بمناسبة
في ذكرى رحيله…
الطريق إلى البعث.. عهد البطولة.. قراءة مستمرة
د. نضال عبد المجيد
تحل في الثالث والعشرين من حزيران، الذكرى الرابعة والثلاثون لرحيل مؤسس البعث وقائده المفكر القومي الأستاذ أحمد ميشيل عفلق، وفي هذه الذكرى، تتمثل في عقول المناضلين ووجدانهم الصفات الفكرية والنضالية لهذا الرجل، الذي نذر حياته من أجل الأهداف السامية للأمة العربية، وفي هذه المناسبة التاريخية، نقلب صفحات من الفكر النير لمؤسس البعث، والتي تشكل الدعامات الفكرية للبعث وللفكر القومي العربي بشكل عام، فقد افتتح القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق مشروعه الفكري والنضالي، بمقاله الأثير.. عهد البطولة.. وذلك في تشرين أول من عام ١٩٣٥ ليضع الأساس النظري للحركة الثورية التي ستنهض بعد سنوات قليلة، وتأخذ مداها الرحب في ساحة النضال القومي.
وقبل أن يبدأ في بلورة أفكاره، التفت إلى الأداة التي ستنهض بهذه المهمة التاريخية، أنها الجيل العربي الجديد، الذي سيحمل على كاهله مهمة التبشير بهذه المبادئ السامية، التي ستنتشر بعد بضع سنين لتعم أرجاء الوطن العربي، وليحمل الفتية النموذج، عبء النضال القومي، لتحقيق أهداف هذه الحركة التاريخية التي استقطبت الملايين من أبناء الأمة العربية، المتطلعين إلى وحدتها وحريتها واشتراكيتها.
نعود لمقالة عهد البطولة، فذكرى رحيل مؤسس البعث تدعونا إلى أن نعيد قراءة أسطرها المكتوبة بماء المعاناة والتي ستضع اللبنات الأساسية في بناء حركة نضالية ستضطلع فيما بعد بالمهام القومية الجسام.
تكوين شخصية المناضل
بناء المناضل البعثي، كان أول ما جاء بخلد القائد المؤسس، لأنه الأداة، والوسيلة والغاية، هذا المناضل، هو الطليعة وهو القدوة، وهو المضحي بسخاء لا حد له، بدونه تبقى الأفكار حبراً على ورق، فمن سينقل هذه المبادئ إلى الواقع العملي، ذاك الواقع المريض الذي تشوبه أمراض التجزئة والتخلف والأمية والقهر الاجتماعي والاستبداد السياسي، وكأن ثمانية وثمانين عاماً مرت، وما زالت أحرف عهد البطولة تتألق في الفكر القومي، فبناء الشخصية البعثية المحصنة من الأمراض الاجتماعية التي تنخر بالمجتمع العربي، ستكون المهمة الأولى لهذه الحركة التاريخية، فتحصين هذا المناضل هي البداية الصحيحة، لخلق الإنسان، المنضوي تحت راية البعث، فالمناضل الصادق مع نفسه قبل أن يكون صادقاً أميناً مع رفاقه وأبناء شعبه، لهو قدوة البذل والتضحية، وبعد ست سنوات على هذه المقالة، اختبر البعثيون الأوائل أنفسهم، بتأسيس حركة نصرة العراق، بعد حصول الحرب العراقية البريطانية في مايس ١٩٤١، والتي تسمى بحركة رشيد عالي الكيلاني.
في حركة نصرة العراق رفع البعثيون الأوائل شعارهم “ضحي برفاهك أياماً ..تضمن السعادة لأمتك أجيالاً ” ، فتبرعوا بما استطاعوا توفيره من قوتهم اليومي، ووصلت طلائعهم إلى العراق للمشاركة في التصدي للعدوان البريطاني، وهم يلهجون بدعائهم الخاص ” اللهم أنت الذي أردت أن يكون العرب أمة موحدة قوية هادية تحمل إلى العالم رسالتك، تريد اليوم أن تعيد إليهم وحدتهم وقوتهم ليؤدوا هذه الرسالة من جديد، اللهم هبني قوة الإيمان وصفاء الفكر وصلابة الإرادة لأكون جندياً نافعاً في الجهاد الذي يقوم به العراق من أجل وحدة العرب.
صفات المناضل
في هذه الممارسة النضالية تمثل الشباب العربي المنضوي في حركة نصرة العراق، صفات البعثي المؤمن بأمته كما خطها القائد المؤسس، في مقالته سالفة الذكر، وهي:
أولاً – هم الذين يجابهون المعضلات العامة ببرودة العقل ولهيب الإيمان.
ثانياً – يجاهرون بأفكارهم ولو وقف ضدهم أهل الأرض جميعاً.
ثالثاً – يسيرون في الحياة عراة النفوس.
رابعاً – لهم صدق الأطفال وصراحتهم لا يفهمون ما يسمونه سياسة، ولا يصدقوا أن الحق يحتاج إلى براقع والقضية العادلة إلى تكتم.
خامساً – حياتهم خطاً واضحاً مستقيماً، لا فرق بين ظاهرها وبين باطنها، ولا تناقض بين يومها وأمسها.
سادساً – الصلابة في الرأي فلا يقبلون في عقيدتهم هوادة، ولا يعرفون المسايرة فإذا رأوا الحق في جهة عادوا من أجله كل الجهات الأخرى، وبدلاً من أن يسعوا لإرضاء كل الناس أغضبوا كل من يعتقدون بخطئه وفساده.
سابعاً – أنهم قساة على أنفسهم، إذا اكتشفوا خطأ رجعوا عنه غير هيابين ولا خجلين، لأن غايتهم الحقيقة لا أنفسهم، وإذا تبينوا الحق في مكان أنكر من أجله الابن أباه، وهجر الصديق صديقه إن أمعنوا في خطئهم.
هكذا تصور القائد المؤسس صفات المناضلين البعثيين، وإن كان أطلق عليهم في مقالته الجيل العربي الجديد تارة، وتارة النشء الجديد، ولكن المرمى هو الطليعة التي ستدخل النضال القومي وتمنحه معنى جديداً بولادة حزب البعث العربي الاشتراكي، ومع ما يوحي هذا التصور من مثالية، إلا أنها تظل من أسمى الصفات، التي ينبغي أن يتصف بها حملة رسالة بحجم رسالة البعث، التي هي رسالة الأمة العربية في انعتاقها وتوقها إلى غدها المأمول، فالصدق ونكران الذات، والتطهر من الأدران الاجتماعية، التي حطمت الشخصية العربية طيلة القرون السود، منذ احتلال بغداد عام ١٢٥٨م، عندما تحطم العمود الفقري للأمة، فبدون الصدق ونكران الذات والتضحية، لا يغدو الإنسان مناضلاً في حزب رسالي كحزب البعث العربي الاشتراكي، ومع هذا تنبأ القائد المؤسس، بأن من يحمل هذه الصفات هم أقلية، نعم إنها الأقلية المؤمنة برسالة أمتها، وأن هذه الاقلية ستكون كذلك في المستقبل عندما تتبدى أمامها مشاق الطريق.
العقبات التي تواجه الطليعة
شخص القائد المؤسس في هذه المقالة التاريخية المصاعب التي ستجابه هذه الطليعة المؤمنة بالآتي:
أولاً – سلاح البرودة، (أي الانكار) التي ستواجهه هذه الطليعة من قبل بعض المواطنين، والسخرية من أهدافهم العظمى، والابتسامة المُستهزِئة التي ستواجه حماسة هذه الطليعة وندائها إلى النضال، ولمواجهة هذه المعضلة الإنسانية، يرى القائد المؤسس أن على هذه الطليعة أن تزيدها (برودة) مواطنيها، غيرة وإيماناً، فهو يرى أن واحداً من أسباب التأخر، هو في هذه الابتسامة الساخرة، التي يتسلح بها الضعفاء، كلما دعاهم الواجب واستيقظ في ضمائرهم صوت الحق. فهذه السلبية في الشخصية العربية موروثة، نتيجة ما تراكم على هذه الشخصية من قهر وعنت واستبداد طيلة قرون عدة، جعلتها شخصية سلبية معرقلة لأي فكرة جديدة، بل تثبط همم من يريد الارتقاء بها.
ثانياً- يرى القائد المؤسس أن ” ليست البطولة دائماً في المهاجمة بل قد تكون كذلك في الصبر والثبات، وليست الشجاعة دائماً في محاربة العدو الظاهري فحسب، بل إنما هي أيضاً – وعلى الأخص – محاربة العدو الباطني، أي يحارب المرء في نفسه اليأس والفتور وحب الراحة “.
إن جهاد النفس ولجمها عن الهوى، لهو من أشق الامتحانات التي تواجه المناضل، هذا المناضل الذي ينبغي أن تشع روحه بالتفاؤل، في أقسى الظروف. وأن يعمل دوماً لأداء مهامه وواجباته بلا فتور، إنه الإنسان الجديد، الذي ترقب القائد المؤسس ولادته.
سمات المرحلة التاريخية
وبعد أن تحدث القائد المؤسس عن صفات الطليعة، نراه ينتقل ليحدد سمات العهد الجديد، عهد النهضة القومية، كما يتطلع إليه:
أولاً- “أن تكون النهضة والاستيقاظ في كل عواطفنا الشريفة ومواهبنا العالية”، فتفجير طاقات الإنسان العربي هي الهدف الأسمى، هذه الطاقات التي سحقتها عوامل الزمن الطويل من القهر والاستعمار، التي مرت على الأمة العربية، مثلما يسحقها الاستغلال والجوع.
ثانياً – أن يكون الشخص الوطني ” إنسانياً، عفيف النفس، كريم الخلق، فالعاطفة الوطنية إذا لم تكن مصحوبة بهذه الصفات، فإنها مجرد كره للأجنبي”. هذه الصورة المثلى للإنسان العربي هي التي تجعل منه قدوة ونموذجاً يحتذى به للآخرين، وإلا كيف سيستطيع أن يؤثر في محيطه، وكيف يتمكن من مجابهة الصعاب، التي تحتاج إلى هدوء في النفس وتصالح معها في آن واحد.
غاية النضال
يختتم القائد المؤسس مقاله بتوضيح الهدف والغاية المرجوة من نضالنا:
أولاً – طلب الاستقلال: وأجزاء الوطن العربي حينها بين احتلال استعماري مباشر أو غير مباشر، لا يعني الانعزال عن بقية الشعوب، وأن نقيم سداً بيننا وبين الحضارة الإنسانية، وهنا يضع القائد المؤسس، البعد الإنساني للنضال القومي، وأن التفاعل بين الحضارات سمة البشرية منذ أن خُلقت، وإن من الخصائص الجوهرية للحضارة العربية الإسلامية، التفاعل مع الحضارات الأخرى، وكان من نتيجة هذا التفاعل والتمازج أن قدمت الأمة العربية للإنسانية نموذجاً فذاً، شكل الأساس الذي قامت عليه الحضارة الاوربية فيما بعد.
ثانياً – الحرية: وهي هنا لا تعني الفوضى، التي ستعيد الوطن العربي إلى القرون المظلمة التي رزحت أمتنا تحت أرزائها فذاقت الويلات والقهر.
طلب الحرية والاستقلال، لأنهما حق وعدل، وهما بالتالي من أبسط الحقوق للأفراد والأمم، وقد أكدت الشرائع السماوية والمواثيق الدولية على هذين الحقين. فالقائد المؤسس ينظر إليهما كوسيلة لإطلاق مواهب الإنسان العربي التي كبلها الجوع والقهر والاستبداد، وبالتالي يتحقق على هذه البقعة من الأرض الغاية الكبرى ” الإنسانية الكاملة “.
هكذا نظر القائد المؤسس للاستقلال والحرية بأنهما الوسيلة التي توصل إلى الغاية وهي الإنسانية الكاملة التي تعني تحرر الإنسان العربي من كل القيود، مثلما تعني أن يعيش بكرامة تليق بإنسان عانى ما عانى من الجور والظلم. وأن يحقق وطنه الاستقلال التام، الذي ما برح يتطلع إليه، فالدولة القطرية التي قامت عقب المغادرة الشكلية للاستعمار، لم تزل تئن تحت وطأته استعماراً اقتصادياً وتبعية سياسية مما زاد من الحمل الثقيل الذي تنوء به، وعمق من مشكلاتها البنيوية والتي لن تجد حلاً لها إلا بالوحدة العربية.
وبعد هذه القراءة السريعة لمقالة عهد البطولة، هذه المقالة المؤسسة للفكر البعثي، والتي تحتاج إلى ندوة فكرية كاملة للإيفاء بحقها، لفهمها واستيعابها، ليتعرف الجيل الجديد، عليها، وعلى تلك النظرة الاستباقية، التي تميز بها فكر مؤسِّس البعث.
سلام لروح القائد المؤسِّس أحمد ميشيل عفلق، ولأرواح المؤسسين الأوائل الذين بذروا بذرة البعث التي أصبحت الآن شجرة وارفة الظلال، تنشر أغصانها في سوح الوطن العربي.