في الذكري 56 لثورة السابع عشر /الثلاثين من تموز/جويلية 1968
إِيفَاؤُهَا حَقَّها لَا فِي تَعْديدِ انجَازَاتِها بَلْ بالانضمام التَّنظيميِّ والماديِّ والإِعلاميِّ لِلْمُقَاوَمَةِ اَلباسِلَة
يوغرطة السميري / المهدية – تونس
بقدر ما تبديه المرحلة من غيوم متراكمة بصيغة الفعل المقرون بالتيئيس بل القتل لكل ما هو قومي فان عديد الفجوات داخل هذه الغيوم تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أو التخمين، من أن المشروع القومي بكل مكوناته قائم وجدانياً في ضمير الشعب، ولم تتمكن كل الأفعال من تغييبه أو طمسه في جانبه الفكري أو فيما هو ميداني معَبَّراً عنه.
ويعود الفضل في ذلك إلى ثورة 17/30ـ تموز/جويلية ـ 1968 بما خلقته من ايجابيات وبما رسمته من طرق تطبيق مستقلة، رؤية وإرادة واستشرافا لما يمكن أن يكون من اعتراضات تستهدف ألا يكون للأمة العربية أي دور في البناء الحضاري للإنسانية. ان تفعيل هذه الايجابيات يفرض على القوميين عامة، والبعثيين من غير القطر العراقي خاصة، جملة أساسيات ما إن أخذوا بها قطعاً ستتبخر الغيوم التي تحجب رؤيتهم لواقعهم وتمكنهم من اكتساب الأداة القادرة على النهوض بالأمة. لا بل الانتقال من صيغة المراوحة والدفاع السلبي في الساحة العربية والاقتراب خطوات بمفهوم الفعل المكمل إلى مرحلة البناء والهجوم الايجابي الذي مارسته وتمارسه المقاومة العراقية الباسلة بمختلف صيغها وفصائلها الجهادية من مرحلة إلى مرحلة. تفعيل يستوجب ما يلي:
- قتل الأنا بداخلهم واعتبار نفسهم الحالة الخيّرة في الأمة التي لا ينقصها الاقتدار على تحمل الفعل مع الآخر، ولا النقاش وتحمل بناء تصور مشترك سواء بصيغة الفترة أو المرحلة.
- أن يقلعوا عن تحويل مفردات الفكر القومي إلى قوانين جامدة والوقوف عند الاستذكار للمنجز في التجربة تاريخاً، والمتجاوّز واقعاً نتيجة حجم الهجمة والتحديات المستهدِفة للأمة. لأن في فعل ذلك يتحول القانون إلى غطاء للردة والانحراف والتغني بالموروث إلى نوع من إقناع الذات في أنها قدمت واجبها في حده الأدنى، بما يعطل صيغ الإضافة الناضحة عن المعاناة، ويغيب لديهم القدرة على توظيف اللحظات القائمة في الواقع المحسوس ويفوت فرصة الخطوة الحاسمة إلى أمام على طريق أهدافهم الاستراتيجية.
- أن يدركوا الدفع المستمر للإنسان العربي عامة نحو التخلف والتجهيل بصيغ متعددة وبذيئة حد الكارثية كما هي في العراق خاصة وفي سوريا ولبنان واليمن وغيرها، والضغط المركّز على الجوانب الغريزية فيه، قطعاً تدفعه في نهاية المطاف إلى التفكير الذي لا يرى أمامه إلا طريقين كلاهما مر علقم. فينحرف رغبة في الحياة إلى الأقل مرارة، دون استخدام للعقل الذي عندما يوضع هكذا موضع للخروج منه، يتطلب منهم اعتماد الرؤيا بالصفحات. لا أن يحصروا أنفسهم ضمن رؤية الصفحة الواحدة، وبما يجعلهم يراوحون في ذات المكان بصيغة العلم / الإشارة التي يهتدي بها الآخر أي في شكل الرقم المستخدم لا الرقم الفاعل والمؤثر.
- استعادة مفهوم الفعل المقتَحِم الإرادي بما يجعلهم يخلقون الحدث والنقاش فيه تماما كما فعلت المقاومة العراقية وتفعله اليوم المقاومة الفلسطينية. لا المجرورين وراء النقاش لحدث يخلقه غيرهم.
فمن خلال هكذا تصور يستعيد الوطنيون والقوميون كل القوميين، موقعهم كعماد لخيمة الأمة في فعلها التحرري. استعادة تجعل كل منهم تماماً كأي قائد من قادة الفتوحات العربية الإسلامية يفكر بمنطق المسؤول على أمة بالكامل، يتمثلها في جيشه المحدود العدد قياساً بالمناطق المكلف بفتحها. لكونه يرى وجوده الذاتي في وجود الأمة والمحافظة عليها في توجهاتها المعنوية. لا وجود منعزل بصيغة الذات الطامحة لما هو محدود.
هكذا كان قادة نموذج البناء الحضاري للأمة الذي خلقته رسالتها الخالدة في بعثها الأول ومن روح هذا النموذج استقت ثورة السابع عشر/ الثلاثين من تموز 1968 خصائصها سواء البشرية أو المادية التطبيقية. وعليها بنت مثالها كتجربة رائدة في تاريخ الأمة الحديث بما يجعلها تعبيراً صادقاً عن بعثها الثاني. فلقد رأت قوتها في أن تكون جزءا من أمة قوية. لا في غريزة البقاء بأي شكل من الأشكال ولو على حساب الآخر. وكان ذلك بناء على قدرة متقدمة لقادتها في قراءة الواقع القطري في مختلف جوانبه وأثره القومي، فالعراق:
يوجد من الناحية الجغرافية في منطقة تعرف في الجغرافية السياسية بمنطقة تقابل الحضارات أو النفوذ. قراءة سريعة لتاريخ العراق القديم / والوسيط/ والحديث تقدم فهما لذلك. منطقة مفتاح بأكثر من صيغة وبالاتجاهين الايجابي والسلبي لعل أهمها وبدون الدخول في التفاصيل (التوحد والتوافق //التقابل والصراع).
يمتلك أكبر خزان من المواد الأولية المعلن منها و غير المعلن ، المسرب منها للدراسة أو ذلك المحتفظ به.
يمتلك إنسان متحفز دوماً للبناء و الإبداع كلما توفر له الأمن و الأمان. حالة امتلكها عبر الحقب التاريخية وما عرفه من حضارات أنتجت تراكم قيمي من الصعب بل من المستحيل أن تجده في شعب من شعوب الدنيا حتى عند غيره من العرب رغم تعدد الخصائص المشتركة وتفرعاتها.
العراق عامة و حتى 1968 كان من الناحية الاجتماعية هدف لتأثيرات خارجية اقليمية ودولية تحاول ان تجعله مجتمع “الخيام” المتعددة الولاءات تكبر الخيمة فيه حسبما يتوفر لها من مصالح ذاتية و تصغر منزوية كلما قلت الاستفادة . لذلك كان العراق ثقافياً وعلمياً ومن حيث البناء والنهوض معطلاً وخارج دائرة الفعل. بكلمة واحدة كان مجتمع الفعل ورد الفعل الغريزي.
فهل بقي العراق هكذا في الفترة اللاحقة؟
- منذ عام 1968 بدأ التغيير صعوداً وشموخاً لا للعراقي في تعامله مع واقعه وإنما للعراق كحالة عامة في نظر الآخر. ولعل أبرز ما يميز ذلك تمزيق خيام الولاءات المتعددة لفائدة خيمة الوطن وهو العراق من زاخو إلى الفاو. فمن صنع هذا التحول؟ صنعته إرادة العراقيين بكل أطيافهم الاثنية والدينية والمذهبية، المعلنة والمجسمة واقعاً، أو تلك المحدودة والغير بائنة ميدانياً. وكان من الطبيعي ان يقترن هذا الصعود بإبداعات علمية وثقافية وبتنامي الإنتاج وتنوعه وأفضى إلى كم هام من النتائج.
- تصفية شبكات التجسس الصهيو- أنجلو -أمريكية ومرتكزاتها الاجتماعية والطائفية سنة 1969/1970.
- إصلاح زراعي أنهى ما تبقى من مخلفات الإقطاع الذي طبع النظام الاجتماعي الذي كان سائدا في العراق حتى بداية السبعينات والمرتكز على القبلية.
- إرساء مؤسسات الحكم الذاتي بالمنطقة الكردية تطبيقا لبيان آذار (مارس) 1970.
- تأميم النفط كاملاً وظهور العديد من المؤسسات الصناعية الوطنية في مختلف المجالات اعتماداً على كفاءات وطنية وما أفرزه من تنوع في دعائم الاقتصاد الوطني.
- تجديد وتطوير التعليم وتعدد مؤسساته بما يخدم حاجة المؤسسات الوطنية ويخلق الأرضية الملائمة للتطور التكنولوجي عنوان العصر.
- تأمين المجال الجغرافي الوطني في وجه الأعداء التقليديين الذي عبرت عنه الحرب الإيرانية العراقية وما أفضت إليه من امتلاك العراق لقوة عسكرية هامة.
- العمل على خلق انفراج سياسي داخلي من خلال طرح مسودة دستور للنقاش يقطع مع حالة الشد التي فرضتها مرحلة البناء الهيكلي والتنظيمي للمجتمع العراقي بكل مكوناته العرقية والطائفية وللدولة الوطنية وذلك سنة 1989 – 1990.
كم من النتائج لم يكن من السهل القبول بها من قبل عدة أطراف، منها ما هو إقليمي، ومنها ما هو عالمي ليحصل ما يحصل للعراق. ليس فقط لأن البعث هو من كان المسؤول على ذلك، ولكن حتى ولو قام بهذه الانجازات أي نظام غير النظام الوطني بعنوانه المعروف (البعث)، وتعامل بذات الصيغ والمفاهيم التي يتعامل بها البعث، ويتجه بها إلى ذات الهدف المعلن للبعث ونظامه الوطني.
في العودة إلى سنة العدوان الثلاثيني 1991 والخطاب السائد إعلامياً مكتوباً أو مسموعاً، كان العرب بمثقفيهم وبجماهيرهم كلهم مع العراق في مظاهراتهم في جلساتهم الخاصة والعامة. عدد محدود وغير محسوب من كان ينظر ولا يتجرأ على استخدام لفظة أمريكا على لسانه بما في ذلك الصحفيين في مقالاتهم. أنظمة في حد ذاتها، ورغم الحماية الأمريكية لها كانت تهرب في التفسير إلى مصطلح الشرعية الدولية لمداراة خيباتها “الوطنية”.
لماذا؟
لأن العربي يعشق القوة، يعشق الأنفة والعزة، ويحلم بها. إنها الموروث الاجتماعي والمتراكم المعرفي من الفعل الحضاري عامة، ولحياة القبيلة فيما تطرحه من رابطة تضامن خاصة. في دراسة جامعية صادرة عن جامعة هايدلبيرغ في ألمانيا لأستاذ متخصص في اللغات القديمة يشير فيها الى ان كلمة ” الأحرار” عند الأكديين ـ وهم أول إمبراطورية تأسست بعد السومريين وعاصمتها أكد في العراق، هي (غريبو.. أو.. عريبو) كما أطلقوها على المجموعات القبلية التي تعيش في غرب الإمبراطورية وهم العرب.
هذا الموروث تعمل كل القوي المستهدِفة للأمة على طمسِه أو قتله إن أمكن لها ذلك. من هنا كانت السياسة الأمريكية في جانب من جوانب عملها تتبع استراتيجية الصدمة والترويع. كما نرى التيئيس الذي ساد بعد احتلال العراق، ومحاصرة المقاومة بالصيغة والشكل المعاش. كما عملوا على تشويه القيم والرموز. اضافة الى انهم يتجهون إلى المجتمع عامة بالشكل الذي يؤدي الى إعادة صياغته بحيث تكون أمثالَه ومُثُلِه من غير واقعه. اي أن تكون رموزه وهاماته من غير تربته ومجتمعه، وبما يجعله منتمياً شكلياً لواقعه ومنفصلاً روحيا عنه.
لذلك هدفنا يجب أن يكون تسفيه ذلك بالتحشيد إعلامياً أو مادياً، وراء القوة الأساسية المشتبكة مع أمريكا منذ 1991 وحتى الآن وهي **المقاومة العراقية بكل صيغها **.
- إسقاط أمريكا في العراق كمشروع سواء في شكله المباشر أو غير المباشر الذي يمثله التمدد الإيراني.
- إسقاط لها في كل الساحات العربية. بما في ذلك اسقاط المشاريع المتممة لها ممثلة في مشروع بناء دولة الكيان الصهيوني، ومشروع احياء بناء الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الطورانية لما تمثله هذه الأدوات من عوامل رافعة لرؤية الهيمنة الغربية للعالم.
- العمل على استعادة المجتمع لعلاقاتِه بموروثِه لما لذلك من اهمية حاثة على استعادة الأمة لحقها في التحرر والاستقلال والفعل الحضاري بصيغه الانسانية السمحة.