من وحي خطاب الرفيق أبو جعفر
في ذكرى ثورة ١٧ تموز الخالدة
د- فالح حسن شمخي
استمعت جيداً لخطاب الرفيق أبو جعفر أمين سر قيادة قطر العراق، لمناسبة الذكرى الخامسة والخمسين لثورة ١٧-٣٠ تموز في العراق. ويمكن أن نطلق عليه خطاب المرحلة، فالمنطق العلمي يقول ان لكل مرحلة تاريخية اسلوبها في الخطاب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفلسفي والفني.
الخطاب بدأ بالحديث عن الصبر والتضحية:
بدأ الخطاب بقول الله جلت قدرته:
بسم الله الرحمن الرحيم
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ “
صدق الله العظيم
والصبر كما هو معروف يقترن بأركان الإسلام ومقامات الإيمان، فقٌرن بالصلاة في قوله تعالى: {وَاستَعِينُوا بِالصّبرِ وَالصّلاةِ} [البقرة: 45]، وبالتقوى في قوله تعالى: {إنّهُ مَن يَتَقِ وَيَصبِر} [يوسف: 90]، وبالشكر في قوله تعالى: {إن فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور} [لقمان: 31]، وبالرحمة في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوا بِالصّبرِ}.
التضحية:
حدثنا الخطاب عن رفاقنا الذين فجروا ثورة ١٧ تموز ١٩٦٨ والذي أطلق عليهم (الرعيل الأول)، ذكرنا بتضحياتهم الجسام التي قدموها لإنجاز مشروعهم الثوري الذي سماه (الوليد الجديد).
التضحية هي أن يدافع الإنسان عن نفسه وعرضه وماله، فواجب المناضل الثوري هو صيانة نفسه وعرضه، وماله، وهنا نشير إلى أن المقصود بالنفس والعرض والمال، هو مال ونفس وعرض الشعب العراقي الذي حافظ عليه الثوار على مدى ٣٥ عاما من الحكم الوطني في العراق، لقد قدموا العراق على أنفسهم وعوائلهم وهذه هي التضحية.
يروى ان رجُلًا قال: يا رسولَ الله، أرأَيْتَ إنْ جاءَ رجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مالِي؟ قال: “فَلا تُعْطِه مالَك”، قال: أرأَيْتَ إنْ قَاتَلَنِي؟ قال: “قاتِلْهُ”، قال: أرَأَيْتَ إن قَتَلَنِي؟ قال: “فأنت شهيدٌ”، قال: أرأيْتَ إن قتلتُه؟ قال: “هو في النار.
ويروى أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِه فَهُوَ شهيدٌ”.
وقال شاعر من شعراء العرب:
يَهُونُ عَلَيْنَا أَنْ تُصَابَ جُسُومُنَا.. وَتَسْلَمَ أَعْرَاضٌ لَنَا وَعُقُولُ
العراق هو الطليعة:
لقد آمنت قيادة الحزب في العراق بأنها عليها كطليعة ثورية أن تتصدى لسبات وكبوات الأمة العربية المجيدة وتأخذ على عاتقها شرف المسؤولية في اعادة أمجاد الأمة التي تكالبت عليها القوى المعادية، بمشروع نهضوي حضاري جديد، بعيد عن التجريب الذي ساد في تلك الأيام.
الانشطار العمودي:
نتيجة للهيمنة الامبريالية الاستعمارية انقسم العرب الى كتلتين الأولى تشد المجتمع العربي الى الماضي، وبحجة ضياع الهوية القومية والوطنية، والأخرى تدعو الى اللحاق بالغرب بحجة الحداثة والمعاصرة، والتخلي عن التاريخ العربي الخالد الذي يحمل بين طياته الكثير من الدروس والعبر التي تخدم الحاضر والمستقبل، لقد لخص الخطاب الصراع الذي تخوضه النخبة المثقفة في أمتنا العربية ما بين الثابت والمتحول، والحداثة. والمعاصرة.
فالخطاب يعيب على القوى العربية المتنورة فكريا عدم امكانياتها أو ضعفها واستكانتها نتيجة ما تعرضت له من هجوم القوى المعادية الذي يصل الى مستوى الحرب، فاكتفت هذه القوى المتنورة بإثارة التساؤلات التي لا تجدي نفعا، لأنها لم تصل الى إجابات علمية وعملية شافية في الوصول الى الهدف المنشود وهو اللحاق بالركب، واحياء الماضي الحضاري الإنساني للأمة.
طبيعة الإنسان العراقي بين الغضب والثورة:
تناول الخطاب طبيعة الإنسان العراقي والتي هي نتاج الموقع الجغرافي وكثرة الأطماع التوسعية فيه، والحروب التي خاضها، والحضارات التي تعاقبت عليه، وهنا لابد أن نشير الى ان الخطاب قد تناغم مع نظريات علم الاجتماع الحديثة ولخصها والتي تناولت الشخصية العراقية.
صراع القوى بعد العام ١٩٥٨:
حمل الخطاب القوى الوطنية العراقية التي كانت مؤتلفة بجبهة الاتحاد الوطني والتي تشكلت قبل عام ١٩٥٨ مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع بعد ذلك، وهنا لم يستثني أحداً، وهذا هو الرقي بتناول التاريخ.
البعث برنامج سياسي واضح المعالم:
يستند البرنامج السياسي للبعث الى تاريخ طويل نضالياً وفكرياً، ويستند عقائديا الى تاريخ حضاري إنساني سطره الأجداد، تعامل البعث مع التاريخ بمفهوم، (الاستلهام)، أي الأخذ بما هو جيد ومبدع ويصلح أن يكون نموذجاً ورمزاً لإتباعه، وترك ما دون ذلك.
نجت ثورة تموز لتضع الحلول للمشاكل المتراكمة:
إن أول ما تحدث عنه الخطاب هو تعامل الثوار مع القضية الكردية، فكان الحل هو بيان 11 آذار الخالد. وثاني ما تعامل الثوار معه هو الثروة النفطية فكان تأميم النفط الخالد، والذي كان له الأثر على التنمية الشاملة في مجال الصحة والتعليم وبناء القاعدة الصناعية والزراعية وغيرها. وثالث ما تعامل معه الثوار هو القضاء على شبكات التجسس التي كانت تعيث بالأرض فسادا.
توطين التكنولوجيا:
عبارة جاءت في الخطاب علينا التركيز عليها طويلا، فنقل التكنلوجيا الغربية من دون فهمها وتفكيكها وتركيبها كما فعلت ثورة تموز التي أنتجت آلاف العلماء الذين تعاملوا مع تكنلوجيا الغرب. إن نقلها حرفيا ومعها الخبراء والاكتفاء بأن نضع حرس على بوابات المصانع والمعامل كما هو الحال في بعض الاقطار العربية يعتبر عملا مشيناً، وهنا نفهم ان التوطين هو المشاركة والمعايشة والبدء بالتعامل مع التكنلوجيا.
الحديث عن الاعتقال والتعذيب والتغييب:
حديث الرفيق أبو جعفر عن الممارسات التي تتنافى مع حقوق الإنسان في العراق على يد الاحتلال وذيول إيران، تحمل مصداقية عالية لأنها تأتي من رجل عانى الاعتقال والتعذيب وهو شاهد عيان على تلك الممارسات الوحشية القذرة التي تمارسها الحكومات العميلة في العراق، ومارسها الاحتلال الأمريكي.
تحية المقاومة وثوار تشرين بعيد عن الوصاية والتعالي:
لقد حيا الرفيق أبو جعفر المقاومة العراقية التي عاش فاعلا فيها وعرفها عن قرب، المقاومة التي أجبرت المحتل الأمريكي على الهروب، حيا الجيش العراقي بكل تشكيلاته والذي كان هو النواة في تشكيل فصائل المقاومة، وحيا فصائل المقاومة الأخرى، ولم يدع أن المقاومة كانت حكراً على حزب البعث العربي الاشتراكي.
أما ثوار تشرين فقد تبنى الخطاب طروحاتهم وأهدافهم وتطلعاتهم بعيداً عن الوصاية أيضاً.
مالم يذكر في الخطاب وتم التسامي عنه:
أترك الأمر للقراء ولكني أٌذكر بقول شاعر العرب ابو الطيب المتنبي:
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ