إِيرَان بَينَ مَأْزقِ الإِيديُولوجْيَا وَحَقَائِقِ الحَيَاة

 

إِيرَان بَينَ مَأْزقِ الإِيديُولوجْيَا وَحَقَائِقِ الحَيَاة

 

د. عبد الوهاب القصاب

 

أولاً: أزمة الهوية بين الثورة والدولة

 لقد شكلت احداث “الثورة” الإيرانية عام 1979 لحظة مفصلية في التاريخ الإيراني الحديث، لكنها سرعان ما انقلبت من كونها ثورة شعبية متعددة الاتجاهات إلى مشروع إيديولوجي أحادي اللون، ارتكز على فقه ولاية الفقيه كمرجعية سياسية دينية مطلقة وتمت تصفية كل رموز وقيادات الثورة المعارضة لذلك بكل قسوة وبأبشع الصور. هنا وقعت الدولة الإيرانية في مأزق بنيوي: فهي من جهة ترفع شعارات الثورة و”نصرة المستضعفين”، ومن جهة أخرى تتصرف كدولة إمبريالية ذات نزعة توسعية، تفرض نفوذها عبر الجماعات الوكيلة في لبنان وسوريا والعراق واليمن.

 هذا التناقض البنيوي بين هوية الدولة “الثورية” والدولة الواقعية (البراغماتية)، والذي اُريد له ان يكون مجالاً للمناورة وتوزيع الادوار والافلات امام المجتمع الدولي، أضعف مشروعها في الداخل، حيث بدأت تظهر تناقضات بين الأجيال الشابة التي تطمح إلى الانفتاح والتنمية، وبين نخب الحرس الثوري والمؤسسة الدينية التي تهيمن على مفاصل القرار السياسي والاقتصادي بشكل مطلق.

  ثانياً: سقوط نظريتي ” أم القرى” و”إيران 2025″

تبنّى النظام الإيراني بعد الحرب الإيرانية العراقية نظريتين استراتيجيتين حاولتا إضفاء الشرعية على التوسع الإقليمي هما :

 نظرية “أم القرى” التي طوّرها محمد جواد لاريجاني، واعتبرت إيران محور العالم الإسلامي وقلبه النابض، ومن ثم يحق لها قيادته وتوجيهه.

  • نظرية “إيران 2025” التي تبنتها حكومة أحمدي نجاد، وهدفت إلى تحويل إيران إلى القوة الإقليمية الأولى سياسياً واقتصادياً وتقنياً.

 إلا أن هاتين النظريتين تعرضتا للانهيار أمام ضغط الواقع: فقد أدى الانخراط الإيراني في اليمن وسوريا ولبنان إلى استنزاف اقتصادي وعزلة سياسية ودبلوماسية. كما فشلت إيران في بناء نموذج تنموي مقنع لا داخلياً فيها، ولا في الاقطار العربية التي هيمنت عليها. حيث تزايدت معدلات الفقر والبطالة والهجرة في ايران، بينما تفشّت شبكات الفساد بين أذرع الحرس الثوري التي سيطرت على الاقتصاد الوطني ، كما شاع الخراب والتخلف اينما توسعت عربياً.

 ثالثاً: تناقضات سياسة المُكابَرة

 رغم كل المؤشرات التي تدل على تآكل شرعية النظام داخلياً، ورفض شعبي متصاعد تجلّى في احتجاجات متواصلة أعوام 2009، و2019، و2022 (التي تزامنت مع مقتل مهسا أميني)، فإن المرشد علي خامنئي ظلّ يصر على خطاب التحدي والممانعة، دون مراجعة حقيقية لمسار الدولة ومشروعها الإقليمي.

 لقد تبنّى خامنئي خطاب “التحصين الإيديولوجي” والولاء المطلق، وأغلق الباب أمام أي إصلاح حقيقي أو تداول للسلطة. وهو ما أفضى إلى تأزيم العلاقة بين الشعب والنظام، وسقوط جيل الثورة في نظر الجيل الجديد، الذي لم يعد يرى في النظام سوى آلة قمع وشعارات جوفاء.  

رابعاً: هشاشة الداخل رغم تغلغل الخارج

 بينما استطاعت إيران تثبيت نفوذها بالقوة في أربع عواصم عربية هي (بغداد، دمشق، بيروت، وصنعاء)، إلا أنها لم تستطع تحصين الداخل من الانكشاف الأمني والاستخباري. فقد شهدت إيران سلسلة من العمليات النوعية التي طالت منشآتها النووية والعسكرية (كحادثة “نطنز”، واغتيال فخري زاده، والهجمات

السيبرانية)، وكلها تؤكد هشاشة المنظومة الأمنية الإيرانية رغم ضخامة أجهزتها. هذا التناقض يكشف عن خلل هيكلي متمثل في : دولة قادرة على تصدير نفوذها، لكنها عاجزة عن حماية قلبها الداخلي، بسبب فساد أجهزة الدولة، وتفشي النزعة الريعية في الاقتصاد، واعتمادها المفرط على أدوات القمع بدل الإصلاح.

 خامساً: الرفض المجتمعي للهيمنة الايرانية

لقد ادت النتائج الكارثية الانسانية والامنية والاقتصادية والمجتمعية والسياسية وشيوع الفساد والتخلف المُمَنهَج في العراق وسوريا ولبنان واليمن في ظل الهيمنة الايرانية عليها، وانهيار مؤسسات الدولة وتعريض تلك الاقطار الى التفرقة والتفتيت وغياب ابسط مقومات حقوق الانسان فيها، الى طغيان الرفض الشعبي المجتمعي لتلك الهيمنة وتعريتها والعمل على الخلاص منها.

 سادساً:  التحولات الدولية وانحسار الحماية الأمريكية

 شكّلت الإدارات الديمقراطية المتعاقبة منذ أوباما وحتى بايدن حاضنة سياسية للنفوذ الإيراني في المنطقة، سواء بسبب التساهل في الاتفاق النووي، أو الرغبة في الانسحاب المزعوم من الشرق الأوسط وتسليمه عمداً لأطراف إقليمية، متمثلة في إيران. لكن المتغيرات الدولية الجديدة ، خصوصاً بعد الحرب في أوكرانيا، وتصاعد التنافس الأمريكي-الصيني، وبروز تحالفات إقليمية جديدة، جعلت إيران في موقع دفاعي أكثر منه هجومي.

فمع الانفتاح الخليجي المدروس مع الصين ، وتزايد التنسيق الأمني العربي – الغربي، باتت قدرة إيران على المناورة محدودة، خصوصاً في ظل الاضطرابات

 الاقتصادية المتزايدة، والعزلة الدولية الناتجة عن الملف النووي وحجم الانتهاكات الانسانية الحقوقية في الداخل الايراني وفي المنطقة.

 خاتمة: إيران أمام مفترق طرق

 تجد إيران نفسها اليوم أمام مفترق طرق حاسم: فهي إما أن تراجع بنيتها الإيديولوجية وتنخرط في إصلاحات سياسية واقتصادية عميقة، تنهي احتكار السلطة، وتعيد تعريف مشروع الدولة وفق مصالح المواطن الإيراني، لا وفق طموحات النخبة الحاكمة؛ وإما أن تستمر في سياسة الإنكار والمكابرة، وتواجه مزيداً من الانهيار الداخلي، وتآكل نفوذها الخارجي تحت ضغط فشلها من جهة والتحولات الدولية من جهة اخرى.

 إن أزمة إيران ليست فقط في “العقوبات” المُفتَرَضة، أو العداء مع الغرب، بل في مأزقها البنيوي بين إيديولوجيا لم تعد تقنع الداخل، وواقعٍ لم يعد يتحمل العبء التوسعي.

Author: nasser