر على قلب العالم)،  فصارت وفقاً لمبدأ كارتر (من يسيطر على النفط يسيطر على العالم).

جـ- الاستيلاء على خزان بشري يُعد أحد أهم الأسواق الاستهلاكية للسلع الصناعية التي تنتجها المصانع الغربية الرأسمالية.

2-الوسائل:

بعد أن أصبحت الإمبراطورية العثمانية في أعلى درجات الانهيار، وأصبحت بحال ما عرَّفت عنه الدول الاستعمارية بمثابة «الرجل المريض»، كانت تلك الدول تخطط لوراثتها منذ أواخر القرن التاسع عشر، و كان من اللافت أن الحركة الصهيونية العالمية قد ظهرت للوجود في العام 1897  بعد ان تم اختراع تقطير النفط عام 1853، وتم الحصول منه على الكيروسين ، وهكذا تحول النفط من مادة ثانوية إلى أهم طاقة في عصر الصناعة الحديثة، وتحولت مناطق وجوده الى أهم مناطق الصراع الاستعماري. في تلك الحقبة بالذات اختيرت فلسطين لتكون وطناً لليهود، لأن منطقة الهلال الخصيب والخليج العربي والجزيرة العربية كانت معروفة بأن فيها نفطاً منذ قديم الزمان، وعلى الرغم من أنه قبل ذلك كانت عدة مناطق مرشحة كدولة لليهود في افريقيا والاتحاد السوفيتي. فالغرب الاستعماري دفع لانشاء المنظمة الصهيونية التي اختارت فلسطين بدافع استعماري قبل كل شيء. وبهذا المعنى التاريخي فالصهيونية نتاج الظاهرة الاستعمارية،  وهي ليست مستقلة عنها على الأقل في مرحلة إعلانها. وعن ذلك يمكننا تلخيص المراحل التاريخية التي نضجت فيها الأيديولوجيا الاستعمارية بالخطوات التالية:

– الخطوة الأولى عقد المؤتمر الصهيوني الأول في العام 1897:

 نجح تيودور هرتزل في الترويج لفكرة استعمار فلسطين وإقامة وطن لليهود هناك. وتبلور ذلك النجاح في عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل بسويسرا عام 1897، وكان من أهم نتائجه إقامة المنظمة الصهيونية العالمية لتنفيذ البرنامج الصهيوني الذي ينص على أن «هدف الصهيوني هو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين يضمنه القانون العام».

-الخطوة الثانية عقد مؤتمر كامبل بانرمن في العام 1905:

 هو مؤتمر انعقد في لندن في العام 1905،واستمرت جلساته حتى العام 1907، بدعوة سرية من حزب المحافظين البريطانيين، بهدف ايجاد آلية تحافظ على تفوق ومكاسب الدول الاستعمارية،إلى أطول أمد ممكن. وضم إلى عضويتهكلاً من بريطانيا، وفرنسا، وهولندا، وبلجيكا، وإسبانيا، وإيطاليا.وفي نهاية المؤتمر خرجوا بوثيقة سرية سموها «وثيقة كامبل». وهو أخطر مؤتمر حصل لتدمير الأمة العربية وكان هدفه إسقاط النهضة وعدم استقرار المنطقة.

اعتبر المؤتمر أن مصدر الخطر الحقيقي على الدول الاستعمارية، إنما يكمن في المناطق العربية من الدولة العثمانية، لا سيما بعد ان أظهرت شعوبها، في أواسط القرن التاسع عشر، يقظة سياسية ووعياً قومياً ضد التدخل الأجنبي والهجرة اليهودية. كما ان خطورة الشعب العربي تأتي من عوامل عدّة يملكها، وهي: وحدة التاريخ، واللغة، والثقافة، ووحدة الهدف، والآمال، وتزايد السكان، إضافة لوجود مادة اكتشفت اهميتها الكبيرة في ضمان ديمومة النظام الاقتصادي الراسمالي وعولمة تصدير السلع الصناعية الغربية وهو هدف جوهري وطاغ على ما عداه، ذلك هو النفط.

 ورأى المؤتمر ضرورة العمل على استمرار وضع المنطقة العربية متأخراً، وعلى ايجاد التفكك والتجزئة والانقسام وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة للدول الأوروبية وخاضعة لسيطرتها. ولذا أكد المؤتمر على فصل الجزء الأفريقي من الوطن العربي عن جزئه الآسيوي، وضرورة إقامة الدولة العازلة بينهما، على أن تكون عدوّة لشعب المنطقة، وصديقة للدول الأوروبية.

-الخطوة الثالثة بعد الحرب العالمية الأولى، في العام 1917:

حددت الدول المنتصرة في الحرب، وكانت فرنسا وبريطانيا تمثلان طليعتها، وسائل ضمان تفتيت الوطن العربي، وهما:

أ-اتفاقية سايكس بيكو التي رسمت خطوطاً جغرافية بين أجزاء الوطن العربي، واعتبرت كل جزء منها دولة كاملة السيادة. وتوزَّعتها كحصص فيما بينها، وأعلنت كل منها انتدابها على الأقسام التي حددتها تلك الاتفاقية.

بـ-وعد بلفور، أعطاه وزير خارجية بريطانيا للصهيونية العالمية، من أجل بناء ما يسميه «الوعد» وطناً قومياً لليهود.

واستمرت بريطانيا وفرنسا بفرض سيطرتهما على المنطقة العربية إلى أن ورثتهما الولايات المتحدة الأميركية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، واحتلت موقع الصدارة في التأثير على المنطقة العربية واحتوائها اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وأمنياً، فتكون قد استفادت مما أسسته الدولتان، ولكنها لم تغيِّر من استراتيجية الهيمنة ومن احتضانها للكيان الصهيوني شيئاً، وإنما أخذت منذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين تعد لاستراتيجية تفتيت أخرى تقوم على قواعد (التفتيت الطائفي العنصري) للوطن العربي، وهو ما عُرف لاحقاً بـ(مشروع الشرق الأوسط الجديد)..

جـ- اعاقة المشاريع النهضوية العلمية والتقنية :

 لم تغفل القوى الاستعمارية طيلة هذه الفترة هدفاً جوهرياً، وهو منع العرب من اكتساب العلوم المتطورة والتكنولوجيا الحديثة. ولهذا كانت عمليات تدمير اي تجربة نهضوية عربية أحد أهم أساليب الاستعمار الغربي والصهيونية. وهذا ما حدث لتجربة مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ولتجربة البعث في العراق، حيث دمرتا بتخطيط مسبق منعا للعرب من تحقيق اي نهضة حضارية قائمة على التقدم الصناعي والعلمي، وكان هذا الهدف احد اهم اسس تقرير لجنة بنرمان .

إن أهداف الاستعمار والصهيونية أصبحت واضحة تتلخص بمنع الوطن العربي من تحقيق وحدة أقطاره السياسية والاجتماعية من جهة وحرمانهم من اكتساب العلوم الحديثة، وإن حصلوا عليها فيجب تدمير القطر الذي حقق ذلك من جهة ثانية. وكلما أعيتهما وسيلة تقومان بابتكار أخرى.

د- مشروع الشرق الأوسط الجديد:

 تم التفكير به في أواسط السبعينيات من القرن العشرين، وكُلِّف بإعداده مجموعة من الخبراء، منهم زبغنيوبريجنسكي الذي طرح نظرية (قوس الازمات)، والتي  تتمثل باستخدام الإسلام في مواجهة الالحاد السوفيتي . إضافة الى مشروع برنارد لويس، المفكر الصهيوني. والذي وافق عليه الكونغرس الأميركي في جلسة سرية في العام 1983م ، وتمَّ اعتماده وإدراجه في ملفات السياسة الأمريكية الإستراتيجية المستقبلية وهى الإستراتيجية التي يتم تنفيذها الان.

 ويتضمن المشروع استراتيجية تفتيت الوطن العربي، ومنطقة جواره الجغرافي، ليس على أساس خطوط  جغرافية، بل على أساس خطوط أيديولوجية طائفية وعرقية. أي بناء دويلات طائفية وعرقية، وهي تؤسس لمشاريع اقتتال دائم فيما بينها. وبذلك تصبح أي دعوة للوحدة العربية في طي النسيان، لأن كل دويلة طائفية او عنصرية ستعمل للمحافظة على كيانها المستقل، وستستعين حكماً بقوى خارجية تساعدها على حماية كيانها في مواجهة الكيانات الأخرى خاصة المجاورة لها.

وفي هذا المخطط وُضع لإيران دور أساسي في مرحلة تقسيم الاقطار العربية، إذ أن فشل قوى الاستعمار – البريطاني والفرنسي – والصهيونية في تحقيق اهم اهدافهما وهو تقسيم الاقطار العربية، اجبرهما على اعتماد إيران لتقوم بهذا الدور، لانها تمتلك ادوات بشرية داخل الاقطار العربية – الجاليات الايرانية او الطائفيين – خصوصاً في العراق، وهي قوى يمكنها نشر الفتن الطائفية وتهديم الوحدة الوطنية أو إضعافها من الداخل، وهو أحد أهم شروط اختراق الاقطار العربية. ولهذا يلاحظ أن الدور الإيراني تحول من دور مساند لقوى الاستعمار والصهيونية في عهد الشاه الى دور المهدم الرئيس بعد استلام الملالي مقاليد السلطة في إيران في العام 1979. وبعد إعلان قيام نظام (ولاية الفقيه) الذي أعلن شعار (تصدير الثورة)، وهذا يعني اختراق حدود الأنظمة القومية وإثارة الغرائز الطائفية والمذهبية فيها ووضعها تحت قيادة (الولي الفقيه). وبتلك الأهداف أخذ النظام الجديد يشكل خطراً يوازي خطورة المشروع الاستعماري الذي خطَّط لتقسيم الوطن العربي على أسس طائفية وعرقية. وأصبح يشكل الخطر الأهم لوحدة الاقطار العربية في العراق وسورية واليمن ولبنان، والمهدد الأخطر لعروبة دول الخليج العربي، ولكافة الاقطار العربية في عهد خميني وخامنئي .

إن وجود نظام الملالي (ولاية الفقيه) واستخدامه لغطاء الدين والطائفة شكل بالمعايير الستراتيجية الخطر الرئيس على العرب منذ بدايته، وتكرس ذلك بعد غزو العراق في العام 2003 ، ولهذا اعتبر البعث من خلال خطابات ورسائل  الامين العام للحزب الرفيق عزة ابراهيم ان الخطر الايراني يسبق في تأثيراته المدمرة الخطرين الصهيوني والأمريكي (باعتباره صاحب المشروع التفتيتي للوطن العربي على أسس طائفية ، وبذلك فإنه يشكل الأداة الضاربة المباشرة لهما في المنطقة )، وإن هذا الخطر حوَّل قضية العراق وسورية واليمن وليبيا وغيرها الى قضايا مركزية مثل القضية الفلسطينية. وأصبحت تشكل هدفاً مركزياً في مشروعه الطائفي نتيجة استهداف الهوية القومية لكافة الاقطار العربية. فأصبح التحالف الثلاثي الامريكي – الصهيوني– الايراني مصدر الخطر الرئيس على الامة العربية . 

 

ثانياً: الدعوات الأممية العابرة للقوميات:

لا شك بأن وحدة الإنسانية حلم جميل، خاصة على قاعدة المثل العليا المطلقة. لكن هذا الحلم الجميل تحوَّل على مدى المسار التاريخي للبشرية منذ نشأتها إلى كوارث وأزمات طالما عانت منها الشعوب في مرحلة ما تُعرف بأطوار النزعات الإمبراطورية. وفي تلك الأطوار سادت مبادئ سيطرة شعب من الشعوب على مقدرات الشعوب الأخرى، واستعبدتها واستغلت ثرواتها واعتاشت على جهد الشعوب المغلوبة.

وإذا كنا نعتبر أن أهداف الاستعمار والصهيونية هي نفسها أهداف النزعات الإمبراطورية التي سجلها التاريخ، فإننا نعتبر أيضاً أن الدعوات الأممية التي سنتكلم عنها هي نزعات إمبراطورية، عابرة للقوميات، وإن أتت بأثواب فلسفية مادية، كالمشروع الماركسي. أم بأثواب دينية ما ورائية كمشاريع إعادة الخلافة الإسلامية التي تعمل من أجلها التيارات الدينية السياسية لـ «الإخوان المسلمين»، و«ولاية الفقيه».

1-الأممية الماركسية:

استناداً إلى مبادئ الماركسية، التي اعتبرت أن الفكر القومي هو فكر «شوفيني»، متعصب يعيق تحقيق وحدة الامم ، وقفت الأحزاب الشيوعية العربية موقف العداء من الفكر القومي العربي واستطراداً حاربت فكرة الوحدة العربية.  لكن بعضها غيَّر موقفه من المسألة القومية منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين واعترف بها، إلاَّ أن تلك المواقف لم تتعمَّق حتى الآن ولم تجد لها ترجمة واضحة على أرض الواقع والفكر، فهي لا تزال مترددة حتى الآن باعتبارها استراتيجية ثابتة.

أما من ناحية الأحزاب الشيوعية العربية، وإن كانت منطلقة من موقع العداء للرأسمالية، فقد أدى تحالفها مع الحركة الصهيونية في الأربعينيات من القرن العشرين واعترافها بقيام (دولة الكيان الصهيوني) اذ اعتبرتها الدولة التي ستحمل الديموقراطية للعرب ، حسبما ورد في نصوص الحزب الشيوعي الفلسطيني. وكان وقوفها في موقع العداء للفكر القومي  معتبرة اياه (فكراً شوفينياً)، ومعارضتها لقيام دولة الوحدة بين سورية ومصر، في العام 1958، كانت كلها تؤدي بشكل غير مباشر خدمات كثيرة للمشروع الاستعماري الصهيوني على الصعيد العربي.

وعن ذلك، وتحت ضغط الصراع السوفياتي – الأميركي، منذ بداية الخمسينيات من القرن العشرين، بالتسابق على حيازة مواقع نفوذ في الوطن العربي، فقد تشكَّل  ضغط على الجانب السوفيتي لتغيير مواقفه من القضايا القومية، وخاصة من الفكر القومي العربي، وهذا ما أدَّى منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين، إلى تغيير كبير في مواقف الأحزاب الشيوعية العربية من قضية الفكر القومي والوحدة العربية، والقضية الفلسطينية.

ولم تكتمل حالة الانتقال الجديدة للأحزاب الشيوعية العربية بسبب التفكك والضعف اللذين أصابا معظم الأحزاب اليسارية العربية، وتمَّ تتويجها بانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكيك منظومته السياسية في أوائل التسعينيات من القرن العشرين. ومن بعدها تشرذمت الحركة الشيوعية العربية، وانقسمت على بعضها حيال المتغيرات الأخيرة التي حصلت بعد احتلال العراق. وظهرت أولها في انقسام الحزب الشيوعي العراقي عندما تعاون تيار منه مع الاحتلال الأميركي، وتيار آخر وقف إلى جانب المقاومة الوطنية العراقية. وانعكس هذا الانقسام على مجمل الحركة الشيوعية العربية، التي وللأسف الشديد بدلاً من أن تتوحَّد في مواجهة الاستعمار والصهيونية من جهة، ومواجهة تيارات الإسلام السياسي، وكلاهما يتخذ موقف العداء للقضايا العربية وللفكر القومي العربي من جهة أخرى، فقد انحاز قسم منها إلى جانب النظام الإيراني.

2-الأممية الدينية:

 على الرغم من تأكيد البعد الايماني في الفكر القومي، والربط العضوي بين العروبة والاسلام في النتاج الفكري والثقافي للتيار القومي العربي وعلى رأسه حزب البعث العربي الاشتراكي ، وعلى الرغم من أن دساتير الدول العربية التي آمنت بالقومية العربية وبالفكر القومي العربي قد نصت على أن «الدين الاسلامي هو دين الدولة»، وأن «الإسلام هو المصدر الاساسي للتشريع»، كما وانها كفلت حرية ممارسة الشعائر الدينية وعززت قيمها وثقافتها .. وغير ذلك الكثير من الممارسات والسياسات والإستراتيجيات التي لامجال لحصرها هنا ، والتي تؤكد البعد الايماني في الفكر القومي ، على الرغم من كل ذلك فقد تم افتعال وجود تناقض بين العروبة والاسلام من قبل بعض تيارات الاسلام السياسي التي استخدمت ذلك لمواجهة الفكر القومي العروبي الموحِّد للامة العربية وضربه . فقد تلخص الموقف من الفكر القومي العربي عند تلك التيارات التي استندت إلى تسييس الدين بالقاعدة الغريبة التالية:

«ما وجدت القومية إلاَّ لمحاربة الإسلام». وقد زعم ذلك الموقف ، ومن دون الاستناد الى اي حقائق على ارض الواقع ، ان السبب في ذلك يعود الى (ان القومية العربية تفرق بين العربي وغير العربي وهي دعوة جاهلية) . كما يعتبر أنه لا شرعية لنظام سياسي ما لم يطبِّق (ما شرَّعه الله) . واستناداً إليه اعتبر أن الأنظمة القومية الحديثة هي (أنظمة كافرة). وتحت ذريعة هذه القاعدة، وضعت تلك التيارات الدعوة الإسلامية في مواجهة حادة مع الدعوة القومية؛ واعتبرتها عائقاً أمام مشروع استعادة الخلافة الإسلامية، بمفاهيم التوسع الجغرافي ومفاهيم تطبيق التشريع الإسلامي .

ومن التحليل التاريخي للأحداث نجد ان الموقف المعادي للقومية العربية لبعض تيارات الاسلام السياسي يتغذى في اصوله التكوينية من الدعم والتشجيع الغربي له كما تجسد في اطر الخطط الغربية للسيطرة على الوطن العربي  في بداية القرن العشرين واهمها خطة بنرمان رئيس وزراء بريطانيا التي تبنت ثلاثة اهداف استعمارية وهي :

  • منع اي وحدة عربية
  • حرمان العرب من الحصول على العلوم الحديثة والتكنولوجيا العصرية
  • انشاء كيان عازل بين مشرق الوطن العربي ومغربه في فلسطين يمنع اي وحدة بين جناحي الامة الشرقي والغربي .

ولان هذه الخطة لا يمكن تنفيذها من دون تفييت وحدة كل قطر عربي من جهة ، ومنع وحدة العرب القومية التي تشكل الضمانة الاساسية لتحررهم من القوى الاستعمارية من جهة اخرى ، لذا فقد ادركت تلك القوى  مبكراً ان القومية العربية  تشكل عامل توحيد للعرب بحكم قيامها على مبدأ المواطنة المتساوية للجميع ، بغض النظر عن ديانتهم وطوائفتهم واصولهم الاثنية. فالمساواة في المواطنة هي المانع الرئيسي للتشرذم والتجزئة والدافع للتوحيد بين الاقطار العربية وهذا مسار مناقض للخط الاستعماري ومصالحه .وقد شكل ذلك توافقاً وانسجاماً تاماً مع هدف غربي استراتيجي  اخر وهو منع نهوض العرب الذي يسعى الى تحقيقه التيار القومي العربي ، . لذا فان تحقيق ذلك لن يتم الا باستهداف هذا التيار النهضوي ومشروعه الحضاري.

ومن هنا نجد ان مصلحة القوى الاستعمارية كانت في دعم وتشجيع تيارات الاسلام السياسي ، لانه يحمل في بنيته عوامل التوالد المستمر للكتل والفرق واستحالة توافقها الدائم ، وهذه الحالة هي اهم ما تحتاجه القوى الاستعمارية الغربية منها والاقليمية لتحقيق التفتيت والتجزئة .

لقد كانت هذه الحقائق التاريخية والعوامل  الاسباب الجوهرية لدعم الغرب لتيارات الاسلام السياسي  وتغذيتها سابقا كما في الوقت الحاضر،  من اجل العمل على تحقيق الهدف الرئيسي وهو تدمير عامل التوحيد والتضامن بين العرب وهو القومية العربية .  لذا فقد استغل التحالف الاستعماري والصهيوني، مدعوماً من القوى النظامية العربية السائرة في ركاب ذلك التحالف، تلك الدعوات وعمل على تشجيعها ، فرفدها بكل أشكال المساعدات، منطلقاً من أنها «تعرف كيف تهدم، لكنها لا تعرف كيف تبني» . فقامت بريطانيا بتقديم الدعم المباشر للاسلام السياسي مالياً واعلامياً منذ الثلاثينيات من القرن الماضي في مصر اولا ، واحتضنته على اساس انه مناهض للالحاد والشيوعية . ثم تجلت معاداة القومية العربية عندما نهضت في منتصف الخمسينيات بتأميم قناة السويس في مصر وحصول العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الاسرائيلي عليها ، ثم تم تتويج العمل الاستعماري بانهاء اول تجربة وحدوية بين مصر وسوريا . واستهداف ميثاق الوحدة الثلاثي الذي اعلن بين العراق ومصر وسوريا وتوحيد القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية السورية في قيادة واحدة والذي تم في ظل قيادة البعث عام 1963 ، وذلك بانهاء حكم البعث الاول في العراق في تشرين من العام نفسه .

وقد كانت بداية السبعينيات من القرن العشرين البداية الجدية خاصة بعد ان استهدفت التيارات القومية بمؤامرة امريكية- صهيونية في حرب حزيران من العام 1967 م وما تلاه من توفير البيئة المطلوبة لإنهاء التجربة القومية الناصرية ،  فاستفاد التحالف الاستعماري والرجعي العربي من خدمات التيارات الإسلامية نفسها ووضعها في مواجهة مع الأحزاب القومية.

 وفي نهاية السبعينات من القرن الماضي تم الانتقال الى صيغة جديدة تمثلت في  دعم نظام خميني وجعله  قاعدة لتصدير التفتيت والتجزءة في الوطن العربي ، ولتصفية التجربة القومية الاكثر تحقيقا لأهداف المشروع النهضوي العربي وهي تجربة حكم البعث العربي الاشتراكي في العراق . حيث كانت اهم اسباب ذلك الاستهداف هي هوية النظام القومية وانجازاته المادية والحضارية والعامة ، وهنا نرى الابعاد التكوينية لعداء الاسلام السياسي للقومية العربية  وتغذيته من قبل قوى غربية استعمارية .

واستناداً إلى كل ذلك، وإن بدا أن خطاب أحزاب الاسلام السياسي  يقف على الطرف النقيض من التحالف الاستعماري الصهيوني استناداً إلى ثنائية «الكفر والإيمان»، فإن واقع الأمر لم يكن كذلك، فقد ارتقى تحالف المتناقضين إلى مستويات أعلى خاصة في مرحلة الإعداد للعدوان على العراق، عندما شاركت تلك الاحزاب المخابرات الأميركية في التحضير للاحتلال ، واشتدت عرى التحالف بينهما بعد احتلاله، إذ شاركت في العمليات العسكرية. كما عملت على إنجاح ما سُميَّ بـ«العملية السياسية»  التي أعدَّتها الولايات المتحدة الأميركية في العراق لحماية الاحتلال. وعلى العموم فإن المشاريع الدينية السياسية تؤدي خدمة كبرى لاستراتيجية المشروع الاستعماري «مشروع الشرق الأوسط الجديد»، لأن المشروعين معاً لا يمكن تنفيذهما من دون تفتيت الوطن العربي إلى دويلات طائفية.

وبعد توقف التنفيذ لسنوات بسبب انطلاقة المقاومة الوطنية العراقية، وإلحاق الهزيمة بالاحتلال الأميركي. وبعد الانسحاب الأميركي، وتسليم العراق للنظام الإيراني، ولأن النظام المذكور له مصلحة أساسية بتفتيت الوطن العربي، استأنف التحالف الصهيوني – الأميركي تنفيذ المشروع مستغلاً حالتين:

-حالة التواطؤ الإقليمي

-وحالة الاحتقان الشعبي العربي ضد ممارسات النظام العربي الرسمي.

فاستطاعت امريكا ان تسخر الرفض الشعبي العارم للانظمة الفاسدة والمستبدة والتابعة للامبريالية لتفجير النقمة ضد تلك الأنظمة، ثم تحويل هدفها من ضرب واسقاط الانظمة وتحقيق التحرر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، إلى أكبر كوارث العرب في تاريخهم. ولذلك ساعد التحالف المذكور بعض التيارات السياسية الإسلامية، وفي المقدمة منها حركة الإخوان المسلمين وحركة ولاية الفقيه، للوصول إلى الحكم في كل من تونس ومصر والعراق. ولكن تنفيذ المشروع تراجع في مصر وتونس.

 

ثالثاً: في مواجهة القوى المعادية للقومية لا بدَّ من تنظيم قومي:

ولما كان من أهم وسائل القوى التي تعلن العداء للفكر القومي، وتعمل على إجهاض أهدافه السياسية، تعميم مفاهيم التجزئة في كل أقطار الوطن العربي؛ كان لا بدَّ من وجود حزب قومي  واحد منتشر في الوطن العربي يعبِّر نظرياً عن الأهداف القومية التي تتبناها فروع الحزب في الاقطار العربية؛ وعملياً يقوم بدمج عمل فروعه وحركتها النضالية وفقا لاستراتيجية قومية منبثقة عن استيعاب خصوصيات كل قطر ولكن مع جعلها عبارة عن خصوصيات تكاملية .

ولهذا الأمر، ولأن نضال الحركات القومية العربية وأحزابها في مواجهة عوائق الوحدة الخارجية والداخلية، تشكل هماً مشتركاً لها على مستوى الأقطار، أصبحت بحاجة إلى وسائل التنسيق فيما بينها لتتضافر جهودها وتتكامل وتتبادل خبراتها وتجاربها. ومهما كانت وسائل التنسيق متقدمة إلاَّ أنها لا تفي بالغرض المنشود إلاَّ إذا جمعها عامل الالتزام بالمفاهيم الواحدة التي اتفقت على مضامينها، وكذلك الالتزام بوحدة التحرك من أجل تعميمها. والاستجابة لهذه الحاجة لا يمكن أن يوفرها إلاَّ حزب على المستوى القومي تقوده قيادة قومية لها صفة الإلزام لكل الملتزمين بالحزب، تضخ لهم المفاهيم الموحدة، وتستفيد من نتائج خبراتهم وتجاربهم القطرية.

وتتكامل الحلقات وتتواصل بين فروع الحزب القومية بشكل يشبه تكاملها وتواصلها داخل القطر الواحد، انطلاقاً من الخلية القاعدية على مستوى الضيعة والحي، مروراً بالفرقة والشعبة وصولاً إلى الفرع على مستوى المحافظة، ويأتي القطر ليوحد بين شتى فروع الحزب في القطر الواحد، ويتم تتويج الوحدة التنظيمية على المستوى القومي من خلال مؤسستيْ المؤتمر القومي الذي ينيب صلاحياته لقيادة قومية لفترة زمنية محددة.

وهكذا يشكل الحزب على المستوى القطري فرعاً للحزب على المستوى القومي. بحيث تشرف القيادة القومية على نشاطات فروعها في الأقطار المختلفة، وتوحد اتجاهاتهم النظرية القومية، وتنسق بين نشاطاتهم. وتستفيد من خبراتها ومن إمكانيات أعضائها. ويحصل التفاعل المباشر بين شتى القضايا القومية، ويتم توظيف الطاقة الحزبية على المستوى القومي لخدمة القضايا المركزية او الساخنة.

ولأن الحزب القومي يشكل حاجة نظرية وعملية، تستجيب لمتطلبات النضال القومي، من أجل الأمة العربية، فبغيابه تضعف الحركة الفكرية والسياسية للقومية العربية، حتى ولو كانت الحركة القومية تنتظم في أحزاب قطرية منفصلة إلاَّ أنها تفتقد عمقها الأساسي في تطوير الفكر وفي تنشيط الحركة بسبب غياب العامل المنظم لحركتها، لأنه من خلال القيادة القومية تصبح حركة الاستجابة أسرع وأكثر فعالية.

وأخيراً، ومن خلال نجاح تجربة الحزب التنظيمية على الصعيد القومي، كحاجة وضرورة لترجمة فكره الوحدوي، نتساءل:

أين يقع حزب البعث العربي الاشتراكي في حركة النهضة العربية الحديثة والمعاصرة؟

Author: Medhat