العُروبَة تَنتَظِرُ سُبُلَ الخَلاصِ عَلى مَبادِئ السَابِع مِن نيسَان

العُروبَة تَنتَظِرُ سُبُلَ الخَلاصِ عَلى مَبادِئ السَابِع مِن نيسَان
حسن خليل غريب

إن معايير سلامة الفكر القومي العربي تستند إلى حاملين أساسيين اثنين، هما:
– الحامل الأول: مدى تعبيره عن مصلحة الأمة العربية.
– الحامل الثاني: آليات مواجهة كل القوى التي تعمل على تجريد الأمة من كل ما يصب في تلك المصلحة.
وعلى أساس الاستناد إليهما يمكننا مقاربة فكر حزب البعث العربي الاشتراكي من هذه المعايير. وبناء عليهما نتساءل: في الوقت الذي لم يكن البعث يشكل نقطة البداية في انطلاقة الفكرة القومية العربية، اذ سبقته سلسلة من كتابات المفكرين القوميين، إلاَّ أنه شكَّل المرحلة الثانية في تحويل هذا الفكر من البرج النظري إلى أرض الواقع التنفيذي. أي من البرج المتعالي عن التطبيق إلى استراتيجة الواقع التنفيذي الملموس.

بداية سوف نبتعد في تقييمنا لفكر البعث عما اعتبره كثيرون طفرة رومانسية، ولن تلامس الأرضية الواقعية، بل ستبقى حلماً عصياً على التطبيق والتنفيذ.
وإذا كان الأمر كذلك، كما يجنح البعض في مزاعمهم عن رومانسية فكر البعث، وللبرهان على تهافت تلك المزاعم، لا بُدَّ من العودة إلى الوقائع التي تدحض تلك المزاعم من جهة، والتي تثبت واقعية فكر البعث من جهة أخرى.

وسوف نستند إلى مقاييس تاريخية علمية تشمل رؤية القوى المعادية للعروبة خاصة تلك التي نظرت بعين الخوف من خطورة الفكر القومي العربي على مصالحها.

تعود البداية التأسيسية التاريخية لرسم خرائط للوطن العربي، إلى مقررات مؤتمر كامبل بانرمان (1905 – 1907)، المؤتمر الذي رعته بريطانيا، وحضرته كل الدول الأوروبية ذات الوجود الاستعماري في تلك المرحلة زائداً ممثل عن الحركة الصهيونية العالمية، التي لم يكن قد مرَّ على تأسيسها السنوات العشر !. وهذا إن دلَّ على شيء فإنه يدل على أن مصير جزء المنطقة العربية من الإمبراطورية العثمانية كان يشكل الهاجس الرئيسي لتحالف الاستعمار القديم مع الحركة الصهونية الوليدة.

باختصار، كانت مقررات المؤتمر الأساسية – التي ترسم خرائط المنطقة بعد أن يُسقطوا الدولة العثمانية – تتلخص بثلاث محطات استراتيجية، وهي:

• منع توحيد المنطقة الناطقة باللغة العربية لأنها تتوفر لها وحدة التاريخ والدين واللسان، وذلك لخطورة تلك الوحدة على المصالح الاستعمارية.
• الحؤول دون خروج المنطقة من دائرة الجهل الشامل، بشقيه المعرفي الانساني، والمعرفي العلمي، ومنع تصدير عوامل المعرفة الحديثة إليها. الأمر الذي يمنع الشعب العربي من التقدم والتطوير بكل انواعه بما فيه الزراعي والصناعي، وهذا ما يحرم التحالف المذكور من استغلال الثروات العربية من جهة، وفقدان أسواق واسعة لتسويق الإنتاج الصناعي لأطراف التحالف المذكور من جهة أخرى.
• تصدير مبادئ “الديموقراطية” بمفهومها الليبرالي التي تحمي المنهجية الرأسمالية من استغلال ثروات المنطقة، واحتكار الهيمنة عليها.

وبمقارنة ثلاثية البعث في الوحدة والحرية والاشتراكية مع الاهداف الاستراتيجية للتحالف الصهيوني الرأسمالي، نجد ان البعث جاء ليشكل التهديد الفعلي لمصالح التحالف المذكور. ولو كانت تلك المبادئ رومانسية لما كانت تستأهل إثارة مخاوف الدول الكبرى في تلك المرحلة، بل انها فعلت ذلك لأنها قابلة للتنفيذ وهو ما دفع أطراف ذلك التحالف إلى المواجهة الحقيقية مع مبادئ حزب البعث.

وقد كانت آخر محاولاته لمواجهة واقعية فكر البعث، قد رسمها بول بريمر، الحاكم المدني للاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003. حينذاك كشف بقراره الرقم واحد (اجتثاث فكر البعث) عن النوايا الأساسية الاستراتيجية للتحالف المذكور. وأعلن فيه أنه لن يكتفي باحتلاله العراق بإسقاط نظامه السياسي الوطني، بل كانت خططه أبعد بكثير من ذلك. اي لأنه المصدر الأساسي لإلهام العرب في بناء دولة عربية واحدة تمتلك وسائل اكتساب القوة الدفاعية عن حقوقها من جهة، ووسائل اكتساب الحضارة الفكرية والصناعية من جهة أخرى.

من هذه المقدمات نستنتج أن فكر البعث تحوَّل إلى رمزية فكرية قومية تثير مخاوف التحالف الصهيو رأسمالي حتى لو لم تحمل إسم البعث، بل ستتم مواجهة الأفكار التي قد يقوم بنشرها أي فريق قومي عربي آخر أياً كان الإسم الذي يحمله.

لم تكن أفكار الرواد القوميين العرب – قبل انهيار السلطنة العثمانية – مما يدفع إلى خوف التحالف المعادي، لأن تلك الأفكار كانت تدعو إلى الإصلاح من داخل المنظومة الإمبراطورية العثمانية، وإنما راحت تلك المخاوف تتصاعد بعد أن اكتشف التحالف المذكور أن ما قامت به أفكار البعث كان بداية للتحوِّل من أفكار رومانسية إلى مشروع سياسي قابل للتنفيذ. وكانت من أهم تأثيراته ولادة ثورة 23 يوليو في مصر ذات الأبعاد القومية الاشتراكية. وتعزَّز الخوف منها خاصة بعد ولادة الوحدة بين مصر وسوريا في العام 1958، وانبثاق ثورة 17 تموز في العراق في العام 1968.

لم تغب عن ذاكرة الغرب الاستعماري انطلاقة الثورة الإسلامية ورسالتها في القرن السابع ميلادي ودورها في إسقاط الإمبراطوريتين الفارسية والبيزطية أولاً، وفي منع الحملات الصليبية من تحقيق أهدافها في استعادة أمجاد الإمبراطورية البيزنطية ثانياً. ولكن للضعف الذي أصيبت به الدولة العربية الاسلامية بعد استيلاء الشعوب غير العربية على الحكم، ونتيجة التخلف الحضاري الذي وصلت إليه في مراحلها المتأخرة، أغرى دول التحالف الرأسمالي الغربي بغض الطرف عن مخاطر الإسلام في تلك المرحلة. وأعطى اهتمامه للعمل ضد الفكر القومي العربي الذي من أهم مبادئه كانت الدعوة إلى الوحدة القومية العربية. وكان أكثر ما أثار عوامل الخوف هو اعتبار البعث رائداً لثورة الوحدة العربية بإنتاج فكر قومي جديد كلياً ومعاصر لمتطلبات التطور العالمي، يمتلك عوامل التوحيد لشتى شرائح المجتمع العربي، كبديل لعوامل التفتيت الديني والمذهبي والإثني.

لكل تلك السمات التي يمتلكها الفكر القومي – الجديد كلياً – صدر القرار الاستعماري الصهيوني بـ(اجتثاث فلسفة البعث) بعد احتلال العراق في العام 2003. واستطراداً، ما كان لقرار الاجتثاث أن يصدر لو كان فكر البعث رومانسياً، لأن الفكر الرومانسي لا يحتاج إلى قرار بإعدامه لأنه لا تأثير له على حركة التطور والنهوض والسياسة والاقتصاد، ولا يمس من جيوب التحالف فلساً واحداً. فما يستأهل الاستهداف بالقتل هو ذلك الفكر الذي يدعو إلى بناء منظومة فكرية سياسية اقتصادية معرفية نهضوية شاملة. ولأن فكر البعث يمتاز بتلك السمات، راح يشكل خشبة الخلاص للعرب. وسوف يبقى الفكر الوحيد الذي تعرَّض ويتعرَّض وسيبقى عرضة لمحاولات أحكام الموت والإستهداف الخائبة.

ليس العامل التوحيدي للمجتمع العربي الذي يكتنزه فكر البعث هو الذي يخيف القوى المعادية للعروبة فحسب، بل أيضاً لأنه اعتبر أن مهمته إنسانية بامتياز باعتبار القومية العربية جزءاً من الكل الإنساني الشامل، تأخذ منه وتعطيه، تفيده وتستفيد منه، من أجل بناء مجتمع عالمي تتكامل فيه المجتمعات باحترام الحقوق والحثِّ على الواجبات لمنع قيام نظام عالمي تسوده النزاعات والحروب، كما كان سائداً في الماضي في مرحلة الاستعمار الأوروبي الذي أنتج مقررات مؤتمر كامبل – بانرمان؛ وكما هو سائد الآن في مرحلة الهيمنة الأميركية التي أنتجت مقررات (اجتثاث فلسفة البعث) القومية الاشتراكية.

في هذه المرحلة الراهنة، التي تستوجب من البعثيين خاصة والقوميين العرب عامة، أن نتوجه بالتحية لكل الذين شكلوا سلسلة متفاعلة من المفكرين القوميين العرب الذين أسسوا لفكر البعث، وللمفكرين البعثيين الذين بنوا على مداميك السابقين وزوَّدوها ببنى فكرية جديدة لبناء مستقبل عربي واعد. علينا أن لا ننسى أن المفكرين البعثيين – وفي المقدمة منهم القائد ميشيل عفلق مؤسس البعث – قد أعلن مقولته الشهيرة القائلة: (بجانب ثقتنا بحزبنا … يجب أن تكون في نفوسنا القدرة على اعادة النظر دوماً في سيرنا ونهجنا وتفكيرنا حتى يكون تفكيرنا ناضجاً أصيلاً وحتى لا تطغى عليه السطحية والتقليد، لكي لا يؤدي بنا الغرور الى ما أودى بالكثيرين).

وكما جاء في تلك المقولة، والتي تعبِّر عن روحية التجديد من دون تفصيل، ومن دون زيادة أو نقصان، على البعثيين، وهم يحتفلون بعيد الحزب الثامن والسبعين، أن يكونوا على استعداد تام للعمل بمبادئ تلك المقولة، لكي يبقى الفكر القومي على صلة تامة بمتغيرات العصر، ولكي يبقى اللبنة الأساسية في التطوير والتجديد برؤاه الفكرية التي تبقيه لصيقاً بمبادئه الواقعية، ومتصلاً بمتغيرات الحياة الخاصة بالعرب – كل العرب – من دون تمييز بالعرق والدين من جهة، ويبقى على تواصل دائم بمتغيرات التطورات والتشريعات العالمية التي تعزز تعاون المجتمعات الانسانية وتفاعلها الايجابي من جهة أخرى.

Author: nasser