جزب البعث العربي الاشتراكي
لماذا الحزب القطري العربي؟
(مفاهيم وطنية ومطلبية وتحررية)
من غير المعروف على المستوى العالمي مصطلح «الحزب القطري»، و«الحزب القومي». وإنما هي مصطلحات سائدة في الوطن العربي فقط. والسبب يعود إلى خصوصيات تاريخية وفكرية وسياسية وإيديولوجية.
أسست كل شعوب العالم كياناتها القومية في بنى دول مستقلة، وأنظمة سياسية حديثة، لهذا لم يميز المصطلح الغربي، والمصلحات غير العربية، بين «القومية» و«الوطنية». بينما في المصطلح الثقافي والسياسي العربي حصل هذا التمييز، وانتشر الالتباس حول تعريف كل منهما. وقد ميَّز حزب البعث العربي الاشتراكي بينهما بإضفاء صفة «القطرية» على الأقاليم العربية التي فصلت بينها اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية. واستناداً إلى رؤيته الوحدوية استخدم مصطلح «الوطن العربي» كتعبير عن الجمع بين الثنائية التي يتم تعريف «الوطنية» بها، وهي «الأرض/ القوم»، أي الأرض التي يسكنها قوم لهم خصوصياتهم التي يتشاركون بها. ولهذا اعتبر أن الوطن العربي يتمثل بـ«الأرض العربية التي يسكنها قوم عرب»، فيصبح هو الكل الأشمل والأقطار هي الجزء.
وسبب الالتباس بالمصطلح العربي يعود إلى ظروف تاريخية، وعوامل أكثرها خارجي، وأقلها داخلي.
أما الظروف التاريخية فتعود، كما دلَّت الأبحاث، إلى أن التكوين القومي العربي قد حصل عبر قرون عديدة من الزمن. ابتدأ منذ مطلع التاريخ المعروف للوطن العربي، وظهر في حالة تفاعل تاريخي وثقافي، بين الأجزاء المعروفة في بلاد ما بين النهرين، وبلاد الشام، وحوض وادي النيل، وشبه الجزيرة العربية والمغرب العربي…. وكان أكثرها تأثيراً في بلورة الهوية القومية العربية في الألفي عام الأخيرة عامل الدعوة الإسلامية التي انطلقت من شبه الجزيرة العربية، وشملت في مراحل اندفاعتها الرئيسية كل المناطق المحيطة، والمعروفة الآن كحدود شمالية وشرقية وجنوبية للوطن العربي، والجزء الغربي منها، أي المغرب العربي، فاستطاعت الدعوة الإسلامية تجديد وتعميق الصلات بين العرب الذين قاموا قبلها بهجرات جماعية في فترات تاريخية مختلفة، وبدأت الحاجة إلى وحدة الأجزاء العربية بعد الحرب العالمية الأولى، بعد أن انهارت الإمبراطورية العثمانية ، وبنت كل الشعوب الأخرى كياناتها القومية باستثناء العرب. لكن هذه الحاجة، أي وحدة الأقاليم العربية ، كانت مما يخيف الدول الاستعمارية، التي كانت فرنسا وبريطانيا من أهمها في تلك المرحلة وبعد اكتشاف النفط في الوطن العربي في نهاية القرن التاسع عشر دفعت قوى الاستعمار الأوربي لعقد المؤتمر الصهيوني الأول في سويسرا في عام 1897 والذي تقرر فيه إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين، وهي حقيقة تؤكد بأن الاستعمار الأوربي هو محرك اختيار فلسطين لتكون دولة للصهاينة، ثم توالت المؤتمرات والخطط التنفيذية لأهداف الاستعمار الأوربي ومنها تقرير لجنة بنرمان رئيس وزراء بريطانيا والذي وضع خطة تمنع العرب من تحقيق الوحدة العربية ومن حيازة العلوم والتكنولوجيا الحديثة وتدعو لإقامة كيان غريب عازل بين مشرق الوطن العربي ومغربه ولذلك قامت الدولتان المذكورتان بعقد اتفاقية بينهما أطلقتا عليها «اتفاقية سايكس – بيكو»، وفيها وضعتا حدوداً جغرافية بينها، وأطلقوا على كل جزء منها الاسم المتعارف عليه اليوم. ووزعا التركة بينهما، بما يُعرف بعصر الانتدابين البريطاني والفرنسي. ولا يزال العرب يعيشون حتى اليوم عصر اتفاقية سايكس بيكو.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إمعاناً في هدف منع الاقطار العربية من تحقيق الوحدة، فقد وقعت بريطانيا وثيقة وعد لليهود بإعطائهم أرض فلسطين لبناء دولتهم الصهيونية عليها، وهو ما يذكره التاريخ باسم «وعد بلفور».
كان من الطبيعي أن يحقق العرب وحدتهم بعد الحرب العالمية الأولى، لكن عامل الإعاقة الخارجي، تم تعزيزه بنزعات إقليمية محلية، بابتكار صيغ قومية مفتعلة، مثل «الفينيقية، والفرعونية، والهلال الخصيب، والأمازيغية.». ولم تغفل القوى الاستعمارية الأهمية الكبيرة للأقليات في الوطن العربي فاعتبرت دعم الأقليات الاثنية واحياء تراثها وتنميته أحد أهم عوامل تحييد العرب ومنعهم من النهوض. ولهذا برز دعمها لبعض الحركات الانفصالية كوسيلة لإشغال العرب واستنزافهم.
وبعد أن تأكد للدول الاستعمارية أن العامل الإقليمي، كما ترسمه حدود اتفاقية سايكس بيكو ليست كافية للحؤول دون الدعوة إلى الوحدة العربية والعمل على تحقيقها، راحت تصدر دعوة أخرى تقوم على تعميق ثقافة النزعات الطائفية والدينية، لأجل تحويل الانتماء الطائفي والاثني الى هوية تتفوق في مرحلة ما على الانتماء القومي، وبذلك تشرذم الاقطار العربية وتمنعها من ان تتوجه الى تحقيق الوحدة العربية. ومن الضروري التذكير بان قوى الاستعمار والصهيونية وكيانها اعتمدت على خطة أخرى وهي إقامة تحالفات مع الدول غير العربية المحيطة بالوطن العربي في آسيا وخاصة إيران، وفي افريقيا مثل السنغال والدول المجاورة للسودان لأجل تشكيل حزام ضغط واستنزاف آخر للأقطار العربية يحرمها من حرية الحركة والنضال ويقوم بخنقها كلما وصلت مرحلة تتطلب النهوض والتغيير الثوري.
ومن أجل تصعيد حمى الشرذمة والتفتيت للأقطار العربية أخذت القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية، تطبق خطة أخرى في السنوات الأخيرة تحت ستار «مشروع الشرق الأوسط الكبير». ويشكل التعميق الثقافي الطائفي فيه الخطوة الأساسية الأولى لإعادة تقسيم أقطار الوطن العربي إلى دويلات طائفية، وإعادة تشكيلها في كيانات طائفية ومذهبية. وبالعودة إلى الخريطة المعلنة لهذا المشروع تدل على أن المرحلة الثانية من إعادة تشكيل سايكس بيكو جديدة سائرة على قدم وساق.
وأخطر ما في الأمر، ومما يدعو إلى الأسف أن حركات الإسلام السياسي الناشطة تشكل عاملاً مساعداً لهذا المشروع من خلال إعلان عدائها للفكر القومي من جهة، وتأسيس بنى طائفية أينما تستطيع، ونشر الدعوات الطائفية تحت ستار الدعوة للدين من جهة أخرى.
ومن هنا فإن نشاط هذه الحركات هو الأخطر لأنها تحفر في ثقافة الأكثرية الساحقة من الشعب العربي الذي يتقبل تلك الدعوات لأنها مغلَّفة بستائر الدين الإسلامي، خاصة وأن الثقافة الدينية تشكل العامود الأساسي للثقافة الشعبية السائدة.
من داخل هذا السياق التاريخي أخذ الالتباس في تعريف المصطلحات يزداد وينتشر، فأخذت تسود لغة «الوطنية اللبنانية، والوطنية المصرية…»، وتحل بديلاً لما كان يجب أن يكون «الوطنية العربية».
ومن جهة أخرى أخذ التشكيك حتى بمصطلح الوطنية، القطرية منها والقومية، يزداد ويستفحل وتدور حوله الكثير من علامات الإبهام والتشكيك، وتشوَّشت مفاهيم الانتماء، وتاهت مفاهيم الهوية.
وفي تلك المتاهات ضاع المواطن العربي بين أن يكون انتماؤه إلى وطن أم يكون انتماؤه إلى دين؟ أو هل يكون انتماؤه إلى دين أم انتماؤه إلى مذهب؟ او أن يكون انتماؤه لهوية قومية أو لنزعة قطرية!
كما حلت الشكوك حول تحديد الهوية، بين أن ينتمي الإنسان إلى أمة دينية، أم إلى أمة قومية؟ وهل أمتنا عربية، أم أمتنا إسلامية؟
ومن الجدير بالذكر ان كل هذه المسميات هي عبارة عن جزء من تكتيك يهدف الى ارباك الإنسان العربي وحرمانه من القدرة على الرؤية الواضحة وذلك بتشويش المفاهيم عن طريق بترويج مصطلحات وقيم متناقضة ومتداخلة.
إنها باختصار أزمة ثقافية حادة. إنه وإذا كانت مفاهيم القطرية الانفصالية، كالدعوات «الفينيقية، والفرعونية، والأمازيغية…» قد خفتت أصواتها في المراحل الوسيطة من القرن العشرين، فإن استئناف التفكير فيها على صوت عالٍ في المراحل الأولى من القرن الواحد والعشرين أخذ يرتفع من أبواق الكيانية الطائفية والمذهبية والدينية. فالخوف من الأولى، أي الكيانية العرقية، أخذ يزداد بالتدريج، لكن الخوف من الثانية، أي الانفصالية المذهبية هو الذي أخذ يزداد ويتصاعد بشكل لافت أيضاً.
كل تلك الإشكاليات تستثير لدينا الكثير من المسؤوليات، ومن أهمها كيف نحول دون تفتيت القطر إلى دويلات، وكيف نحافظ على وحدة القطر الواحد، كخطوة ضرورية لاستئناف العمل بيسر على طريق الوحدة القومية.
ولأن القوى الدولية تعمل على إنشاء كيانات قطرية تجعل من الهوية الوطنية مركباً من هويات كيانية أصغر ذات طابع طائفي ومذهبي واثني، أصبحت مهمة المحافظة على التكوين الوطني القطري من الانهيار تشكل إحدى المهام الأساسية أمام الذين يعملون على التغيير. ولهذا السبب تكمن أهمية العمل الوطني على مستوى القطر، التي نوجزها على الشكل التالي:
1-ترسيخ مفاهيم الانتماء الوطني على قاعدة الحقوق والواجبات، والاعتراف أن القطر تسكنه مجموعات اثنية، سواءٌ أكان على مستوى العرق أم ألدين أم المذهب.
والأمر كذلك، نعتبر أن التشريعات المدنية التي توحِّد بين حقوق المواطنين وواجباتهم هي التي تشكل الأساس على المستوى الدستوري وعلى المستوى القانوني، ورفض التشريعات التي تستند إلى الأساس الديني أو العرقي، إلاَّ بما يحفظ وحدة العائلة على صعيد الزواج والإرث والحقوق الروحية الدينية. ولكن على ألا تنعكس تلك الحقوق سلباً على وحدة المجتمع الوطني.
2-ترسيخ مفاهيم المساواة بالحقوق والواجبات على مستوى الفروقات الفئوية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، على أن تراعي التشريعات والقوانين مصالح شتى الفئات وتنوعها.
والأمر كذلك، ولأن الصراع الفئوي ما يزال يمثل أحد الأسس في بنيتنا الاجتماعية والاقتصادية، بحيث تسيطر فئات النخبة الاقتصادية على مفاصل الحكم، وهو ما يتيح لها فرصة سن قوانين وتشريعات تكرس مصلحة تلك النخب، لذا فإن النظام الاشتراكي هو الذي يمثل خيار الحزب الاجتماعي والاقتصادي الراسخ لأنه يمنع الاستغلال الفئوي ويقلص الفجوات بين الناس وعليه تبقى على الفئات التي هي عرضة للاستغلال أن تناضل من أجل توحيد الحقوق والواجبات ليس على صعيد التشريع فحسب، وإنما على صعيد التطبيق أيضاً.
وأما على صعيد الصراع الفئوي الاقتصادي، فلن يتم على صعيد اجتثاث واستبدال ديكتاتورية «طبقة» بديكتاتورية «طبقة» أخرى، كما تدعو الماركسية. والسبب أنه طالما هناك تقسيم للعمل مثلاً، بين عمل مهني يتساوى فيه مئات الآلاف، وعمل فني عالي المستوى يتساوى فيه الآلاف، فهناك فروقات ومميزات ينظمها القطاع الاشتراكي بصفته القطاع القائد للاقتصاد الوطني، وهذا الأمر يقتضي وجود امتيازات لأجل تنمية الابداع وتشجيع المنافسة، على ألا تكون الامتيازات فارقة بحيث تؤسس لهوة سحيقة، اجتماعياً واقتصادياً، بين أبناء المجتمع الوطني الواحد. وإن كانت التجارب دلت على الاستفادة من القطاع الخاص إلاَّ أن هذا لا يجيز وجود فئة رأسمالية تعتاش طفيلياً على جهد الآخرين وعرق جبينهم.
وأخيراً سيكون تعريفنا للقطر بأنه الكيان الجغرافي الأصغر في الكيان القومي العربي الأشمل. ولهذا القطر خصوصيات وله عموميات.
فخصوصياته هو أنه من خلال العمل النضالي، تعمل قوى التغيير فيه على تعزيز الثقافة الوطنية ذات البعد القومي على مقاييس بناء الدولة الحديثة أولاً، وتعزيز الثقافة المطلبية التي تهدف إلى جسر الهوة بين الفئات الاجتماعية على قاعدة المساواة والعدالة ثانياً، وكل ذلك يتم عبر إعداد النخبة المثقفة من بين حركات وأحزاب التغيير التي تشكل الجسر الذي يربط بين الأحزاب وقواعدها الحزبية انطلاقاً من أنه «لا تغيير في بنى الدولة من دون تغيير في البنى المعرفية للمواطن في الدولة الحديثة».
ولأن وطننا العربي يتعرض إلى هجمة استعمارية – صهيونية منذ ما يقارب القرن من الزمن، نصنِّف الأقطار العربية في دوائر ثلاث:
-بعضها واقع تحت الاحتلال العسكري المباشر.
-وبعضها الآخر معرَّض للاحتلال العسكري.
-والبعض الثالث واقع فعلاً في دائرة الهيمنة والاحتواء السياسي والاقتصادي.
واستناداً إلى هذا الواقع، نعتبر أن مهمة التحرير من الاحتلال هي من المهمات الخاصة التي تقع على عاتق القوى الوطنية والثورية في أي قطر من أقطار الأمة العربية. وهي المهمة التي تميز النضال القطري عن نضال دول العالم الثالث الاخرى. إلاَّ أنه في بعض الأقطار العربية غير المحتلة ولكنها تخضع بسياساتها للهيمنة الرأسمالية، تتساوى مهماته مع غيره من دول العالم الثالث، فيقتضي العمل للخروج من دائرة الاحتواء والخضوع للهيمنة الرأسمالية.
ومن هنا، فإن الحزب على المستوى القطري العربي يتحمل أعباء المهمات التالية:
– مهمة ترسيخ مفاهيم المواطنة، أي مفاهيم الانتماء إلى وطن هو جزء من الوطن العربي تنصهر فيه النزعات الطائفية والعرقية لتحل مكانها ثقافة المفاهيم الجامعة لكل التعدديات الإثنية.
– مهمة إقامة نظام ديمقراطي حقيقي يضمن حريات المواطنين الأساسية.
– مهمة ترسيخ المفاهيم المطلبية، وهي مفاهيم المساواة بين الفئات الاجتماعية، وردم الهوة بين التعدديات الفئوية.
– مهمة النضال في حالة استحالة العمل السلمي المطلبي.
– مهمة ترسيخ مفاهيم التحرر من الاحتلال، وممارسة مقاومة الاحتلال.
– مهمة بناء نظام اقتصادي اجتماعي اشتراكي يضمن حقوق المواطن ويحرره من الاستغلال ويوفر الفرص الطبيعية لتفتح امكانياته وطاقاته الإنسانية دون عوائق الاستغلال الفئوي.
– مهمة النضال من أجل الوحدة العربية وفقاً للظروف السائدة التي يجب مراعاتها عند إقامة أي نوع من أنواع الوحدة العربية وبأي درجة.
ولكل مهمة برنامجها النضالي النظري، وخططها العملية النضالية. وهي تلك التي تحتاج إلى عمل جماعي لا يمكن أن توفر شروطه ومستلزماته إلاَّ الأحزاب العقائدية المنظمة.
ولأن الوطن العربي يختص بميزة أنه لم يحقق وحدته السياسية تناغماً مع حالته القومية، ولأن قضايا كل قطر تتكامل مع قضايا الأقطار الأخرى، تأتي الحاجة إلى حزب يمتلك شروطاً ومواصفات قومية.
Copyright © 2024 مكتب الثقافة و الاعلام القومي