مِنَ العَوْلَمةِ إِلى الجُزُرِ الاقتصادية: كَيفَ تَتَشَكَّل خَرِيطَة الاقتصاد العَالَمِيّ، وَمَا مَوْقِع الوَطَنِ العَرَبِي ؟

مِنَ العَوْلَمةِ إِلى الجُزُرِ الاقتصادية:
كَيفَ تَتَشَكَّل خَرِيطَة الاقتصاد العَالَمِيّ،
وَمَا مَوْقِع الوَطَنِ العَرَبِي ؟

الهدف : الملف الاقتصادي
الافتتاحية
يشهد العالم حروبا اقتصادية وتحولات متسارعة في هذا المجال سيكون لها تأثيرات كبيرة على وطننا العربي بحكم موقعه وموارده وتحدياته المتنوعة. مما يتطلب وعي وسرعة مواكبة لتلك المتغيرات. ” فلقد كانت العولمة وعداً بالوحدة، لكنها انتهت بترسيم حدود جديدة، أكثر صلابة، وأقل عدلاً.” بهذه العبارة يمكننا أن نلخّص التحوّل العميق الذي يشهده الاقتصاد العالمي في مطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. اذ لم يعد العالم قرية صغيرة، بل عاد، في كثير من جوانبه، إلى “أرخبيل من الجزر الاقتصادية”، كلٌ منها يسعى إلى حماية أسواقه، تأمين سلاسله، وإعادة تعريف مفاهيم السيادة الاقتصادية.
الحدث الأكبر ليس انهياراً اقتصادياً بقدر ما هو انزياح في المسارات: من الانفتاح المفرط إلى الانكماش المحسوب، من التجارة الحرة إلى التبادل المشروط، من التبعية اللوجستية إلى السعي نحو الاكتفاء الذاتي. وليس عبثاً أن نرى اليوم تكتلات اقتصادية جديدة تتبلور: تحالفات تكنولوجية بين الصين وروسيا، اتفاقيات خضراء بين أوروبا وشركائها، قوانين حمائية في الولايات المتحدة تحت لافتة “إعادة توطين الصناعة”، وصعود غير مسبوق للبورصات الإقليمية في دول الخليج العربي.
هذا التحوّل يعيد طرح سؤال قديم – جديد في الوطن العربي: ما موقعنا في هذا العالم المتغير؟ وأي نموذج تنموي يصلح لنا في ظل التكتلات لا السيولة؟ هل نستمر في تصدير المواد الخام كما كنا نفعل في زمن العولمة؟ أم نعيد التفكير في “اقتصاد للبقاء” قادر على التعامل مع الانغلاق العالمي والانكفاء الإقليمي؟ وما هي تداعيات كل ذلك.

تداعيات التحولات العالمية على الوطن العربي:
من التداعيات والمتغيرات المتوقعة هي :
1. نهاية عصر السلع الرخيصة
أدت الحروب التجارية، وانهيار سلاسل التوريد، وتصاعد النزاعات الجيوسياسية إلى ارتفاع كبير في أسعار الغذاء والطاقة والمعادن. بالنسبة لاقطار الوطن العربي، التي تعتمد على استيراد القمح والوقود، فإن هذا يعني تضخماً مضاعفاً، وأزمة مزمنة في الميزان التجاري، ما لم نُعد هيكلة الأولويات نحو الإنتاج الزراعي والغذائي المحلي.

2. صعود الاقتصاد الأخضر
بينما يتحوّل العالم نحو الطاقة النظيفة، لا تزال اقطار الوطن العربي عالقة بين اقتصاد الوقود الأحفوري واللاطاقة. ومع أن لدينا شمساً لا تغيب، ورياحاً لا تهدأ، فإن الاستثمار في الطاقات المتجددة لا يزال محكوماً بالعشوائية وغياب الرؤية والاستراتيجيات الواضحة. وهنا تبرز ضرورة تأسيس “بنك سيادي أخضر”، لتوطين تكنولوجيا الطاقة الشمسية والرياح، عبر شراكات استراتيجية حقيقية.

3. أزمة الثقة الدولية
في ظل استمرار الحروب والصراعات وعدم الاستقرار السياسي في العديد من اقطار الوطن العربي، وتعدد مراكز السلطة، وتآكل المؤسسات، أصبحت تلك الاقطار مُصنَّفة ضمن “الاقتصادات الفاشلة”، ما يعني تراجع الاستثمارات الداخلية والخارجية فيها، وارتفاع تكلفة التمويل، وضعف القدرة على الدخول في تكتلات إقليمية أو شراكات تنموية. والحل لا يكمن فقط في وقف الحروب ووضع حد للصراعات الدموية ودوامة العنف، بل في إعادة بناء العقد السياسي على قاعدة جديدة من الشفافية والاستقرار القانوني والمؤسسي.

4. الفرص الكامنة في جنوب – جنوب
في ظل انسحاب الغرب نسبياً من مشاريع التنمية، تتجه العديد من الدول الإفريقية والآسيوية نحو تعزيز التعاون جنوب – جنوب، في مجالات مثل البنية التحتية، التعليم التقني، وتبادل السلع دون المرور عبر الأسواق العالمية. وهنا يمكن للدول العربية أن تلعب دوراً محورياً في هذا الاتجاه، إذا ما أعادت رسم علاقاتها الاسيوية و الإفريقية، ليس على أساس سياسي فقط، بل اقتصادي-إنتاجي .

الاقتصاد كفعل وطني
اقطار الوطن العربي ليست فقيرة بالموارد، بل في الرؤية والاستراتيجيات المستقرة. وفي ظل تفكك الدولة في العديد منها، يتحول الاقتصاد إلى “جمر تحت الرماد”: حيث تنتشر التجارة غير النظامية، ويزدهر اقتصاد الحروب، وتتآكل القيم الإنتاجية. لكن رغم كل ذلك، فإن هناك قوى حية – من المزارعين التقليديين، ورواد الأعمال الشباب، و خبراء المال والاقتصاد المهجّرين – لا تزال قادرة على إعادة بناء الاقتصاد، لا كأرقام، بل كقضية وطنية.

خاتمة: نحو عقد اقتصادي جديد
في هذه اللحظة التاريخية، نحتاج في اغلب اقطار الوطن العربي إلى “عقد اقتصادي جديد”، لا يكتفي بإدارة الأزمة، بل يطرح سؤال المستقبل بجرأة: هل نريد اقتصاداً تابعاً، أم قائماً على الاكتفاء؟ . هل نكتفي بتصدير الموارد الوطنية الاولية من بترول وذهب ومعادن ، أم نبني قاعدة صناعية وطنية؟ هل تظل بعض اقطارنا أسرى المعونات، أم نؤمن بأن “الثروة تصنعها العقول والايدي العاملة العربية حين تُحرَّر من الحروب والفساد والعوز” ؟.

إن تحوّلات الاقتصاد العالمي الراهنة كبيرة وخطيرة وتجري بوتائر متسارعة. لذا فان مواكبتها تعتبر تحدياً قومياً ووطنياً كبيراً. وهي لا تُفهم فقط من خلال المؤشرات، بل من خلال ما تصنعه من فرص تاريخية. والعاقل من لا ينتظر “ما يُمنح”، بل يبدأ في بناء “ما يُنتزع” بسياسات اقتصادية تقوم على المواكبة ، والثقة، والكفاءة، والرؤية .

ولعل هذا هو التحدي الأكبر أمام الجيل الجديد من الاقتصاديين والاختصاصيين والمفكرين العرب : ليس فقط أن يشرحوا التدهور والخراب ، بل أن يقترحوا البديل – بجرأة القلب، وواقعية العقل، وصدق الالتزام.

Author: nasser