بمناسبة
في ذكرى رحيله…
القَائِـدُ المُؤسِّسُ أحمَد مِيشِيل عَفلَق
وقَضِيَّتَي الأصَالة والمُعَاصَرة
الجزء الأول
القَائِد المُؤسِّس
المُفَكِّر والمُنَاضِل والانسَان
د. محمد رحيم آل ياسين
إنَّ الاُمَمَ الحَيَّةَ والفاعِلةَ في التَّاريخِ الانسانيّ هيَ التي تَعرِفُ قَدَرَ عُلمائها ومفكِّريها وتَستَهدي بأفكارِهم وعلومِهم وانتاجاتِهم الفكريَّة والعلميَّة، ومِن هؤلاء المُفَكِّرين الأجِلَّاء في عصرِنا الحديث، القائِدِ المُؤسِّس أحمَد مِيشيل عفلق، المُفكِّر والمُؤرِّخ والمُناضل والانسان العظيم. ويجدر بنا أن نذكر أنَّه يمكن للإنسان أن يكونَ مُفكِّراً أو كاتباً أو مثقَّفاً، ولكنْ أن يكونَ انساناً عظيماً فهذا ليس بمقدورِ أيِّ انسانٍ، لأنَّ الانسانيَّة على أصولها لها شروطٌ ومزايا موجِبةً كيما يكون الانسان عظيماً في مجتمعه وشعبه وأُمَّته، كما هوَ مُفَكِّر الأمَّة العربية العملاق والانسان العظيم أحمَد مِيشيل عَفلق رحمه الله. ويَبقى على أبناء الأمة أن يَجزونَ كلّ التَّقدير لمَن يَستحقّ التقدير ويَمتلكه، ولِمَن يَتشَرَّف به التَّقدير، ذلك لأنه شقَّ طريقاً جديداً لأمة بأكملها، وحدد معالمه الفكرية وقاد النضال على دربه، فكان منارة تهتدي بهديها الاجيال لا من البعثيين فقط وانما من كل ابناء الامة العربية المؤمنين بوحدتها وحريتها وحقها في التقدم والنهضة.
لقد عاش كلُّ عربيٍّ أصيلٍ كتابات القائِد المُؤسِّس قبل أن تُكتَب، أو يخطُّها بيده! كيفَ ذلك؟ نعم لأنَّه أيّ المواطن العربي لمسها واقعاً حيَّاً، عاشَ الألم والمعاناة والأوجاع العربية، فهو واقع الأُمَّة الذي تَجرَّع ويًتَجرَّع آلامه وعذاباته في كلِّ يومٍ، ولأنَّ المُؤسِّس رَحمه الله كان يَكتبُ وقائعاً حدَثَت وتَحدُث بالفعل. فانتخى هذا المُفكِّر العربي الكبير لأمَّته، وانتفضَ على التَجزئةِ والضعفِ والجهلِ والفقرِ والتَردِّي في واقعها، والظلمِ والاضطهادِ والوصايةِ من قبل الاستعمار الغربي لبلاد العرب.
فالمُؤسِّس هو مُفكِّرٌ وفيلسوفٌ ومؤرِّخٌ لا يمكن لأحدٍ ما أن يَبخسَه حَقّه في التَّقديرِ والاعتزازِ بكلِّ معانيهما، وليس لكائنٍ مَن يكون أن يُعَتِّم عليه وفكره القومي الرَّصين، فالشمسُ لا تُحجَبُ بغربالٍ، والحقائقُ لا يمكن طَمسها، أو لَوِي مسارَها أو تَهوينها وعكسَها مهما حاول أعداء البعث والأُمَّة العربية.
والمُؤسِّسُ فوقَ أن يَجهله أو يَتَجاهله أحدٌ من أبناء الأمة، فقد أقسمَ أمام الله والأمة أنَّ فكره المَكين ونضاله الضروس لن يتوقف لحظةً عن التعبير عن معاناةِ الأمَّة، وفي عرضِ آلامها ومُعضِلاتها، وفي شق طريق الحلول التي يَراها لإنقاذها من الهَوان والتَّردي، فكان ذلك.
وعندما كانَ يَكتبُ فهو يَتحدَّث الصُدقَ والأمانةَ اللتين يُمليهما عليه ضَميره ووجدانه الحَيّان الواعيان، فالكلماتُ والسطورُ التي يَخُطُّها بيدِه الكريمة، تُمثِّلُ تاريخاً وفلسفةً وفكراً عربياً بامتيازٍ، قلمه الرَّصين هذا كأنَّ مداده قطراتٌ من دمِه، فالسطورُ أيَّامٌ مشرقةٌ من عُمرِه النِضاليّ. حتى أصبحَ رأيُهُ فكراً قومياً اصيلاً وتَحوَّلَ الى عقيدةٍ ومَسارٍ نضاليٍّ طويلٍ لحزبٍ جماهيريٍّ تَحرّريٍّ نهضويٍّ يحمل مِشعَل الانبِعاث الجَديد للأمة، ويبعثُ الرُّوحَ فيها من جديدٍ كما كانت في التاريخ أُمَّةُ الابداعِ والحضارةِ لمئات السنين، وامتَدَّت في أوسع مساحة في العالم عرفتها الحضارات الانسانية أجمع.
عاشَ رَحمهُ الله لأمَّته المُعَذَّبة، بينَ أبنائِها، عاشَ بهِم ولَهُم، فصارَ دَورُهُ التِزاماً ومسؤوليةً، الى عهدٍ ووَعدٍ، الى ميثاقٍ غليظٍ مع الأُمَّة التي أنجبته. تَتجاوز أفكارُه وكتاباتُه ونضاله اليومي جيلَه الى الأجيال الآتيةِ، فتَمتلكُ افعاله وكلِماتُه وكتاباتُه خاصِيَّة البَقاء، وتَتجاوزُ حياتَه وعُمرَه المَحدود، بعد أن أصبحَ خيطُ حريرٍ في نسيجِ أُمَّتِه تَتَهدَّده كثيرٌ من الأخطارِ والمُعرقلاتِ والمَطبَّاتِ في طريقه ورفاقه المناضلين المَلآى بأشواكٍ وحقولٍ من الألغام، فلم يَستَكين لحظةً أو ينكفئ أو يَتزحزَح عن فعله النضالي الذي نذرَ نفسه ورفاقه من أجله، وفي أصعبِ الظروفِ وأقسَاها وأشدّها مرارةً كانَ ثابتاً صُلباً كالقابضِ على الجمرِ.
في وقتٍ كانت الأمَّةُ بحاجةٍ ماسَّةٍ الى مَن يُضَمِّد جِراحَها النازفة، كانَ المؤسِّسُ من انتفض لهذه المهمَّة القوميَّة الشاقَّة، غير أنَّ تَضميد الجِراح يَحتاجُ الى تَطهيرٍ لمَواضعِها أولاً وتَعقيمَها، حتى لا تَشفى على عِلَّةٍ ونقيصةٍ، من هنا كانَ القائدُ المؤسِّسُ حكيماً ودقيقاً ونبِهاً في اكتشاف مُعضِلات الأمَّة، وفي ايجاد العلاج والدواء المناسب لكلِّ داءٍ من أدوائِها.
كانَ المؤسِّسُ رَحمه الله في فعله مؤرِّخاً حَصيفاً، لا بمفهوم المؤرخين التقليديين، وانما لكونه غاصَ في تاريخِ أمَّتِه، في تُراثِها الثرّ المشرق الزاخر بالأمجاد والمَفاخر، فاستَخرجَ منه ما كانَ لها من انجازاتٍ وابداعاتٍ حضاريةٍ عَمَّت الأرض في فَضلها شرقاً وغرباً، وقام بتثويره وبعثه من جديد. فمَيَّزَ خَصائِصَها ومُقوّماتَها وطبائِعَها، واستَوعبَ ما في ذاتِها من مكنوناتٍ مَعنويةٍ وماديةٍ وحضارية، ثمَّ عادَ الى حاضرِها وظروفِها المُتَرَّدية، فأدركَ الغاياتَ والأهدافَ التي يجب أن تقوم بها وعليها الأمَّة لتَنهضَ من جديد.
أدركَ القائد المُؤسِّس كما المُؤرِّخٍ البارعٍ قيمةَ التاريخ في بناءِ الأمَّة، وبأنَّ التاريخ له تأثيره الكبير كعاملٍ أساسيٍّ في تكوين القومية العربية، وكأساس من الثقة الراسخة تحتاجها الامة للانطلاق نحو المستقبل. ولأنَّه أيّ المؤسِّس كان يتوقُ الى تَحقيق المَجد والعِزَّة والتقدّم لأمَّته العربية، عندما كانت حضارتها تَسطعُ بنورها وهَديها الدنيا كُلّها، نراهُ مُهتمَّاً بتاريخِها وبمكانةِ هذا التاريخ في حياةِ الأمَّة، لأنَّه يعلمُ علم اليَقين أنَّ التاريخ المَقصود هنا هو تلك الذاكرة الحَيَّة للأمَّة. فالتاريخُ كما يَفهَمُه المُؤسِّس هو سِجِّل ما قامَت به من مآثرٍ وانجازاتٍ ووقائعٍ حسنةٍ، كما كانت فيها من المُصاعب والتحديات في كلّ مرحلةٍ من مراحلِ حياتها الماضية، وكان رحمه الله يَرى أنَّ تاريخ الأمَّة هو المِرآةُ الذي تَنعكسُ من خلالِه قيَم الأمَّة ومُثُلها العُليا في الحياة.
لقد كانَ المُؤسِّسُ يُمثِّل ذاكرةَ الأمَّةِ كما هو ضَميرها الحَيّ الفعَّال، وبدون هذه الذاكرة فإنَّ الشَرَّ يستمرئ ويَمرح عابثاً بأحوالِ الأمَّة، فيَستَشري الضعفُ والهوان.
وقد كشفَ المُفكِّرُ أحمَد عفلق عن المؤامراتِ التي يُحيكها أعداءُ الأمَّة، فعَرَّاها أمام شعبنا العربي، واكتشفَ العلاجَ الناجعَ لها كيما لا تَبتئِس قلوبُهم، وتَنهار هِمَمهم، وتضعف ارادتهم. فوقفَ مُدافِعاً شرساً عن حقوقِ الأمَّة، وتَطلعاتِها في الحياةِ الحُرَّة الكريمة. كان قد احتَضنَ الوطنَ العربيّ في نفسِه ووجدانِه، كوحدة مُوَحَّدة لا تَقبل التَجزئة الطارئة التي هي عليها اليوم، وهي لن تكون تجزئةً مُستَديمةً على الاطلاق.
إنَّ ما كانت تَعيشه الأمَّة في عهودِ الاستعمارِ الغربي، عهودِ التَخلف والجَهل والفقر، وما يَجرى على أرضها وحَولها وما تَتجَرَّعه من آلامٍ ومعاناة، فإنَّه من الصَعب حينها أن تُسمَّى الأشياء بمُسمَّياتها من قبل المُفكِّرين والمُثقَّفين العرب آنذاك. عندها تَرخص الكلمات الرَّنَّانة التي يطلقونها هنا وهناك، ويَنحدر مَدلولها، وتَبخس وتَرخص معانيها، وتُبتَذل مَقاصدُها، لكنَّ المُفكِّر عفلق وقفَ بكلِّ شموخٍ وقوَّةٍ وتَحدٍّ لكلِّ تلك الظروف، ولم يَتنازل أو يتراجع قيد أُنملةٍ عن المبادئ والقيَم التي آمن بها، والتي رَسُخَت في عقله وقلبه.
كثيرون هُم الذين أسَّسوا أحزاباً وطنيَّةً وقوميةً واسلاميَّةً، لكنَّهم تَوَّقفوا عند أول المَصاعب والمُعوّقات التي واجهتهم، أو أنَّهم استَبدّوا بلقبِ “المُؤسِّس” غروراً واستِكباراً، غير أنَّ مُفكِّر الأمَّة الكبير الرفيق القائد عفلق رحمه الله لم يكن واحداً من هؤلاء المُؤسِّسين الهَوامِش، فقد نالَ ما نالَه من الأعباءِ الثقال، والعَناء المُتَصل، والجُهدِ الفكريّ والنضال العملي، وما اعترَضت طريقه من أحداثٍ ووقائعٍ ومخاطر، التي تَصدَّى لها بكلِّ اقتدار. فأصبح رمزاً مُتَألِّقاً من رموزِ الأمَّة التاريخيين في العصر الحديث، ليس في زمانه فحسب، بل الى ما شاء الله تعالى، من خلالِ المناضلين الذي يلونه ثم الذين يلونهم حتى تحقيق أهداف البعث الكبرى في وحدةِ الأمَّة وحريَّتها وتَقدمها ورَفاهيَّتها.
وحيثُ أنَّ القائدَ المؤسِّس قد أصبحَ مثالاً ونموذجاً راقياً مُتقدِّماً وقدوةً حسنةً للمُفكِّر العربي الهُمام، وللمناضلين في الحزب، من هنا فإنَّ عليهم من مفكِّرين ومثقفين ومناضلين أن يقفوا وقفاتٍ جادة مع أنفسهم، يُراجعونَ فيها، مسيرتهم الفكرية والثقافية والنضالية، بالقياس الى ذلك المُفكِّر العِملاق والمناضل العظيم أحمد ميشيل عفلق. ليَتعَرَّفوا على ما حقَّقوه وأنجزوه خلال سنين عملهم، وبما أنجَزه المُؤسِّس رحمه الله لأمَّته العربية ووطنه العربي، الذي أفنى حياته من أجلِهما.
وبعد ذلك فعندما يكون في الأمَّة هكذا مُفكِّر حصيف ومناضل بارع وقائد عظيم، فإنَّ الأمَّة لن تَسقط في مَهاوي الضَياعِ واليأس، ولا تَهبط الى أسفل طالما يُكمِل المناضلونَ في البعثِ الطريق السَويّ الذي رَسَمه لهم القائد المُؤسِّس رحمه الله.
ختاماً فقد كانَ هذا تقديماً في عُجَالةٍ عن المُفكِّر والقائد المُؤسِّس، ليكونَ استهلالاً للأجزاء القادمة التي سنتناول فيها نظرة المُؤسِّس الى الأصالة والمعاصرة، من خلالِ رؤيته للتُراث، والدِّين ثمَّ الإسلام، ومن الله التوفيق.
يتبع لطفاً….