17 تَمُّوزَ/ يُولْيُو 1968: مَا بَيْنَ المُمْكِن القَوْمِيّ وَ اسْتِئْنَافِ المَعنَى

17 تَمُّوزَ/ يُولْيُو 1968:

مَا بَيْنَ المُمْكِن القَوْمِيّ وَ اسْتِئْنَافِ المَعنَى

 

 

أ‌.    طارق عبد اللطيف أبو عكرمة – السودان

 

 

ليس كل ما يُسمّى ثورة يكون كذلك، فالثورات الحقّة لا تُعرّف من خلال مجرد الاستيلاء على السلطة، بل من خلال قدرتها على زلزلة المفاهيم السائدة، وفتح أفق جديد للكينونة الجماعية. وثورة السابع عشر من تموز 1968، في قطر العراق، لم تكن مجرد انتقال سلطوي في سياق اضطرابات المنطقة، بل كانت خطوة وجودية لإعادة تعريف الزمن العربي، عبر استنطاق ممكنٍ قوميّ ظلّ يراود العقل الجمعي منذ تفكك بنيات الخلافة، وتوزع الكيانات، وتناسل الهزائم.

 لعلّ من الضروري وضع ثورة تموز في سياقها التاريخي الأوسع، فهي لم تنفجر في فراغ، بل جاءت بعد مرحلة من الهزائم العربية والصراعات السياسية والانقلابات، في ظل نكسة (1967)، وصعود مشاريع التحرر الوطني، وانهيار آمال القومية في أكثر من قطر عربي. لقد شكّلت تموز، بهذا المعنى، ليس فقط استئنافًا للمشروع القومي، بل نقلة نوعية إنقاذية لروح الأمة العربية من التشظي واليأس.

 

كانت الثورة اعلاناً بأن الإرادة العربية لم تمت

 لقد جاءت تموز لا كإجابة على سؤال سياسي عابر، بل كمداخلة في خطاب التاريخ ذاته. كانت إعلانًا ضمنيًا بأن الإرادة العربية لم تمت مع نكسة حزيران، وأن الفعل التحرري لا يزال ممكنًا حين تمتلك الأمة العربية مشروعاً، وتحرراً معرفياً من البنية التحتية للتبعية. ولهذا، فإن تموز لا تُقرأ كحدث محلي، بل كواقعة فلسفية وسياسية في آن، عبّرت عن لحظة وعي اشتبكت مع أسئلة الكينونة والمصير، لا من موقع الإنفعال، بل من موقع الفعل المؤسِّس.

 دلالات الثورة

 إن دلالات الثورة تكمن في عمق رفضها لواقع التبعية والخضوع، وفي سعيها الحثيث لإنتاج مشروع ذاتي متحرر من الوصاية، متجاوز للحدود المصطنعة، محكوم برؤية وحدوية تحررية نابعة من الأرض والإنسان. فقد حرّرت تموز السيادة الوطنية من مفاهيمها الشكلية، وردّت السياسة إلى معناها الجوهري: أن تكون تعبيرًا عن إرادة جمعية تسعى لإعادة تشكيل العالم. ومن هنا، فإن تموز لم تكن انفعالاً نخبويًا، بل تمثّلت طموح الإنسان العربي البسيط في الكرامة، والانتماء، والعدالة.

 على مستوى الداخل العراقي، أحدثت الثورة تحولات هيكلية في الدولة والمجتمع؛ فقد أُعيد تعريف الدولة بوصفها أداة للتمكين لا القمع، وبدأ الإنسان يستعيد مكانته كمحور لكل تنمية. التعليم لم يعد امتيازًا طبقيًا، بل حقًا وطنيًا، والنفط لم يبقِ مجرد مورد تستنزفه الشركات الأجنبية، بل تحول إلى ذراع سيادية تموّل التنمية وتعيد رسم خريطة العدالة الاجتماعية. هذه المقاربات لم تكن مجرد إصلاحات، بل كانت تعبيرًا عن رؤية فلسفية للإنسان بوصفه قيمة عليا، لا وسيلة إنتاج فقط.

 فمثلًا، شهدت السنوات الأولى للثورة إطلاق حملات لمحو الأمية، وتوسيع مجانية التعليم، وتأسيس الجامعات ومراكز البحث العلمي، وبرز قانون التأميم سنة (1972) الذي أعاد النفط إلى السيادة العراقية، وموّل سلسلة من مشاريع البنية التحتية والتنمية الريفية. لم تكن هذه السياسات مثالية، لكنها حملت في طياتها وعيًا بنيويًا بضرورة ربط السيادة الاقتصادية بالعدالة الاجتماعية. هذه الرؤية تفسر التحول من دولة تابعة إلى فاعل مستقل، كما تجلت في تأميم النفط ومحو الأمية.

 استعادت الثورة الروح القومية من براثن الإحباط

 وفي المجال القومي، استعادت الثورة الروح القومية من براثن الإحباط والتشكيك، ما حدث في بغداد اي (ثورة 17 تموز) أعاد الاعتبار للمشروع القومي بعد نكسة (1967). هذا التوصيف يربط بين الثورة والمشروع القومي الجامع، مؤكدًا أن إنجازاتها تجاوزت الحدود القُطرية.  وطرحت مشروع الوحدة بوصفه ضرورة وجودية، لا ترفًا أيديولوجيًا. لقد سعت إلى أن تكون الدولة القُطرية، بكل محدودياتها، نقطة ارتكاز نحو أفق عربي مشترك، يحفظ الخصوصيات دون أن يغرق في التجزئة، ويستثمر الثروات لا في خدمة مراكز الهيمنة، بل في بناء كيان عربي جديد. وكان في هذا الطرح وعيٌ دقيق بأن القومية ليست عداءً للآخر، بل تحرر من العلاقة غير المتكافئة معه. 

ولم يكن المشروع البعثي (التموزي) حبيس السياسة والاقتصاد فقط، بل امتد إلى الحقول الثقافية والفنية، حيث شهد العراق آنذاك ازدهارًا في الفنون التشكيلية، والمسرح، والسينما، والكتابة، وتأسست مؤسسات ثقافية حملت مشروعًا نهضويًا يروم استعادة الإنسان العربي كمبدع، لا كمتلقٍ فقط.   لقد كانت الثقافة أداة بناء رمزي للهوية، لا وسيلة تزويق للنظام

دعوة لاستئناف الفعل العربي الذاتي

تموز، إذن، كانت مشروعًا لتحرير المفهوم، لا فقط لتحرير الأرض؛ وكانت دعوة لاستئناف الفعل العربي من موقع الذات، لا كمجرد رد فعل على الخارج. إنها أعادت طرح سؤال: (من نحن؟). لكن لا من موقع النوستالجيا، بل من موقع البناء. لقد كانت القومية فيها رؤية حضارية، لا خطابًا عاطفيًا. وحدة، لا لأننا (نحن)، بل لأن شرطنا التاريخي والاقتصادي والسياسي يفرضها.

وحرية، لا بوصفها رفضًا للاحتلال فقط، بل كتحرر من الاستلاب، من الداخل والخارج. واشتراكية، لا كشعار جاهز، بل كأفق أخلاقي للعدالة وتوزيع الثروة وتمكين الفئات المهمشة. أن الفكرة التي حملتها الثورة، والطاقات التي أطلقتها، لا تزالان شاهدة على إمكانية النهوض. فلا يُقاس المشروع فقط بنتائجه، بل أيضًا بأسئلته، وبما فتحه من أفق أمام وعي الأجيال. 

وإذا كان لا بد من استشراف، فإن تموز تعود اليوم لا بوصفها تجربة ماضية، بل كمشروع مؤجل. وأن الثورة ليست يومًا واحدًا، بل مسيرة متواصلة تُقاس بقدرتها على تجديد نفسها أمام تحديات الأمة العربية. وهذا يفسر ضرورة إعادة قراءة تموز اليوم لا كحدث تاريخي، بل كإطار لتجاوز التشظي الراهن.

 إن ما نشهده من انهيارات في البنية العربية، ومن تفكك الهويات الكبرى إلى طوائف وولاءات صغيرة، يؤكد أننا بحاجة إلى روح تموز؛ لا لنعيد تمثيلها كما كانت، بل لنجدد معناها، ونستعيد وظيفتها الأصلية: إعادة توحيد العقل العربي، واستنهاض الإرادة، واستئناف مشروع النهضة.  تموز، اليوم، هي إمكان يتجدد: أن نكون أمة عربية لا تعيش على هوامش التاريخ، بل تكتبه. 

ولعل السؤال الأعمق الذي تطرحه تموز في وجه الراهن المتشظي هو: هل لا يزال بالإمكان أن نقول (نحن)؟ لا على نحو عاطفي أو أيديولوجي، بل على نحو وجودي؟ وإذا كانت القومية العربية كما تجلّت في الثورة مشروعًا للتحرر، فهل لدينا اليوم شجاعة تجديد القومية كمفهوم مفتوح، لا كماضٍ مغلق(فحسب)؟

  وهل نستطيع أن نعيد بناء المشروع النهضوي، لا كأمنية رومانسية، بل كحاجة تاريخية تفرضها وقائع الانهيار؟

 إحياء ذكرى تموز يكمن في استئناف المشروع النهضوي

 تموز، في جوهرها، ليست تمجيدًا للسلطة، بل استعادة للمعنى. ولذلك فإن الاحتفاء بها لا يكون بالحنين، بل بالاستئناف. استئناف سؤال الكينونة العربية، والتاريخ، والمصير. وهذا يفسر ضرورة إعادة قراءة تموز اليوم لا كحدث تاريخي، بل كإطار لتجاوز التشظي الراهن.

 إن ما يعيشه الوطن العربي اليوم من انقسام هوياتي، واستقطاب طائفي، وانهيار للدولة الوطنية، يعيد طرح سؤال تموز بصورة أكثر إلحاحًا: هل ثمة أفق قومي جديد يمكن أن يولد من تحت ركام الحروب والانقسامات؟ وهل لا تزال فكرة الوحدة والتحرر والمساواة قابلة للبعث في ظل اقتصاد السوق النيوليبرالي والتدخلات الإقليمية؟

  وإذا ما قورنت ثورة 17 تموز بثورات عربية أخرى، فربما كانت من القلائل التي جمعت بين مشروع السيادة الوطنية والتكامل القومي، دون أن تقع تمامًا في فخ الشعبوية أو الانغلاق الأيديولوجي، بالرغم مما افرزه تصديها للعدوان والحرب عليها منذ التأميم وحتى ملحمة الحواسم من ملاحظات في القرار العسكري / السياسي إنها، بهذا المعنى، درس تاريخي مفتوح، لا نموذجًا مغلقًا.

 ليست تموز مجرّد تاريخ يمرّ، بل إمكانية تتجدّد، ما دامت الأمة العربية لم تفقد إحساسها بالكرامة، وما دام هناك من لا يزال يصرّ على أن المشروع القومي النهضوي العربي لا يموت، بل صيرورة نضالية لمئات السنين، ويحتاج إلى من يُعزز تشغيل ذاكرته و يستأنف مسيرة  معناه.

 

Author: nasser