خَالِدُون فِي سَبيلِ البَعْث
مِنْ سِجلِّ النِّضالِ القَوْميِّ المَجِيد
حزب البعثُ العربي الاشتراكي هو حزبٌ قوميٌّ وُلِدَ من رحم معاناة الأمة من أجل تحقيق وحدتها وحريتها ونهضتها، لتمارس دورها الحضاري بين الأمم بما يَليق بمكانَتِها الكبيرة وإمكاناتها الهائِلة وتأريخها المجيد. وهو فِكرٌ رَصينٌ وراسخٌ، ونَهجٌ ناضجٌ ومُتقدمٌ ينير درب مناضليه وجماهيرَه في كفاحهم لتحقيق أهدافه الاستراتيجية الكبرى في الوحدة والحرية والاشتراكية. وحزبٌ هكذا هي أهدافه، قومية تقدمية انسانية، لا ينهض برسالَتِه الحضارية العِملاقة في بعث أمة بكاملها، الاّ نوعية خاصة من أبناء الأمة المناضلين في صفوفِه، من الذين آمنوا بحقِّ أمتهم في النهضة والتقدُّم لتحتَّل مكانتها الكبرى بين الامم، فوهبوا حياتهم لتحقيق رسالته، خائضين في سبيل ذلك نضالاً ضروساً وتضحيات جسام لتأصيل الأهداف النبيلة للبعث، وقيمه ومبادئه السامية. انَّهم صُنَّاع الحياة ومستقبل الامة، ورجال العطاء والفداء من أجل تحقيق وحدة أمتهم العربية المجيدة. هكذا هُم مناضلو البعث على امتداد وطنهم العربي الكبير من المحيط الى الخليج.
يسعى هذا الباب الى القاء الضوء على محطات من السجلّ الخالد لمناضلي البعث في الوطن العربي، الذين شكَّلوا رايات عالية ستبقى تنير درب أجيال وأجيال من ابناء الامة في نزوعها نحو الوحدة والحرية والتقدم. ومن تلك الرايات الرفيق موسى شعيب من لبنان.
الذِّكرى الرّابِعة وَالأربَعون لاسْتِشْهَادِ المُناضِل مُوسَى شُعَيْب
مَسيرَة حافِلَة بِالعَطَاءِ عَلَى الصُّعُدِ الِاجْتِماعيَّة والوَطَنيَّة والقَوْمِيَّة
إعداد فرع الشهيد موسى شعيب
الكتابة عن حياة الشهيد القائد موسى شعيب مهمة غير عادية، لأن حياته بحد ذاتها كانت غير عادية. وذلك بالرغم من أن هناك بعض المظاهر العادية التي ترافقت مع مسيرة حياته كالبساطة والعفوية والصدق مع الذات والغير والتحسس العميق بآلام الغير وهمومهم. فقد كان موسى شعيب إنساناً أولاً وأخيراً، وحتى هذه المظاهر العادية من حياته كانت جزءاً أصيلاً ومكملاً للمظاهر والسمات الأخرى غير العادية.
من هنا تبدو الكتابة عن حياة موسى شعيب صعبة وسهلة في آن معاً سهولتها في بساطة هذه الحياة وبعدها عن مظاهر الزيف والباطل وصعوبتها في غنى هذه الحياة وامتدادها إلى أكثر من صعيد إنساني وثقافي وسياسي واجتماعي. ويبقى السؤال الأصعب الذي يطرح كلما بدأت محاولات الكتابة عن حياة الشهيد القائد: من أين البداية؟! وكيف يتم تناول هذه الحياة؟! هل يتم الحديث عن موسى شعيب الإنسان، أم الشاعر، أم السياسي الملتزم، أم المثقف، أم القائد الجماهيري، أم … أم. يتم الحديث عن كل هذه المجالات والنشاطات دفعة واحدة ومن خلال ربطها ببعضها البعض. ويبقى المهم في كل ذلك إعطاء صورة متكاملة عن حياة هذا القائد الشهيد، رغم أنها لا يمكن أن تلم بكل تفاصيل هذه الحياة على أهميتها وغناها.
البدايات
ولد الشهيد عام 1943 من عائلة فقيرة، بينما كانت عائلته تمر بظروف معيشية صعبة. حيث كانت تسكن في غرفة واحدة متواضعة. أُنجب والده عشرة أطفال: ثلاثة ذكور أصغرهم الشهيد موسى، وسبع إناث. والده فلاح فقير يزرع الأرض لكي يعيش منها، وكمعظم مواطني بلدة الشرقية الواقعة في منطقة النبطية في جنوب لبنان. لم يكن والده يملك أرضاً تساعده على التغلب على شظف الحياة. فقد كانت معظم أراضي بلدته ملكا للإقطاع السياسي، لذلك كان يضطر للعمل مرابعةً ومزارعة ً في أراضي ” الغير” من أجل أن يعيش ويعيل زوجته وعائلته. لقد كان الشهيد القائد في جذوره كادحاً من أصول فلاحية فقيرة.
الحياة لم تكن مفروشة بالورود أمام الطفل موسى، فقد كان الفقر المدقع الذي يخيم على العائلة يفرض عليه أن ينسحب في سن مبكرة من حياة الطفولة وأن يتدرج على طريق المسؤولية بسرعة كي يصبح عوناً للعائلة فيما بعد. منذ صغره أحس شهيدنا بأن في الحياة يوجد نوعان من البشر: النوع الذي يستغل الآخرين، والنوع المستَغَلْ من الآخرين… فقد كان يرى بأم عينيه كيف أن جهود والده وسائر أبناء القرية الذين كانوا يضطرون للعمل في أرض ليست أرضهم بحثاً عن لقمة العيش، كانت تجيّر لمصلحة الإقطاع السياسي ولمصلحة زيادة ثرواته وتضخم موارده. ولا ينال أبناء القرية من كل ذلك سوى المزيد من الجهد والمزيد من التعب والمزيد من الكدح، والمزيد من الاستغلال أيضاً. لذلك غُرِست في نفسه منذ الصغر بذور كره الاستغلال- كل أشكال الاستغلال-، ونمت في نفسه أيضاً بذور التمرد على المستغلين، كل أنواع المستغلين. وكانت هذه هي الخميرة التي قادته إلى طريق الالتزام السياسي الصادق، فمن قلب المعاناة اليومية والحياتية المباشرة جاء التزام الشهيد موسى بالنضال الاجتماعي والوطني والقومي.
أدخل الشهيد موسى إلى مدرسة القرية وهو في بدايات سن السادسة من عمره، وحياة موسى المدرسية لم تكن تختلف كثيراً عن حياته السابقة، من حيث الوتيرة ومن حيث النمط، رغم أنها أضافت أبعاداً جديدة على حياته هذه. فالمدرسة التي تلقى فيها تعليمه الابتدائي كانت مدرسة القرية، التي لم تكن تتجاوز في سعتها الغرفتين. كان التلميذ موسى متفوقاً بدروسه، وكان يعد بتقدم هام في مجال الدراسة وطلب العلم. ولقد ادى تفوقه هذا إلى أن يصبح محط أنظار مُدَرّسهِ أولاً، ورفاق صفه ثانياً. كما أدى هذا التفوق المقرون بالحضور الشخصي القوي بالمدرس إلى أن يوكل له أمر إدارة شؤون التلاميذ أثناء غيابه، مع العلم بأنه كان أصغرهم سناً. وأدى أيضاً لأن يصبح صلة الوصل بين التلاميذ ومركزاً من مراكز الاستقطاب الأساسية. ومن قريته الشرقية إلى قرية مجاور’ وهي الدوير انتقل الشهيد موسى لكي يتابع في مدرستها الدراسة الابتدائية، ولكي ينال في العام 1954 الشهادة الابتدائية التي كانت فرحة العائلة كبيرة بها.
في الدوير اكتشف الشهيد موسى بأن الاستغلال لم يكن حكراً على قريته، بل كان يطال أكثر من قريته، وكان يسمع من فم مدرسيه ومن فم الناس، حكايات طويلة وعديدة عن الاستغلال، استغلال السلطة واستغلال الإقطاع السياسي. وبدأ يسمع أيضاً أشياء عن فلسطين وعن الاحتلال الصهيوني، وعن الحكام العرب الذين خانوا وحكايات أخرى بعضها كان يدركها في سنه وبعضها الآخر كان يجب أن يمر وقت أطول لكي يستوعبها.
في هذه المرحلة بدأت بذور الوعي السياسي تغرس في نفس الصبي الصغير موسى وفي عقله، وبدأت أيضاً بذور الحس الشعري تبرز عنده: كان يستمع بشغف إلى أشعار والده وعمه وأخيه وعدد من أقربائه الشعبية الزجلية.
في عام 1954 قست الحياة على والد الشهيد موسى في القرية حتى لم يعد أمامه من مجال سوى الانتقال إلى مكان آخر، فكان الانتقال من القرية إلى بيروت قاسياً على الولد الصغير المتهيئ للتفتح على الحياة، لقد كان بمثابة اقتلاع له من الجذور التي كانت مغروسة في أرض القرية، وحواريها وحقولها وبيادرها وسواقي الماء فيها. لم يكن الولد الصغير موسى يقبل راضياً بترك قريته، التي أحب فيها شتلات التبغ وأوراق الزيتون واختلاجات “الصبار” وحديث المواقد والحياة البريئة الصافية، وأحب فيها تلك العلاقات الاجتماعية البريئة البعيدة عن التكلف والرياء والضجيج وصخب الحياة القاتل.
وكلما زادت معرفته ببيروت وبالعلاقات الاجتماعية السائدة فيها، كلما كان احساسه بالقرية يزداد: لقد بقي موسى قروياً في عفويته وطيبته وأصالته حتى استشهاده، وهذا هو ما يميز حياة الشهيد وما يطبعها بلون خاص ونكهة خاصة أيضاً. وفي السنة المتوسطة الأولى، استطاع أن يحوز على إعجاب إدارة “الكلية العاملية” بسبب تقدمه المستمر وتفوقه الكبير. فتم إعفاءه من دفع القسط المدرسي نهائياً، وتم علاوة على ذلك تأمين الكتب الدراسية وبعض القرطاسيات على حساب المدرسة”.
في العاملية بدأ يكتشف موسى ابن الفلاح المعدم في القرية والعامل الكادح في المدينة، بشاعة التفاوت الطبقي. في ” الشرقية ” كان يسمع قصصاً كثيرة عن أبناء الأغنياء وعن رجال الإقطاع وعن فقر أهالي القرية وعن غنى أبناء ” الذوات”. ولكن في الكلية كان يرى بأم عينيه الفرق الواضح بين الفقراء والأغنياء. وكان هذا الاختلاط الطبقي فرصة لموسى كي يرى الفروق الطبقية بأم عينيه. في بيروت اتسعت آفاق الوعي عند موسى، ورأى بأن استغلال الإقطاع السياسي لوالده، وأقربائه وأبناء بلدته، ما هو في الحقيقة إلا جزء من استغلال النظام السياسي للأكثرية الكادحة من أبناء الشعب. وفي بيروت وعى أكثر انتماءه القومي. ووعى طبيعة الدور الذي كان يقوم به الكيان الصهيوني، ووعى أيضاً ضرورات النضال القومي، في بيروت المدينة التي كانت تغلي وتفور كسائر المدن العربية في مرحلة الخمسينات التصق موسى بنضالات الجماهير ضد الاستغلال الطبقي والاستغلال القومي، ولم يتأخر موسى عن الانخراط في صفوف هذه الجماهير ولم يتأخر عن التبشير بالوعي القومي وضرورة النضال القومي. في هذه المرحلة كانت بذور الالتزام السياسي قد بدأت تنضج في عقله، ولكن كان يجب أن ينتظر حتى العام 1963 حتى يحسم مسألة اختياره للالتزام السياسي وينخرط في صفوف الحركة القومية العربية نهائياً.
في عام الوحدة 1958 نال موسى شهادة الدروس الابتدائية العالية بتفوق، ولكن كان على موسى أن يوقف التعليم لكي يفتش عن ” وظيفة” كي يساهم في إعالة العائلة الكبيرة.
النبوغ الشعري المبّكر والمبدع
في هاتين المرحلتين الدراسيتين المتوسطة والثانوية، نمت بذور الإبداع الشعري عند موسى وتفتحت ورود العطاء الشعري لديه. كان في البداية يكتب القصائد بالسر وكان ينْظمها لوحده ولا يطْلع عليها سوى أخوته، وعندما كان يلقيها عليهم كانوا يتذكرون الطفل الصغير الذي كان يعتلي في منزل القرية الكرسي الخشبي مردداً الأشعار الشعبية. كانت محاولاته الأولى، رغم عدم نضجها – تَعِدُ بمستقبل شعري هام لموسى، خصوصاً وأنها كانت تتميز بعاطفة دافقة قلّ أن نجد مثيلها لدى غيره من الشعراء، ما خلا أولئك الشعراء المبدعين والعظام.
من مقاعد الدراسة الى حقل التدريس
من تلقي العلم انتقل موسى إلى العمل، فالحياة لا ترحم الفقراء والكادحين، والمتطلبات العائلية باتت لا تتحمل تفرغ موسى أكثر من ذلك للعلم. عمل في البداية في دائرة التنظيم المدني، ولكنه لم يستمر في هذا العمل طويلاً إذ انتقل بعد فترة قصيرة إلى سلك التعليم باعتباره أكثر انسجاماً مع شخصيته التي تحب العطاء ولا تقبل بالروتين الوظيفي.
عام 1962 عين معلماً في بلدة ” أنصار” الجنوبية التي كانت تبعد حوالي خمسة كيلومترات عن بلدته ” الشرقية”. وكان راتبه بالكاد يكفيه بدل مصاريف تنقلاته ومساعدته مالياً لأهله. ورغم الظروف المادية الصعبة التي كانت تحيط به. تابع موسى تحصيله العلمي واستطاع أن يفوز بشهادة البكالوريا السورية (الموحدة) في نفس العام 1962. باعتبار أن نظامها كان يتيح المجال أمام الطلاب بالدراسة الحرة والتقدم للامتحانات بعكس البكالوريا اللبنانية.
في ” أنصار” لم يكن موسى شعيب معلماً في مدرستها فقط، بل كان مركزاً حيوياً لنشاطاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية. كان معلماً لكبارها قبل صغارها في جميع الأصعدة، وكان صديقاً لكل فرد منهم يعيش همومهم ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم ويساهم في إعطاء المشورة والمساعدة ما أمكن، وذلك رغم همومه الذاتية ومشاكله الخاصة والظروف القاسية التي كان يمر بها وتمر بها عائلته.
في العام الدراسي 63-64 انتقل الشهيد القائد إلى بيروت لكي يعلم في مدرسة البسطة الأولى للصبيان، وفي نفس العام حسم مسألة الالتزام السياسي عنده وانضم إلى صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان وما يزال الحركة القومية العربية الأكثر جذرية وتأثيراً داخل المجتمع العربي والأكثر تعبيراً عن تطلعات هذا المجتمع وآماله وآلامه. ولم يكن صدفة أن اختار موسى الانضواء في صفوف البعث، بل كان ذلك نتيجة طبيعية لوعيه القومي الناضج ولإحساسه العميق بالاستغلال القومي والطبقي، كان الالتزام السياسي عنده اختياراً واعياً ولم يكن عفوياً، رغم أنه تحلى بهذه العفوية والصدق والطيبة.
في هذه المرحلة كان على موسى أن يوزع نشاطاته بين مجالات عدة: في المدرسة، في المنزل، في الحزب، في الجامعة وفي الشعر. وفوق ذلك اضطرته ظروف الحياة الصعبة لأن يتعاقد مع مدرسة خاصة كي يعلم فيها لقاء أجر محدود يساعده في المساهمة بصورة أكبر في نفقات أهله. وفي هذه المجالات المتعددة كان موسى يواصل عطاءه الدافق، والبسمة الفرحة لا تغيب عن شفتيه، فالعطاء عنده ليس حالة مؤقتة بل كان جزءاً أصيلاً من كيانه وتكوينه الروحي والجسدي. هكذا كان موسى وهكذا بقي حتى استشهاده، رمزاً للعطاء الأصيل والدائم.
عام 1968 أنهى دراسته الجامعية وحاز على شهادة الليسانس في الأدب العربي. وبين الأعوام الممتدة من تاريخ مجيئه ثانية إلى بيروت وتخرجه من الجامعة، قفز موسى مراحل عدة في مضمار التطور الشعري والالتزام السياسي. وفي هذه الحقبة من الزمن أعطى أفضل وأجمل إنتاجه الشعري، وكان يعد بمستقبل باهر كشاعر بين أقرانه، ولكن رتابة الحياة ومستلزماتها، كذلك متطلبات النضال السياسي والالتزام القومي ما لبثتا أن أبعدتاه عن مساحة العطاء الشعري المحترف. لقد كان موسى يغالب في نفسه بين هوى الشاعر وبين الالتزام الوطني والقومي، فكانت الغلبة لهذه الأخيرة. وهكذا فقد الشعر من كان يعد بأن يصبح ركناً بارزاً من أركانه، وكسبت الحركة القومية ركناً بارزاً في تاريخ نضالها.
وفي صيف العام 1969 ذهب موسى مع العديد من رفاقه في الحزب إلى الأردن لكي يتدرب على استعمال السلاح وحمله ولكي يساهم في المرحلة التأسيسية من حياة جبهة التحرير العربية التي كانت في انطلاقتها الأولى.
في هذا العام بالذات تمت خطبة موسى على ابنة عمه سعاد التي أصبحت زوجته في العام التالي. لقد كان هذا العام هو عام التحولات العميقة في حياة شهيدنا القائد كما رأينا، وكان عام تركيز طبيعة حياته بصورة نهائية في خضم النضال القومي والجماهيري المسلح.
مرحلة النضوج العقائدي والالتزام السياسي
عام 1970 نقل إلى ثانوية النبطية، ومنذ أن قدِمَ إلى النبطية تحول إلى عنصر فعال في الحزب، وانكب على توسيع نشاط الحزب إلى جانب رفاقه وثابر على ضم العديد من المناضلين الجدد إلى صفوف الحزب. بحيث بات التنظيم الحزبي القوة الأهم من بين القوى السياسية في المنطقة. وحصلت المجزرة في الأردن، وقامت السلطة الأردنية بشن حربها الضروس ضد الثورة الفلسطينية. وكان أيلول الأسود حيث لبى شهيدنا المناضل دعوة الرفيق القائد المؤسس الأمين العام للحزب ميشيل عفلق لجميع البعثيين بالذهاب إلى الأردن والانضمام إلى صفوف المدافعين عن الثورة الفلسطينية، وشارك مع رفاقه في الحزب والجبهة في التصدي للهجمة الفاشية بكل الوسائل. ولكن الغلبة كانت للمؤامرة، واخرجت الثورة من الأردن بعد أن أنهكها نزيف الدماء، وكان ذلك جرحاً جديداً يضاف إلى جروح الشاعر بعد جرحي ردة 23 شباط وهزيمة الخامس من حزيران.
رغم كل ذلك فإن اليأس لم يتسلل إلى نفس شهيدنا القائد رغم الجروح العميقة. وكان يجد في الشعر متنفساً له وكذلك في النضال. ولذلك تميزت هذه السنة وما سبقها وما لحقها بوضوح الالتزام السياسي في شعر الشهيد وفي ممارسته اليومية. وكما ُتوج شاعر الجامعة اللبنانية يوم كان أحد طلابها وشاعر الجنوب الأول يوم كان الجنوب همه الأساسي، توج أيضاً شاعر البعث في لبنان وانضم بذلك إلى رعيل الشعراء الأصيلي الالتزام شعراً ونضالاً وممارسة بعد أن زادت الجراحات في نفسه.
في العام 1971 نقل الى ثانوية زغرتا تأديبياً بعد أن صدر عن وزارة التربية قرار بذلك بتهمة القيام بنشاط سياسي محظور واستخدامه لموقعه التعليمي لخدمة هذا النشاط. ولكنه لم يمكث هناك سوى عام واحد عاد بعدها إلى مكانه في النبطية وإلى موقعه الأساسي في ثانويتها. لم يحاول موسى أن يخفي نشاطاته والتزامه السياسي، وكان يقول لكل من كان يحاول ثنيه عن النشاط العلني: ” بدهم يطردوني من الوظيفة يطردوني”.
وعندما بدأت الاعتداءات الصهيونية على الجنوب، عمل الشهيد موسى على تنظيم مظاهرات الاحتجاج ضد السلطة لتخاذلها واستنكاراً لهذه الاعتداءات. وكان أهم هذه التظاهرات تلك التي أعقبت قصف مخيم النبطية من قبل طائرات العدو، حيث خرجت جماهير المدينة والمناطق في تظاهرة حاشدة ضد تخاذل السلطة وتأييداً للمقاومة. بعد التظاهرة بيومين اعتقل الشهيد موسى واقتيد إلى سجن ” الرمل” حيث بقي لفترة من الوقت استغلها في نشر الوعي الوطني داخل السجن وتأجيج الحملة على السلطة.
ولكن مع الوقت ومع ازدياد حدة الاعتداءات وإمعان السلطة في تخاذلها أدرك موسى وجميع الرفاق أن لا جدوى من التظاهرات، وأن الطريق الوحيد المفتوح أمامهم هو الانخراط في العمل المسلح والنضال من أجل تدريب وتسليح أهالي الجنوب وخلق أدوات الدفاع والحماية الذاتية: فكان ذلك بداية فكرة تأسيس المؤتمر الوطني لدعم الجنوب في العام 1973، والذي شغل فيه منصب عضو اللجنة التنفيذية وساهم بالكثير من أعماله ونشاطاته والتي كانت ستاراً لنشاطات الحزب آنذاك وحملته من أجل الجنوب في جميع أنحاء لبنان. في هذا الوقت كان موسى السياسي الملتزم يتغلب على موسى الشاعر الملتزم. ذلك أن الغرق في الممارسة النضالية اليومية كانت تبعد شهيدنا يوماً بعد يوم عن حومة الشعر لتقذف به في أتون النضال السياسي والوطني.
عندما طرحت فكرة الترشيح في الانتخابات النيابية عن دورة عام 1972 على الشهيد موسى من قبل بعض الرفاق والأصدقاء، اعتقد أن الفكرة هي مزحة لمداعبته. فهو بعيد كل البعد عن التفكير بمثل هذا الأمر، وهو يعتقد بأن البرلمانات ما خلقت للتغيير فضلاً عن أنه يقع تماماً خارج الصراع السياسي الذي يدور عادة في المنطقة حول الكراسي النيابية، ومن هذا الموقع بالذات طرح عليه رفاقه الفكرة، فطالما أنه خارج الصراع السياسي التقليدي يجب أن يتم ترشيحه للانتخابات من أجل خلق نشاط سياسي غير تقليدي في معركة الانتخابات ومن أجل أن تكون معركته ميداناً لطرح أفكار الحزب وتوجهاته على نطاق جماهيري واسع.
وهكذا كان، فقد خاض الشهيد موسى المعركة الانتخابية وهو يعرف سلفاً – كما يعرف كل رفاقه – أنه لن يفوز بعضوية البرلمان، ولم يكن المطلوب بتاتاً أن ينجح وإنما فقط أن يحدث تغييراً في طبيعة المعركة الانتخابية وفي توّزع القوى بالمنطقة وأن يتم زرع بذور إحداث تحولات أساسية في موازين القوى السياسية بالمنطقة. وهذا بالذات ما تم التوصل إليه فعلاً ونال أكثر من ثلاثة آلاف صوت مما اعتبر بداية تحول فعلي في الخريطة السياسية للمنطقة: ولأول مرة يجرؤ ابن فلاح فقير وكادح أن يخوض غمار الصراع السياسي ضد رجال الإقطاع والزعماء التقليديين في المنطقة.
لا شك أن مرحلة السبعينات هي أغنى مرحلة في حياة الشهيد القائد، وخصوصاً في النصف الأخير منها. من الصعب تتبع كل تفاصيل هذه المرحلة من حياته، ولذلك سنكتفي بذكر المراحل الأساسية.
دور ريادي في انتفاضة مزارعي التبغ وعمال غندور
والمؤتمر الوطني لدعم الجنوب
عام 1973 كان عام التحولات الكبيرة في لبنان، ففي هذا العام حصلت انتفاضة مزارعي التبغ وانتفاضة عمال غندور في بيروت وازدادت حدة المؤامرة على الثورة الفلسطينية في 15 أيار 1973 وكذلك عام حرب تشرين – فضلاً عن التحركات الجماهيرية الكثيرة في جميع القطاعات الشعبية. وكان للشهيد دوراً مباشراً أو غير مباشر في كل ذلك من خلال موقعه القيادي للتنظيم الحزبي في الجنوب.
في انتفاضة مزارعي التبغ التي نظمها الحزب والمؤتمر الوطني لدعم الجنوب الذي كان حديث الولادة، لعب الشهيد موسى دوراً قيادياً أساسياً وكاد يقتل أكثر من مرة برصاص السلطة لولا الصدفة فقط. لقد شارك في قيادة وتخطيط الانتفاضة وعمل على إذكائها وتحويلها من تحرك جماهيري احتجاجي إلى انتفاضة فلاحية حقيقية. وشارك في التظاهرات والمجابهات التي حصلت بين المتظاهرين ورجال السلطة، وكذلك شارك في الاعتصام الذي استمر أكثر من 18 يوماً في مبنى شركة الريجي في النبطية وفي الاعتصام الذي تلاه في حسينية النبطية. وبعد أن خمدت الانتفاضة اعتقلت السلطات الشهيد موسى إلى جانب عدد من الرفاق.
ومرة ثانية ترشح للانتخابات الفرعية التي جرت في النبطية العام 1973، وفي ظل نفس الهاجس النضالي الذي كان يهدف اليه: إعطاء المعركة الانتخابية في المنطقة أبعاداً لم تعتدها في السابق.
عقب ذلك عمدت وزارة التربية إلى فصله من الخدمة فتفرغ للعمل الحزبي والنضالي، بعد أن تخلص من قيود العمل الوظيفي. فلعب دوراً أساسياً في كافة النشاطات الحزبية في الجنوب من خلال موقعه القيادي في المنطقة، وعمل مع رفاقه على تعزيز صمود الجنوبيين وزيادة التفافهم حول الثورة الفلسطينية. ولم يكن يتوانى عن المشاركة في النشاطات الحزبية المختلفة في سائر المناطق، فأن تكون بعثياً يعني أن تكون قومياً هكذا كان يفهم الشهيد البعث وبوحي هذه القناعة كان يناضل – فكان من الطبيعي أن تضيق منطقته عن دائرة نشاطاته وحتى أن يضيق لبنان عن دائرة هذا النشاط.
ولم تنقطع صلة الشهيد موسى بالشعر والقضايا الأدبية، رغم غرقه شبه الكامل في ديناميكية العمل النضالي اليومي. فكان له دور بارز في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، والمنتدى الأدبي الجنوبي، واتحاد الكتاب اللبنانيين، وتابع اقامة الندوات الشعرية وإلقاء القصائد الوطنية في المناسبات السياسية الوطنية والقومية. أما مشاركته في المؤتمر التأسيسي لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين وانتخابه عضواً في لجنته التنفيذية، فلا نستطيع اعتباره نشاطاً أدبياً، لكون هذه المشاركة انطلقت من دواعي الاسهام في العمل النضالي للثورة الفلسطينية وتأكيداً للالتحام بين الفصائل القومية اللبنانية وفصائل الثورة الفلسطينية.
في العام 1975 بدأت المؤامرة المكشوفة على الوجود الوطني وعلى الثورة الفلسطينية في لبنان، وفي نفس العام اختير الشهيد القائد ليكون عضواً في القيادة القطرية للحزب. ولقد اعتبر أن هذا الاختيار ليس وساماً له على نضاله، وإنما مزيداً من الواجبات النضالية تلقى على عاتقه في وقت تمر به البلاد في حرب أهلية وأزمة حادة. ومن وحي هذا الموقف تابع الشهيد القائد نضاله من خلال موقعه الجديد الذي أتاح له الفرصة لعطاء أكبر وتضحيات أضخم، وبات كل لبنان ساحة رئيسية لنشاطه بعد أن غزت المؤامرة كل لبنان أيضاً. إن نضالات الشهيد خلال هذه المرحلة هي جزء من نضالات الحزب الذي احتل موقعاً قيادياً فيه خلال هذه المرحلة الدقيقة الممتدة من العام 1975 وحتى تاريخ استشهاده في 28 تموز 1980، وبالتالي فمن الصعب الإشارة إلى نضالاته خلال هذه المرحلة لأنه من الصعب بالضرورة تحديد نضالات الحزب الواسعة ومساهمته الأساسية سياسياً وعسكرياً في مجابهة المؤامرة الإمبريالية لتقسيم لبنان وضرب وحدته وعروبته وتطويق الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية وإجهاض نضالات الجماهير الوطنية.
في مطلع هذا العام 1980 انتخب مجدداً عضواً للقيادة القطرية للحزب، وكان ذلك بمثابة تأكيد على جدارة الشهيد موسى بالموقع الذي شغله خلال السنوات الخمس وعربون وفاء من قاعدة الحزب وكوادره القيادية.
قبل أن نختم حديثنا عن حياة الشهيد موسى لا بد أن نشير إلى عزمه على متابعته الدراسة رغم المهام النضالية الضخمة التي كانت ملقاة على عاتقه، فقد تسجل لتحضير شهادة الماجستير ووضع الاطروحة وتم تحديد موعد المناقشة وأن ينال الشهادة قبل أن يعاجله الموت بالرصاص اللئيم.
من المزايا البارزة في حياة الشهيد موسى أنه لم يكن يخشى الموت بقدر ما كان يخشى أن يموت قبل أن يضع جزءاً كبيراً من طاقاته وإمكاناته في خدمة حزبه وشعبه وأمته. وكلما كان يحدثه أحد عن الموت كان يهزأ من حديثه هذا ويرد عليه بضحكته المعروفة قائلاً له بأن الموت آخر ما يخيفه.
كان يريد أن يعطي أقصى ما يملك خلال الفترة القصيرة من حياته هذه. وبالفعل كانت حياته مليئة بالعطاء، ولكنها أيضاً كانت مليئة أكثر بالوعد بالعطاء. وهذا ما لم تفسح له العصابات الطائفية الحاقدة الحال لكي يترجم هذه الوعود إلى عطاءات تضاف الى سلسلة القائد موسى شعيب الكثيرة. ولذلك فأكثر ما آلمنا في استشهاد القائد موسى شعيب أنه قضى برصاص الغدر والعمالة صبيحة يوم الثامن والعشرين من تموز عام ١٩٨٠ بعد وقت قصير من عودته من بغداد ومشاركته على رأس وفد شعبي في احياء الذكرى الثانية عشرة لثورة ١٧-٣٠ تموز وفيها ألقى قصيدته المشهورة التي مطلعها:
أسْرِجْ خيولك إن الروم تقتَرِبُ
ووجهُ اُمِّكَ قَتاّلٌ بِهِ العَتَبُ
أسْرِجْ خيولك كِسرى عادَ ثانيةً
وشَهْوةُ المُلْكِ في عينَيهِ تَلتَهِبُ
وخاتمتها
ولتنهض البيد هذا بعثُ اُمَّتِنا
وآية الله قَد خُصَّتْ بِها العَرَبُ
(*) من تقرير أعده فرع الشهيد موسى شعيب (ابو زياد) في الذكرى ال٤٤ لاستشهاده.