السعي لفدراليةٍ طائفيةٍ وعِرقِيّةٍ في العراق ،  حلٌ أم إستجابة ؟

 

السعي لفدراليةٍ طائفيةٍ وعِرقِيّةٍ في العراق ،

 حلٌ أم إستجابة ؟

مختار العراقي

 

 بعض أشخاص بيننا يدعون هذه ألأيام، لإقامةِ فدراليات طائفية عرقية في العراق، كحلٍ يرونه لوضع العراق وإنقاذ له. فهل الحقائق تشير الى مايطرحون هو كذلك فعلاً، أم هي إستجابةً لحالةٍ مفترضة مسبقاً ؟! هذا ما سنحاول إستبيانه في هذا المقال. عبر محاور ثلاثة، أما الأول فسنبين فيه مفهوم الفدرالية كتجربةٍ إدارية دولية معتمدة. والمحور الثاني ؛ سنبين به الكيفية المراد للعراق أن يكون عليها ضمن مدارك قوى خارجية مؤثرة بالمنطقة. والمحمور الثالث نبين حجج الجهات العراقية الساعية لاقامةِ الفدرالية والضوابط المعتمدة لها، لنصل بعد هذه المحاور الى خلاصة علمية واقعية تبين فيما اذا كانت دعواتهم للفدرالية في العراق حلاً لوضع العراق، أم إستجابة لقوى خارجية.

 

اولاً: مفهوم الفدرالية، وتجاربها العملية

الفدرالية “الاتحادية” كمفهوم هي؛ عهد قانوني بين عدد من دولٍ مستقلة أو مقاطعات أو ولايات، يلتئمون بهيكليةٍ إتحادية تكون على رأسها دولة معينة تمثلهم في الخارج، ولها حق السيادة عليها. وتؤمن مصالحها وحقوقها بصيغةٍ أفضل. أي أن هناك عدد من الدول المستقلة ترى في الضعف فيها وهي متفرقة فتلتئم بدولة واحدة. وهذه هي حقيقة تكوين تجارب الفدراليات في العالم كلها دون أستثناء. ومنها الولايات المتحدة الامريكية والمكسيك والإمارات العربية المتحدة والهند وغيرها. ولا توجد دوله فدرالية واحدة بالعالم نتجت من تقسيم ذاتها لأقاليم متعددة لتتحد، بصيغة الفدرالية. كما ولا توجد دولة واحدة طبيعية تحولت لفدراليةٍ بظل إحتلال خارجي. وعليه فدعوة إقامة دولة فدرالية على أنقاض دولة طبيعية قائمة هي سابقة لم يشهدها التاريخ. ولا تعرفها الفدراليات الناجحة.

 

 ثانياً : فدرالية العراق في مدرك القوى الدولية المؤثرة العراق كان ومازال محل اهتمام القوى الفاعلة دولياً وأقليماً، وربما ذلك يعود لأهمية العراق ذاته على الصعد كافة من جهةٍ، أو لحقيقةِ اهتمام تلك الأطراف الخاص بالعراق وغاية ذلك الاهتمام. وللتأكد من وجود هكذا علاقة ونوعها، نتابع طبيعة إدراك الاطراف الدولية الفاعلة، في وضع العراق كدولةٍ يمكن أن يكون لها هامش فعلٍ مؤثر. ومن بين تلك الدلالات هي وضعه الداخلي بدالةِ وحدته الجغرافية ووحدة شعبه.

 

ومن الدول ذات العلاقة بهذا المجال هي بريطانيا وأمريكا والكيان الصهيوني. وكما يلي :

 

 1 – بريطانيا: سعت بريطانيا منذ وقتٍ مبكرٍ لتضعف الوطن العربي من خلال تقسيمه الى  دول ومن ثم ادخالها في مآزق متتاليةٍ. فقد جاءت مقررات لجنة “كامبل” عام 1905 بما يحتم زرع كيانٍ غريبٍ يعزل المشرق العربي عن مغربه، فزرعت الكيان الصهيوني بدءً بوعد بلفور المشؤوم. ثم جاءت اتفاقية سايكس بيكو لتجعل الدول العربية دولاً ذات أسوار بعضها ملغوم بالمعضلات.

2 – الكيان الصهيوني: من المعروف أن الكيان الصهيوني لا يقوم إلا على إضعاف العربَ والمسلمين والاسلام، و هو لايدوم الا على ذلك. وما

إن تم زرعه في فلسطين حتى عمد سنة 1950 وبزمن “بن غوريون” للبدئ بمشروعٍ يهدف إلى تقسيم الدول العربية لدويلاتٍ صغيرةٍ عرقيةٍ وإثنية. حصة العراق كانت ثلاث دويلات “شيعية، سنية ، كردية”. وفي عام 1958 تبنى “جيش الدفاع الصهيوني” هذا المشروع وضمه لعقيدته القتالية. فأضحى تقسيم العراق والعرب مطلباً عقائدياً صهيونياً وأمنياً.

 

ولم يكتفي الكيان الصهيوني بمساندة أي مشروع بهذا الإتجاه والغاية، فأدلى “شمعون بيريز” رئيس وزرائه الأسبق بدلوه مطلع تسعينيات القرن العشرين معلناً عن مشروعِ الشرق الاوسط الجديد، يؤسس لسلامٍ مزعومٍ للمنطقةِ يقوم على تعزيز الوجود الصهيوني وأمنه، على حسابِ وجود وهوية وقيم ومصالح العرب جميعها. ثم أضحى هذا التوجه أساساً لسلوكِ الولايات المتحدة وماكنتها الفكرية وخططها الاستراتيجية، لترابط المصالح الامريكية والغربية بالمنطقة وتكاملها مع الوجود الصهيوني المهيمن فيها.

 

3 – الولايات المتحدة الامريكية:  تلاقفت أمريكا من بريطانيا فكرةَ تقسيم الدول العربية لكانتونات صغيرة. وتعززت هذه الفكرة وتحولت لإستراتيجية وفقاً لحاجة الصهيونية العالمية. فمنذ بداية سبيعنيات القرن المنصرم توالت النتاجات الفكرية للمفكرين الأمريكيين، وهي تدعوا الى دعوتين ركيزتيهما الأساسيتين أولاها؛ الأعتراف العربي بالكيان الصهيوني والتطبيع معه. وثانيتهما؛ إحتواء أي مسعى عربي لزيادة الفاعلية الجمعية للدول العربية، والسعي لزيادة حالات التشاحن العربي- العربي. فجاء مشروع روجرز 1970 بالسلام مع الصهيونية سبيلاً لانعاشِ المنطقة وأمنها. كما ساهمت الماكنة الفكرية الأمريكية عام 1975 بظهورِ دراسة ريتشارد بيرل مستشار وزير الحرب الامريكية بعنوان” الاستراتيجية الاسرائيلية حتى عام 2000″ التي دعت لغزو العراق وتقسيمه، كضرورةٍ لإقامة “إسرائيل الكبرى”.

 

ثم دفعت الماكنة الفكرية الأمريكية مطلع ثمانينات القرن المنصرم بمشروع برنارد لويس. وهو مشروع يدعو لتجاوز القصور الذي ورد باتفاقية سايكس بيكو التي تركت بعض الدول العربية قوية وكبيرة مثل العراق وغيره، ودعى لتفتيت العرب لكانتونات أصغر. وقد وافق الكونجرس الأمريكي بالإجماع وفي جلسة سرية عام 1982 على المشروع وتمَّ تقنينه من لجنةٍ مختصةٍ، وأعتماده وإدراجه في ملفاتِ السياسةِ الأمريكيةِ الإستراتيجيةِ المستقبلية.

 

 وكان برنارد لويس- البريطاني الآصل والأمريكي الجنسية والصهيوني العقيدة – قد برر لمشروعه التفكيكى، بملاحظتين، أولاهما؛ هي أن تقسيمات سايكس بيكو للدول العربية لم تكن متَّسقةً مع المصالح الصهيو- أمريكية. وثانيهما؛ إن العرب والمسلمين أقوامٌ فاسدون مفسدون فوضويون، لا يمكن تحضّرهم، وإذا إراد العالم إستقرار مناطق مصالحه الحيوية، عليه أن يقسم الدول العربية لدويلاتٍ عرقيةٍ وإثنية أصغر وأضعف. ثم جاءت الماكنة الفكرية الأمريكية بمفهوم الشرق الأوسط الكبير ضمن التقرير الاستراتيجي السنوي لعام 1995. الصادر من معهد الدراسات الاستراتيجية القومية التابع لوزارة الدفاع الأميركية، الذي يؤسس لحالة بمنطقة الشرق الوسط تتجاوز دلالات الوحدة العربية أو فاعلية أقطارها.

 

وأبان الحصار الأمريكي على العراق 1990-2003 تم فرض خطي الحظر 23 و 36، ليفصل العراق لثلاث مناطق “شمالية كردية” و “وسطى سنية” و ” جنوبية شيعية”. ثم جاءت العملية السياسية للاحتلال وهي تعتمد المحاصصة الطائفية أسلوباً عملياً، يحكم جوانب الدولة العراقية كلها ويتحكم بها.

 

 ومما تقدم يتبين ان تقسيم العراق هو مطلب أساسي لكل من بريطانيا والكيان الصهيوني وأمريكا، وهم القوى المتنفذة والمؤثرة بالمنطقة.

 

ثالثاً: الدعوة لإقاليم فدرالية في العراق بين الحجج والآفاق  

بعدالغزو الأمريكي للعراق، تعمّد المحتل اقحام المصطلحات الطائفية والعِرقية في كافة المجالات وذلك تمهيداً للمشاريع المشبوهة وكما سنرى ادناه. فبعد الاحتلال بوقتٍ قصير دعى عبد العزيز الحكيم لفدرالية “شيعية” في جنوب العراق، فجاءه الرد الشعبي صاعقاً رافضاً لما دعى. ثم كرر الدعوة أسامة النجيفي في 2013 ولكن بثوبٍ مغاير اي “فدرالية سنية” فتلقى من العراقيين الشرفاء الرد الذي تلقاه عبد العزيز الحكيم.

 وهذه الأيام يدعوا البعضُ لإقامة فدرالية طائفية تحت مسميات مختلفة، كفدرالية للانبار أو فدرالية عربية، أو “سنية”. متحججين بأن دستور 2005 بفقرته ألأولى كفل أعتماد الفدرالية كأسلوبٍ للإدارة. وإن الفقرة 115 منه تسمح لكل محافظة أو أكثر تقديم طلباً لتكوين أقليم . ومبينين بان ما يستدعي ذلك هي حالات الإقصاء والتهميش التي يعاني منها “السنة” في هذه المناطق، من جهة وحالات الإستئثار المغرض بالسلطة للقوى “الشيعية” من جهةٍ ثانية، والوضع المنغلق أمام أمكانية تجاوز ذلك، من جهةٍ ثالثة. ودفع بأصحابِ هذه الفكرة للمطالبة بها كحلٍ لإبعاد أذى المستأثرين والمنفلتين عن أهالي الأنبار وغيرها من المحافظات “السنية”. ويحصنون دعواهم هذه بأنهم لن يقسموا العراق، لان الدستور كافل لوحدة العراق. وان تجربة إقليم كردستان ناجحة، بدلالاتِ الأعمار الذي شهدته اضافة الى تحقيق الأمن والآمان. وأن الاقليم الكردي مازال ضمن العراق .

 

وأزاء الحجج التي يوردها دعاة الفدرالية نقول :

  • ان العملية السياسيّة بشكلٍ عام ودستورها النافد هي من رعى المحاصصة وعززها ودفع البعض للإستئثارِ بالسلطةِ، وكل القوى السياسية التي جاء بها المحتل الامريكي وافقت على هذه العملية السياسية وتشريعاتها وآلياتها. عليه فالذهاب للفدرالية بحجةِ وجوده بالعملية السياسية الخاطئة والمسيئة، دون السعي الجاد لتغييرها. والتحجج بضمانة الدستور لوحدة العراق هي حجج واهية لا يمكن إعتبارها حلا لمعاناة العراقيين بل هي أستجابة لضوابط منحرفه خاطئة وأمتثال لها.

 

  • ان الذهاب للفدرالية في ظل إحتلال، سبق لأطرافه التخطيط لتقسيم العراق، والعزم على تفتيتِه لدويلات طائفية عرقية، هو إستجابة لرغبة أطراف الاحتلال ، سيما وان الصيغ والمبررات التي دعى اليها في تقسيم العراق منذ عقود هي الصيغ ذاتها التي يدعوا لها الداعون، فهي مذهبية عرقية في ظل احتلال وبموجب آليات فرضها بالقوة .

 

وهنا قد يقول البعض ان دستور 2005 صوت عليه الشعب ، فنقول انه رُفِض من قِبَل شعبنا في الأنبار وصلاح الدين بنسبة 100‎%‎ لكل محافظة. ورفضته نينوى بنسبة تجاوزت 50‎%‎ حسب اعلام سلطات الحكومة نفسها. ولو جمعنا المحافظات الثلاثة لكانت النتيجة الرفض بنسبة تتجاوز ثلثي ثلاث محافظات.

 

  • مدى الإمكانية الواقعية لتطبيق نموذج إقليم كردستان

يتحجج دعاة اقامة اقاليم على اسس مذهبية او عِرقية في العراق كإقامة اقليم فدرالي في المنطقة الغربية او غيرها، بنجاح تجربة اقليم كردستان لغرض تعميمها على مناطق اخرى. في حين ان الحقائق تشير الى ان حالة اقليم كردستان، نتيجة للصلاحيات الممنوحة له، هي حالة خاصة وهذا امر معروف للجميع. ان هذا يعني عدم امكانية تطبيقه في المناطق الاخرى لأن مقومات وجود الاقليم بوضعه الحالي، لن تكون موجودة ولن يُسمَح لها بان تكون قائمة، في مناطق اخرى من العراق. ففي مناطق العراق الاخرى سوف يتم اعتماد اُسس ومعايير الأقاليم في الدول الفدرالية في العالم.  وتلك المعايير لاتسمح لتلك الأقاليم الأخرى المقترحة، بهامش من صلاحيات معينة ضمن مجالات متعددة من بين أهمها القوى العسكرية و الأجهزة الأمنية ومنافذ الحدود وغيرها، لكونها مهام الحكومة المركزية حصرياً.  كما ان دستور عام 2005 سوف يستخدم من قبل السلطات المركزية كغطاء للتدخل الأمني والإقتصادي وإفشاء الفساد وسرقة الموارد من قبل السلطات المركزية، اضافة الى ممارسة كافة انواع الخروقات وبما يتقاطع مع مصالح اهالي الإقليم في اية بقعة من العراق، من دون ان يكون للإقليم المزعوم اية صلاحية ولا قوة لحمايته او حماية اية منجزات افتراضية قد يحققها.

 

مما تقدم يتأكد لنا، أن الدعوة للأقليمة في عراقٍ محتلٍ منذ 2003 . وبضوءِ العمليةِ السياسيةِ الفاسدة وأحكامها الطائفية. وبظلِ تمادي الفصائل المتفلتة وتنوع مجال مصالحها وتوسعها. وفي ظل تاثيرِ قوى دولية فاعلة متحكمة بالعراق بشكلٍ وآخر وهي تسعى لتجزئةِ العراق كضرورةٍ لها. إنما هي إستجابةً لإرادة القوى المتنفذة وليست حلاً لوضع العراق .

Author: nasser