خالدون في سبيل البعث
من سجل النضال القومي المجيد
حزب البعثُ العربي الاشتراكي هو حزبٌ قوميٌّ وُلِدَ من رحم معاناة الامة من أجل تحقيق وحدتها وحريتها ونهضتها، لتمارس دورها الحضاري بين الأمم بما يَليق بمكانَتِها الكبيرة وإمكاناتها الهائِلة وتأريخها المجيد. وهو فِكرٌ رَصينٌ وراسخٌ، ونَهجٌ ناضجٌ ومُتقدمٌ ينير درب مناضليه وجماهيرَه في كفاحهم لتحقيق أهدافه الاستراتيجية الكبرى في الوحدة والحرية والاشتراكية. وحزبٌ هكذا هي أهدافه، قومية تقدمية انسانية، لا ينهض برسالَتِه الحضارية العِملاقة في بعث أمة بكاملها، الاّ نوعية خاصة من أبناء الأمة المناضلين في صفوفِه، من الذين آمنوا بحقِّ أمتهم في النهضة والتقدُّم لتحتَّل مكانتها الكبرى بين الامم ، فوهبوا حياتهم لتحقيق رسالته، خائضين في سبيل ذلك نضالاً ضروساً وتضحيات جسام لتأصيل الأهداف النبيلة للبعث، وقيمه ومبادئه السامية. انَّهم صُنَّاع الحياة ومستقبل الامة، ورجال العطاء والفداء من أجل تحقيق وحدة أمتهم العربية المجيدة. هكذا هُم مناضلو البعث على امتداد وطنهم العربي الكبير من المحيط الى الخليج.
يسعى هذا الباب الى القاء الضوء على محطات من السجلّ الخالد لمناضلي البعث في الوطن العربي ، وحلقة اليوم هي الجزء الاول من تاريخ البعث في لبنان ، نضال وطني تحت راية الشرعية التاريخية للحزب القومي.
البَعْث في لُبنَان
نِضَالٌ وَطَنِيٌّ تَحْتَ رَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ التَّارِيخِيَّة لِلحِزبِ القَوْمِيّ
د. عبده شحيتلي – لبنان
تمثلت الشرعية التاريخية للبعث في الوطن العربي، بداية، بالاستاذين عفلق والبيطار اللذين تعهدا فكرة البعث على المستويين النظري والنضالي بعد عودتهما من باريس والتعليم في مدرسة التجهيز الأولى في دمشق قبل الاستقالة من التعليم، في بداية أربعينات القرن الماضي والتفرغ كلياً للعمل الحزبي الذي أفضى الى انعقاد المؤتمر التاسيسي الأول عام 1947 .
يصف الاستاذ عفلق علاقته بالأستاذ البيطار فيقول :” في كل عمل من المستوى التاريخي يكون ثمة عنصران، الشخص والقضية. وقد كانت للأخ الحبيب والرفيق العزيز صلاح الدين البيطار مساهمة أساسية في تكوين حزب البعث كفكرة وكحركة. وقد سبق تأسيس حزب البعث ما يقارب العشر سنوات من العلاقة الشخصية والفكرية والرفقة اليومية التي خلقت نوعاً فريداً من التفاعل والتكامل بين شخصين ظلت لكل منهما شخصيته المستقلة المتميزة .
كان بدء التعارف في ديار الغربة أثناء الدراسة الجامعية، ولم يلبث التعارف أن أصبح التقاءً قوياً وصميماً على جملة أفكار ومواقف ووجهات نظر سلوكية ووطنية، ونظرات متوافقة في الأدب والفن والأخلاق، وبعد انتهاء مدة الدراسة وعودتنا الى الوطن للتدريس ابتدأت مرحلة جديدة عملية.
وقد كنا مصممين على جعل مهمتنا في التعليم مجالاً للتبشير بأفكارنا الوطنية والقومية، وبالاتجاه التحرري الاشتراكي الذي آمنا به .. كما كنا مصممين على اتخاذ الكتابة وسيلة للتبشير بتلك الأفكار. كانت السنوات العشر التي سبقت تأسيس الحزب سنين خصبة عميقة الأثر، وقد كانت تجمع الى الشعور بالمسؤولية والالتزام بخط مبدئي، شعوراً ثميناً بالحرية والرحابة.
منذ النصف الثاني من الثلاثينات كانت طريقنا واضحة .. وعندما حزمنا أمرنا في بداية الأربعينات وجدنا في الوسط الطلابي وفي الأوساط الشعبية فيما بعد، تجاوباً عفوياً قوياً دل على نضج المرحلة لتقبل حركة في المستوى الفكري والسياسي والتنظيمي الذي كنا نطمح اليه … منذ ذلك الوقت وحتى اليوم كانت مسيرة حزب البعث هي التمسك بالخط القومي الثوري الاشتراكي الذي اخترناه ورفض أي تفريط بحق من حقوق الأمة وعدم الرضوخ لأي إغراء معنوي أو نفع شخصي ..”(ميشيل عفلق ، في سبيل البعث ج:4 ص 490) .
هذا النص من خطاب الاستاذ عفلق، الذي ألقاه في تأبين الآستاذ البيطار بعد اغتياله في باريس عام 1980، يبين الى أي مدى كانت العلاقة الوجدانية والنضالية وثيقة بين القائدين اللذين أسسا حركة تاريخية بكل المقاييس .
وإذا كان عفلق فيلسوف البعث ومفكره الأبرز، فإن البيطار كان الحاضر الأبرز في ميدان السياسة وممارسة السلطة. وذلك بالشراكة مع القيادة الجماعية على المستويين القطري والقومي التي مثلت الشرعية التاريخية للحزب منذ المؤتمر التأسيس الأول عام 1947 حتى المؤتمر القومي السادس. وقد افضت تداعياته الى ردة 23 شباط عام 1966 التي ابعدت الاستاذ البيطار عن العمل التنظيمي والسياسي لفترة طويلة قبل أن يعاود نشاطه السياسي من خلال إصدار مجلة الإحياء العربي، وافتتاحياته التي أظهرت بوضوح بقائه في نفس الاتجاه الفكري والسياسي الأصيل للبعث . الأمر الذ أدى الى اغتياله ليؤبن ويدفن في بغداد عام 1980.
أما الاستاذ عفلق وبعد المؤتمر القومي العاشر، الذي عقد في بغداد عام 1970، فقد بادر مع رفاقه البعثيين، من الجيلين الأول والثاني، الى إعادة تثبيت ركائز الحزب القومي الفكرية والسياسية والتنظيمية. وبعد انتقاله لممارسة دوره من موقع الأمين العام للحزب في بغداد عام 1974 والإعداد للمؤتمر القومي الحادي عشر عام 1977، باتت الشرعية التاريخية للحزب مرتبطة حصرا بتنظيماته العاملة بإشراف القيادة القومية وفقاً لأحكام النظام الداخلي للحزب .
نشأت تنظيمات متعددة اتخذت من البعث اسماً، واتخذت أفكاره وشعاراته لتضيف اليها صفات اليمين اواليسار أو تطعِّمه بنكهة ماركسية، او تسطحها بما يتناسب مع أهواء السلطات القطرية في القطر الذي تعمل فيه، او النزعات الفردية الخاصة لمُنشِئيها. ولسنا في مجال تقييمها او الحكم عليها في بحثنا هذا. ما يعنينا التأكيد على اهتمامنا حصراً بتاريخ البعث في لبنان الذي كان حاديه وهاديه القيادة القومية ومن يختاره الحزب اميناً عاما له.
وسنقسِّم بحثنا الى ثلاثة أقسام؛ نتناول في القسم الأول بداية التنظيم وانتشاره في لبنان وأبرز محطاته النضالية منذ الإرهاصات الاولى وحتى العام 1962 . ثم ننتقل لتناول المرحلة الثانية الممتدة منذ ما بعد المؤتمر القومي الخامس حتى المؤتمر القومي العاشر الذي انعقد عام 1977.
على ان يخصص القسم الثالث لأبرز المحطات النضالية للفترة الممتدة حتى العام 2005 الذي انعقد فيه المؤتمر الأول لحزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي بعد عودة التنظيم الحزبي لممارسة نضاله العلني في لبنان تحت هذا المسمى المرخَّص قانونياً بعد انحسار تاثير الجهاز الأمني السوري- اللبناني.
ذلك الجهاز الذي تغول على الحياة السياسية اللبنانية لفترة طويلة، وبادر الى إلغاء ترخيص الحزب عام 1992 في سياق استتباعه للعمل الوطني، ودعمه للتنظيمات الحزبية التي تعمل تحت خيمة سياساته او بإدارة واشراف من مخابراته في منطقة عنجر، وزج المناضلين في سجنونه لسنوات طويلة او العمل على تهجيرهم وترهيب بيئتهم وفصلهم عنها .
الإرهاصات الأولى، بدايات التنظيم والإنتشار الجماهيري
تشكل مجموعة مجلدات “نضال البعث ” مرجعاً أساسياً للباحثين في تاريخ الحزب. وقد خصصت هذه المجموعة لنضال الحزب في لبنان ثلاثة مجلدات من بينها الجزء الثامن الذي يتضمن وثائق ونصوص حزبية تعود الى الفترة الواقعة بين العامين 1951 و1961. يشير الدكتور بشير الداعوق في مقدمة هذا الجزء، الذي جمعت نصوصه عام 1972، الى الجهد الذي تم بذله لجمع وثائق هذه الفترة نظراً لأن العديد منها لم يحفظ بسبب ” ظروف العمل السري بالإضافة الى ظروف الحزب الذاتية التي جعلت الحصول على جميع البيانات والنشرات والتقارير شيئاً يقرب من المستحيل”. (نضال البعث،ج8، دارالطليعة بيروت، ط1، آذار 1972) .
هذا النقص الفادح في الوثائق التي لا بد من الإستناد اليها لتكوين صورة واضحة عن الإرهاصات الأولى للبعث في لبنان، وبدايات العمل التنظيمي والنضالي بات بالإمكان تعويضه من خلال العديد من المذكرات والمقابلات والكتب التي نشرها بعض الذين لعبوا أدواراً اساسية في تلك المرحلة. بالاستناد الى هذه المراجع سنعمل، في هذا الفصل، على بناء صورة واضحة عن بدايات البعث في لبنان ، معتمدين منهجاً وصفياً تحليلياً ، يفيد في التوضيح واستخلاص العبر التي تخدم العمل الحزبي من جهة، والعمل الوطني من جهة أخرى.
يؤكد الدكتور سعدون حمادي الذي كان يتابع دراسته الجامعية في بيروت أن تنظيم حزب البعث في لبنان توسع وامتد شمالاً وجنوباً في السنة الأخيرة من دراسته الجامعية، وأن أول ظهور سياسي للحزب في لبنان كان بعد الاحتفال الذي شارك في قرار إقامته، وحضره في مدينة صيدا بمناسبة السادس من ايار عام 1952، وشاركت فيه وفود حزبية من المناطق كلها. ويؤكد الدكتور حمادي أنه هو كان المسؤول عن التنظيم الحزبي في لبنان عندما استلم أديب الشيشكلي الحكم بعد انقلاب عسكري، وأن الحزب في لبنان اصدر بيانأً ضد ديكتاتورية الشيشكلي قام بتعليقه على الجدران مع رفيقه حمد الكربولي الأمر الذي ادى الى اعتقالهما معاً لمدة يومين .
ويشير الى انه انتسب الى الحزب عام 1949 من خلال صلته بحمد الكربولي الذي سلمه نسخة من دستور الحزب كان قد أعطاها له شاب سوري هو حسام اللحام. (اوراق سعدون حمادي ،المركزالعربي للأبحاث ودراسة السياسات، ص 35).
من هذه الشهادة يتبين لنا أن المنتسبين الأوائل للحزب كانوا على صلة بحزبيين تربطهم علاقة مباشرة بأفراد من التنظيم الذي كان قد نشأ وانتشر في سوريا، وأن الكادر الأول الذي شغل موقعاً قيادياً كان من الخلايا الحزبية الطلابية في بيروت. وأن الانتساب الى التنظيم الحزبي في الفترة الممتدة من المؤتمر التأسيسي عام 1947 الى العام 1952 كان يمتد شمالاً وجنوباً وفي البقاع إضافة الى العاصمة بيروت.
فيما يلي من بحثنا سنتابع الإرهاصات الأولى التي سبقت قيام التنظيم بالصيغ التي يحددها النظام الداخلي للحزب، والتي بدأت كما تتفق في ذلك كل الشهادات عن هذه المرحلة، من الحزبيين اللبنانيين الأوائل الذين حضروا المؤتمر التأسيسي. أو تأثروا بأفكار الحزب وشعاراته من خلال صلتهم، المباشرة أو غير المباشرة، بالمؤسسين والبعثيين الأوائل في الفترة الواقعة ما بين عامي 1947 و1952، في مختلف المناطق اللبنانية. وسنبدأ من الجنوب حيث تم تنظيم المهرجان الذي كان بمثابة الانطلاقة السياسية والتنظيمية للبعث في عاصمته صيدا.
يتبع لطفاً ..