جذور النضال السلمي الديمقراطي في تجربة البعث:
الحالة السودانية نموذجاً
(الحلقة الأولى)
عادل خلف الله
السلمية والكفاح المسلح وسيلتان للنضال ولكلٍّ ميدانها
يتناول هذا المقال المطول، والذي ينشر في حلقتين، اساليب النضال التي اعتمدها حزب البعث العربي الاشتراكي، منذ تباشير نشأته اواسط ثلاثينيات القرن الماضي، ثم تأسيسه رسميا، في مؤتمره الاول في السابع من ابريل / نيسان 1947، وحتى الان، وهي حقبة زمنية ناهزت الثمانين عاما، مر خلالها النضال الوطني والقومي، وما يزال، بمرحلتين، ساهمتا في تشكيل وتحديد خياراته للوسيلة:
الاولى:
مرحلة النضال والوقوف في وجه التحدي الخارجي المتمثل في العدوان الخارجي والاحتلال.
والثانية:
هي مرحلة، ما بعد نيل الاستقلال السياسي الوطني لتحقيق مهامها ومقاومة الدكتاتوريات.
ولذلك تبنى البعث لكل مرحلة ولمواجهة تحديها، وسيلة تتكافأ معها ومع متطلباتها فكان، للمرحلة الاولى الكفاح المسلح، او الثورة الشعبية المسلحة والنضال السلمي الديمقراطي لتحقيق مهام ما بعد الاستقلال، وفى المرحلة الثانية، بالحلول السلمية لقضايا التطور الوطني والادارة السلمية لمجريات الصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وترسيخ النظام الديمقراطي التعددي، واستدامته، وفق الخصائص الوطنية.
يركز المقال بالاستعراض التاريخي، على ابراز الجذور والمرتكزات الفكرية والآفاق السياسية للنضال السلمي الديمقراطي في السودان، وبالإشارة الى وسيلة الكفاح المسلح، عرضا، لزوم المقارنة، والتمييز بينها وبين تبنيها من لدن احزاب سياسية وقوى مسلحة ما بعد الاستقلال. ويخلص المقال في حلقته الثانية الى المعطيات والدروس المستفادة وبما يعزز الطاقات النضالية لمجابهة تحديات الحاضر، بحس ووعى مستقبلي.
النضال السلمي لمواجهة الدكتاتورية وترسيخ الديمقراطية
تستأثر *أطروحة* السلمية (النضال السلمي الديمقراطي بمختلف وسائله) باهتمام بارز في سياق نضال ابناء وبنات شعبنا في السودان، راهنا، من أجل مواجهة الأوضاع الناجمة عن انقلاب 25 اكتوبر/تشرين أول 2021، واستعادة مسار الانتقال الديموقراطي بقيادة السلطة المدنية. وقد أدى اندلاع الحرب، في 15 أبريل/ نيسان الماضي، بين مكوني الانقلاب وقطبيه، ضمن صراع على السلطة، تُغذِيه عناصر وفلول نظام عمر البشير، داخل القوى المتحاربة وخارجها، إلى مزيد من الحاجة للتأكيد على الموقف الرافض للحرب، ولاستمرارها وتوسيع نطاقها، ضمن الموقف المناهض للانقلاب، والمتمسك بالسلمية نهجا في النضال من أجل تحقيق كامل أهداف ثورة ديسمبر/كانون أول 2019، ومهام ما بعد الاستقلال السياسي. فخلال أربع سنوات مضت، ظلت جماهير الانتفاضة الثورية تحافظ على سلمية نضالها وتؤكد على نبذ العنف، ما أعطى الثورة بعداً أخلاقياً غالباً وجماهيرياً واسعاً، وطابعاً ملحمياً متجددا.
جذور السلمية وتقاليدها
ترتبط سلمية ثورة ديسمبر/ كانون الأول، بمجمل التقاليد النضالية الراسخة للشعب السوداني، منذ فجر الكفاح من أجل الاستقلال، وبموازاة ثورة 1924، آخر مواجهة مسلحة مع الاستعمار الإنجليزي بعد الثورة المهدية، اكتمل نضج النهج السلمي وتبلورت تقاليده. حيث ارتبطت السلمية بنمو القوى الاجتماعية الجديدة، وتعبيراتها الفكرية والسياسية والثقافية، التي ارتبطت بنشوء الدولة الحديثة ومؤسساتها: المؤسسات التعليمية، المشاريع الزراعية، المؤسسات الصناعية والورش والمصانع، السكة الحديد، الجيش، الشرطة.. الخ، فعرفت الساحة السياسية والفكرية، مع الجمعيات السرية، الأدبية والسياسية، عامئذ، المذكرات المطلبية، والحركات الاحتجاجية، والاعتصامات، والإضرابات، والتظاهرات.
وخلال الثلاثين عاما التي تلت، تعززت تلك الوسائل النضالية، بنشاط النقابات والاتحادات الطلابية والعمالية والمهنية والخريجين والأحزاب السياسية والتشكيلات الاهلية والفئوية، حتى تُوجت بنيل الاستقلال رسميا في مطلع 1956. ولم يغير التمرد المسلح، الذي قاده الجنوبيون، في توريت، عشية الاستقلال في أغسطس 1954، التزام الحركة السياسية الشمالية، في عمومها، بالنهج السلمي الديموقراطي.
الانتفاضة الشاملة الارادة السحرية لهزيمة الدكتاتورية العسكرية والاستبداد المدني
وقد اعتبر الانتصار على الدكتاتورية ابان الحكم العسكري الأول (1958 – 1964)، والثاني (1969 – 1985)، والثالث (1989 – 2019)، عبر الانتفاضة الشعبية، انتصاراً حاسماً للسلمية وتكريساً للانتفاضة الشاملة في مواجهة النهج الدكتاتوري، كما لاحظ البعث ذلك، في قراءته لثورة أكتوبر/ تشرين أول 1964، والتي تضمنتها وثيقة البعث وقضايا النضال الوطني في السودان، الصادرة مطلع سبعينيات القرن الماضي، والتي تعد مع صدور صحيفة الهدف، إيذانا بالإعلان الجماهيري للبعث في السودان، والانتقال من السرية والتبشير، للعلنية والالتحام بالجماهير.
وقد أكدت الوثيقة، التي اعتمدها مؤتمر القطر الرابع، على ضرورة استلهام البعث تقاليد الشعب السوداني وحركته الوطنية في النضال لمواجهة الدكتاتوريات والاستبداد ومن أجل بلوغ مهام ما بعد الاستقلال بمحتوى ديمقراطي تقدمي.
ثمة ما هو مشترك منذ النشأة الأولى لكل من تنظيمي البعث في السودان وفي سوريا (قبل ردة فبراير/ شباط 1966)، ففي مراجعات نقدية مهمة، توقفت المؤتمرات القومية، منذ المؤتمر السابع، مرورا بالثامن والتاسع، وحتى الثاني عشر للتمييز بين ما هو أصيل، جوهري واستراتيجي، وما هو عرضي، اقتضته المرونة التكتيكية ومقتضيات التواؤم مع تحديات المرحلة، في تجربة الحزب السياسية واختياراته، شملت مراجعاته تلك المنطلقات النظرية، ومن ذلك تجربة الحزب الواحد، و الحزب القائد، في علاقتها بالالتزام الديموقراطي والتعددية، بالرجوع لنقطة البداية ، والاستجابة المبدئية لمتغيرات الواقع والمرحلة، حيث أكد دستور الحزب المجاز من مؤتمره التأسيسي 1947، على النظام الديمقراطي التعددي، وعلى مبدأ التناوب السلمى للسلطة، عبر الانتخابات، وعلى أفضلية النظام الديمقراطي النيابي على النظام الرئاسي، وعلى المواطنة كأساس للحقوق والواجبات المتساوية، دون تمييز، وعلى ان الشعب مصدر السلطات . وقد تم تأشير أثر الحياة في سوريا، في أربعينيات القرن الماضي، في التأثير على خيارات الحزب المتعلقة بالديموقراطية والتعددية السياسية، وبالسلمية، بالنتيجة، بأثر البيئة السائدة عامئذ. فالحزب الذي طرح في العام 1948 شعار: ” فلسطين لن تحررها الحكومات، وإنما الكفاح الشعبي المسلح”، وشارك مؤسسه، الراحل احمد ميشيل عفلق، مع متطوعين في الثورة الفلسطينية، امتثالاً لنداء (نصرة فلسطين) الذي أطلقه، لم يستنكف المشاركة في خوض المنافسة البرلمانية للوصول، عبر البرلمان، للسلطة في سوريا، لاحقا.
التمسك بالسلمية اختبار لحيوية الموقف المبدئي وسلامته:
ولم تختلف ظروف تلك النشأة جذريا عن الأحوال التي أحاطت بنمو وتطور البعث في السودان، كما لم تستطع المؤثرات والتطورات السياسية على المستويين الوطني، والإقليمي والعالمي، بما في ذلك موجة الانقلابات العسكرية، أو الانفعالات بالتجارب الثورية القائمة على العنف والكفاح المسلح، في آسيا وامريكا اللاتينية وأفريقيا، الاكثر تأثرا بتعاليم ماوتسى تونغ وتشي جيفارا، أن تحجب عن البعث رؤية ما هو جوهري في تكوينه، ممثَلاً في منحاه السلمي الديموقراطي والشعبي. وهو يخوض غمار مهام ما بعد الاستقلال ومقارعة الدكتاتوريات. كما لم تَحُل قناعاته هذه من دعمه المطلق للمقاومة الفلسطينية والكفاح المسلح لشعبنا في فلسطين.
يجدر بالانتباه لأثر الخصوصية القطرية، أو السياقات التاريخية الخاصة بكل قطر، والدور الذي يمكن أن تلعبه في تعيين خيارات الحزب، وهي كخصوصيات، قد لا تصلح للتعميم على الكل القومي، وهو ما يسمح لتجربة الحزب بالاغتناء بالتنوع، لا سيما وأن البعث تميز، فيما تميز فكريا، منذ التأسيس بإقرار التنوع الثقافي والحضاري، في إطار وحدة الامة، على الصعيد القومي. وفي سياق مفهوم القوميات المتآخية.
ومع تفهمه للظروف التي دفعت بالجنوبيين لحمل السلاح ثانية في العام 1983، كما عبر عن ذلك الأستاذ بدر الدين مدثر، أمين سر الحزب، وقتئذ، وهو يدعو الحركة الشعبية لتحرير السودان، بزعامة جون قرنق، للالتحاق بركب الانتفاضة بعد الإطاحة بدكتاتورية نميري بانتفاضة مارس/ أبريل 1985، لكن ذلك التفهم لم يدفعه إلى تبني أسلوب العمل المسلح أو تأييده مطلقا.
فقد اعترض البعث في وقت لاحق على انضمام الحركة الشعبية لتحالف المعارضة، التجمع الوطني الديموقراطي، الذي تكوَّن في أعقاب انقلاب الجبهة الإسلامية واستيلائها على السلطة عام 1989، وتبنى ما أُطلق عليه (الانتفاضة المحمية)، وتلا ذلك خروج البعث من التجمع، الذي كان أحد مؤسسيه، عندما تبنى التجمع، تحت تأثير اطروحات الحركة الشعبية، الكفاح المسلح، استراتيجية واسلوبا لعمله.
وبعد تجربة سنوات من العمل المسلح تحت قيادة الحركة الشعبية، انتهت بانفراد الحركة بالتفاوض مع نظام الإنقاذ، وهو تفاوض مهد طريق الجنوب للانفصال، عادت مكونات التجمع الوطني الديمقراطي، للنضال السلمي المستند على ارادة الجماهير واستعدادها، بعد أن كونت أحزاب، الأمة والاتحادي الديمقراطي والشيوعي، فصائل (جيوشا) مسلحة، وهو الموقف الذي ظل البعث ثابتا عليه، ما ينهض دليلاً على اصالة وسلامة موقفه ومعاصرة وحيوية اختياراته.
لقد تمسك البعث، ومنذ مرحلة التأسيس مطلع ستينيات القرن الماضي، بوسائل النضال السلمي الديمقراطي، وصولاً للإضراب السياسي والعصيان المدني، ورفض بالمقابل، استخدام العنف والعمل المسلح في السودان، لإيجاد حلول لقضايا التطور الوطني، أو لحسم الصراع السياسي والاجتماعي، حيث رفض الحل العسكري وسياسات الأسلمة والتعريب القسري في جنوب السودان، التي تبناها انقلاب الفريق عبود 1958، (أول دكتاتورية عسكرية) في مواجهة ما عرف بتمرد حركة (انانيا 1)، وحل قضية الجنوب، وقد تم توثيق كل ذلك في كتاب البعث ومسألة الجنوب في السودان، للراحل الأستاذ بدر الدين مدثر، طيب الله ثراه.
وظل البعث منذ ذلك الحين، يجدد هذا الموقف في مواجهة العنف، سواء كان العنف من لدن السلطة القائمة أو العنف الذي تبنته قوى سياسية، أو حركات مسلحة أو جماعات، تعبيرا عن خطابه الفكري، المستند كليا على الجماهير ،وسيلة النضال وغايته، واستيعابا للتجربة و البنية الاجتماعية والثقافية للسودان، في تمييز واضح ودقيق بين مقولة ( فلسطين لا يحررها إلا الكفاح الشعبي المسلح)، كدلالة على النضال الشعبي المسلح في مواجهة العدوان الخارجي و الاحتلال، وبين مقولة (العصر عصر الجماهير) كدلالة على اعتماد المشاركة الجماهيرية الواسعة، لحل قضايا التطور الوطني ومقارعة الاستبداد والتسلط العسكري أو المدني، في اطار ديمقراطي.
ولم تغفل استراتيجية المواجهة الشاملة، التي طرحها الحزب في 7 أبريل/نيسان الماضي، المصادف الذكرى السادسة والسبعين لميلاده، مقتضى التحرير، حيث أكدت، مجددا، على حتمية تصعيد الكفاح الشعبي، كسبيل وحيد لتحرير الأرض من الاحتلال، بكل أشكاله، بجانب تأصيل الديموقراطية عبر المقاومة والحراك الشعبيين، بالاستناد لخبرة ثورات الانتفاضة الشعبية العربية منذ عام 2011، لاسيما في كلا من تونس، مصر، سوريا، اليمن، ثم الجزائر، ولبنان، والعراق، في تلازم جدلي بين التحرير والتغيير، والتحصين ضد حرف الانتفاضة بعسكرتها كما جرى لها في ليبيا وسوريا واليمن أو بالاحتواء كالذي تعرضت له الانتفاضة في تونس ومصر، وما تزال تتعرض له في السودان.
ودون القفز فوق الظروف الذاتية، قبل الموضوعية، التي لازمت الانتفاضة في كل قطر، على حدا، والتي تؤكد وحدة دوافعها الموضوعية ومسبباتها القومية المشتركة، ينبغي التأكيد على أن صمود الانتفاضة السودانية، ومقاومتها لكافة أشكال التآمر عليها، بالحرف أو الاحتواء، يعود في جانب منه للخبرات التاريخية التراكمية للنضال السلمي الديمقراطي في السودان، والذي رفع سقف التآمر عليها بتنفيذ انقلاب 25 اكتوبر 2021، كأسوأ الانقلابات التي تعاقبت، ثم الإفراط في العنف بالحرب في 15 أبريل 2023.
التي اندلعت بين قطبي الانقلاب. وفى موقف معاصر، جدد البعث اصالة ايمانه وتمسكه بالسلمية، رفض وقاوم الانقلاب قبل وقوعه، مع قوى الديمقراطية والتغيير، ورفص الحرب ودعا لإيقافها، والحيلولة دون اتساع نطاقها، ولعدم الركون لما ينجم عنها سياسيا.
يُتبع لطفاً