ما وراء الاتفاق السعودي الإيراني
أبو زينب – الجزيرة العربية
الدعوة إلى الربط بين النضال الوطني والنضال القومي ينطلق من الوعي والإدراك بأن البعد القومي يحمي استقلالية وصواب القرار الوطني، مثلما الانجاز الوطني يمثل القاعدة للفعل القومي المؤثر.
وقد جسدت ثورة تموز ١٩٦٨ المجيدة في العراق هذه الرؤية تجسيدا صادقا وخلاقا. فالعراق من خلال دوره القومي في استنهاض أقطار الامة تنمويا وعسكريا واقتصاديا وتربويا وتقديم مختلف اشكال الدعم السخي في سبيل ذلك كان ينظر لعملية الاستنهاض هذه أن فيها حماية لتجربته الوطنية واعطاءها البعد القومي الذي يمثل سياج لحماية مسيرته الوطنية في الوقت الذي تنهض معه اقطار الامة.
وهذه الرؤية تمتد ايضا في مجال نسج علاقاته الخارجية، حيث ان هذه العلاقات لا تبنى على حسابات وطنية صرفة، بل على اساس خدمة مصالح الامة العربية ككل. والمجال في هذه المقالة لن يتسع للاستشهاد بعشرات المواقف التاريخية التي اتخذها العراق في نصرته للقضايا القومية كموقفه من قضية الامة المركزية قضية فلسطين ودعمه للمقاومة في سنوات الحصار.
إن الموقف الصحيح في نسج العلاقات الخارجية يقوم على معيارين متلازمين المصالح الوطنية والمصالح القومية وفق رؤية واعية ومدركة للجدلية بينهما وخدمة أحدهما للآخر.
ووفقاً لهذه الرؤية، فهناك دول تصنف انها دول صديقة سياسيا واقتصاديا (نحن نتكلم هنا عن غير الدول العربية) وهناك دول محايدة يمكن بناء علاقات مصالح اقتصادية بحته، وهناك دول غير فاعلة وغير نافعة، وهناك دول لها مواقف سلبية واخرى ايجابية، وهناك دول معادية ناصبت العداء للامة مثل تلم التي تمثل القوى الامبريالية والصهيونية.
لماذا كل هذه المقدمة ونحن نود التحدث عن الاتفاق السعودي الايراني ومخاطرة المتوقعة على مستقبل العراق؟
في البداية، يجب ان نؤكد بانه يجب ان لا يتوهم احدا اننا أردنا بهذه المقدمة ان نطالب الانظمة العربية بالاقتداء بتجربة النظام الوطني في العراق، فهذا مَرْكَب صعب لا يستطيع ركوبه الا المناضلين من طراز خاص، ثم اننا ندرك جيدا طبيعة الانظمة التي نتحدث عنها وتاريخها وسجل مواقفها الذي يصل الى حد التآمر على الأمة.
ما أردنا من هذه المقدمة ان نثبت ان النهج الذي تحدثنا عنه، اي ربط النضال الوطني بالنضال القومي، بات اليوم أكثر الحاحاً وحاجة للأنظمة العربية حتى تلك التي تريد ان تؤمن مصالحها الوطنية البحتة. اذ لا يمكن حماية المصالح الوطنية دون حماية المصالح القومية لأن هذه المصالح لها وقعها الاستراتيجي ومفاعليها الجيوسياسية الامنية الاقتصادية المتلازمة، على المصالح الوطنية. واقع العالم بمصالحه المتشابكة والمتقاطعة والمتعارضة جميعها يفرض على الانظمة الوطنية ان تحمي ظهرها ببعدها الاقليمي والقومي والعالمي. على سبيل المثال اوكرانيا تحمي ظهرها بدعم الناتو وروسيا تحمي ظهرها بشبكة علاقاتها ومصالحها مع الصين وإيران ودول عديدة أخرى.
في حال علاقات الانظمة العربية مع النظام الايراني، ونحن نتحدث هنا تحديدا عن الاتفاق السعودي الايراني، علينا في البداية ان نشخص ما هي طبيعة هذا النظام وما هي مطامحه في الوطن العربي. وبالتالي ما هي طبيعة العلاقة التي يجب ان تُبنى معه.
لنراجع، وباختصار، سجل هذا النظام منذ قيامه سنة ١٩٧٩. فقد تمسك باحتلال الاحواز والجزر العربية الثلاث. ثم ما إن تسلم الخميني الحكم حتى أطلق تصريحه المعروف بأن طريق القدس يمر عبر بغداد، ثم بدأ اعتداءاته على العراق وكشف اطماعه التي عبر عنها اثناء الحرب ثم دعمه للعدوان الثلاثيني ثم دوره، الذي جسَّد اطماعه التوسعية، في لبنان وسورية واليمن. وقبل هذا وذاك الدعم الذي قدّمه لاحتلال العراق ثم التفرد باحتلاله بعد انسحاب القوات الامريكية، وخططه الخبيثة الجاري تنفيذها على مدار الايام في تمزيق وحدته الوطنية والعبث بهويته العربية ونهب خيراته واغتيال عشرات لا بل مئات الالاف من الموطنين بما فيهم البعثيين والعلماء والضباط، وتأسيس ميليشياته العميلة وفرض هيمنته على مفاصله السياسية والاقتصادية.
هذا النظام اقل ما يقال عنه انه نظام فارسي توسعي له اطماع كسرى ينفذها بغطاء مذهبي هو بريء منه. انه بكل بساطة نظام معادي لمصالح الامة ولا يقل خطورة وتهديداً لهذه المصالح من الكيان الصهيوني، إن لم يتفوق عليها.
قد يقال إننا بهذا القول علينا ان نحشد الجيوش لمقاتلة هذا النظام وتخليص الأمة من شروره. نجيب بوضوح نعم لو كانت الامة بخير وتمتلك جيشا عقائديا قويا كالجيش العراقي البطل الذي قاده الرئيس الشهيد رحمه الله لإنزال أكبر هزيمة بهذا النظام. ولو كانت الأمة بخير، وفي أضعف الايمان، سوف تجبر هذا النظام على احترام مصالح الامة وحقوقها.
هو يدرك جيدا انه بعد احتلال العراق وتمكنه من الهيمنة على مقدراته، باتت أقطار الأمة، والادق أنظمة الأمة، عاجزة عن تحمل مسئولياتها في الدفاع عن مصالحها الوطنية والقومية. لذلك بات يتصرف بكل وقاحة وشراسة في العبث بالأمن القومي العربي وانتهاك سيادة العديد من الاقطار العربية. أي إن توسع هذا النظام لا يتأتى من قوته الاستعراضية بل من ضعف الأنظمة العربية وتهاونها. دول الخليج العربي، وهي الأكثر عرضة لتهديداته ومطامعه، لم يتجاوز موقفها إصدار بيانات سنوية تطالبه بالانسحاب من الجزر العربية الثلاث والكف عن التدخل في الشؤون الداخلية لأقطارها.
وعندما وقعت إدارة اوباما الاتفاق النووي مع النظام الايراني، ظلت هذه الانظمة تطالب بإشراكها في المفاوضات دون جدوى، وقد ساءت علاقتها مع الادارة الامريكية آنذاك.
وعندما جاءت إدارة ترامب مع تعهداتها بإلغاء الاتفاق النووي سارعت أنظمة الخليج الى ملء جيوبه بالمليارات من الأموال آملا منها ان يعمل على القضاء على قدرات النظام الايراني من خلال فرض المزيد من العقوبات عليه والغاء الاتفاق النووي. ولم يذهب ترامب أبعد من ذلك رغم تهديداته المتكررة.
وذهب ترامب وجاء بايدن وبدأ مفاوضات لإعادة الاتفاق النووي، وهنا شعرت السعودية ان كل ما استثمرته قد تبخر وذهب ادراج الرياح، خاصة مع لهجة بايدن العدائية للسعودية. كما أن الادارات الامريكية المتعاقبة ظلت تحصر مواجهتها لإيران في العقوبات الاقتصادية والتهديدات الإعلامية الفارغة والكل يعلم انه من مصلحتها ان تواصل إيران تهديد دول المنطقة لكي تستنزف ثرواتها وتحافظ على قواعدها العسكرية.
بل الأسوأ من ذلك ان أنظمة الخليج دخلت في خلافات في العام ٢٠١٤ فيما بينها من جهة وقطر من جهة اخرى التي سارعت بالاستنجاد بالنظام الإيراني والذي سارع بدوره لفتح اسواقه امامها لكسر الحصار الاقتصادي عليها. بينما سلطنة عمان تدخل في شراكات اقتصادية متعددة مع إيران، والكويت تحافظ على علاقات ممتازة معها لأنها تدعم مواصلة النظام الايراني تدمير العراق واضعافه حتى لا تقوم له قائمة مرة اخرى. واخرى ما فتئت تحرص على اقامة علاقات تجارية واسعة، حيث بلغ حجم المبادلات التجارية بينها وبين إيران ٢١ مليار دولار في العام ٢٠٢٢.
لذلك، فان الحديث عن قيام البعض بتوقيع اتفاقيات السلام مع الكيان الصهيوني هدفه هو الحشد ضد إيران، لا ينسجم مع العلاقات المتميزة التي يقيمها مع إيران، بل ان الهدف أكبر من ذلك ولكن هذا موضوع اخر نتركه لمقالة منفصلة.
قد يقال ان السعودية وامام هذا المشهد، اي مشهد اختراق إيران لأقطار الخليج العربي بما في ذلك الدور الذي يلعبه الحوثي في اليمن، كذلك تمزق وضعف منظومة الامن العربي (انظمة عربية عديدة تواصل جهودها لتطبيع علاقاتها مع إيران مثل مصر والجزائر وتونس، طبعا الى جانب سورية التي يدخل نظامها في تحالف مع إيران) وتخاذل امريكا والموقف الدولي من مطامح إيران. كذلك تأكد السعودية من أن امريكا ماضية في مفاوضات العودة للاتفاق النووي مع إيران ورافضة اشراك دول الخليج العربي في هذه المفاوضات، ناهيك عن رفضها زج مخاوف هذه الدول من اطماع إيران التوسعية في المنطقة كجزء من هذه المفاوضات.
قد يقال أن هذه العوامل جميعها جعلت السعودية تشعر انها وحيدة في مواجهة اطماع ايران وهو ما دفعها للتفكير في مهادنتها وتوقيع اتفاق اعادة العلاقات معها وتطبيعها املاً في احتواء مطامعها من خلال هذا الاتفاق، خاصة وأن ولي عهدها رفع شعار التركيز على تشييد اقتصاد سعودي قوي وجذب الاستثمارات وبناء مكانة ودور دولي مؤثر للمملكة، وهو ما يتطلب ايضا اعادة الاستقرار الامني والسياسي للمنطقة وما سموه ” تصفير المشاكل والمنازعات” الاقليمية والعربية وبناء علاقات متوازنة مع القوى الدولية الكبرى، خاصة الصين واتخاذ مواقف اكثر استقلالية في مواجهة الإملاءات الامريكية.
ورغم انها اهداف يطمح لها جميع أبناء المنطقة والأمة العربية لو ان التعامل يجري على اسس عادلة ومضمونة ومع جهة لا تحمل كل هذا الإرث التاريخي والمعاصر المعادي، ولكن السؤال الرئيسي الذي يفرض نفسه: هل إعادة العلاقات السعودية الايرانية الى طبيعتها سوف تدفع النظام الايراني للتخلي عن اطماعه ودوره في العراق وسورية ولبنان واليمن؟
ولعوامل جيوسياسية، ليس هذا المكان للتوسع فيها، فأن النظام الايراني لن يستطيع الاستفراد بكعكعة اليمن ولبنان وسورية وحيداً وسوف يُجبَر على الوصول الى تسويات من نوع ما لإبقاء توازن مصالح بقية القوى الدولية والاقليمية في هذه الدول.
ولكن ماذا عن العراق الذي يتفرد النظام الايراني بدور الهيمنة والنفوذ فيه على الارض. وحتى مع فرضية بقاء دور امريكي رئيسي في القرار العراقي، ولكن مصالح الطرفين متطابقة استراتيجياً، اي ان كلاهما يريد نهب ثروات العراق، ولن يستقيم ذلك الا ببقائِه تحت سطوة المليشيات العميلة التي تحكم العراق.
لذلك، وفي حال العراق تحديداً، نعتقد أن الاتفاق السعودي الايراني له مخاطر استراتيجية عديدة حتى على السعودية نفسها، اي ان مخاطره ليست قومية فحسب، بل ووطنية سعودية وهذا يعود بنا الى ما بدأنا به هذا المقال.
من هذه المخاطر نذكر ما يلي:
أولاً: سوف يسهم الاتفاق في تكريس هيمنة النظام الايراني في العراق وابتلاعه، طالما ان هذه الهيمنة تتم بالنيابة عن طريق المليشيات العميلة التي تتولى تنفيذ الاجندة الايرانية في العراق، ويجبر السعودية على السكوت عن مخططات هذه المليشيات تحت غطاء المحافظة على علاقات حسن الجوار وعدم التدخل في الشئون الداخلية، بل ان السعودية تعتزم إطلاق مشاريع استثمارية في العراق سوف يستفيد منها الاقتصاد العراقي نظريا دون شك، ولكن هذا سوف يصب في نهاية المطاف في جيوب المليشيات العميلة التي تتحكم في مفاصل الاقتصاد العراقي، وبالتالي في جيوب النظام الايراني.
ثانياً: إن إطلاق يد النظام الايراني والمليشيات العميلة في تنفيذ مخططاتها التي باتت مكشوفة في نهب وسرقة ثرواته وتضعيف مقوماته، سوف يخلق، وبحكم الطبيعة اللصوصية والإجرامية المتجذرة لهذه المليشيات، حالة من الصراعات الدائمة وعدم الاستقرار الدائم ليس نتيجة تصاعد الرفض الشعبي والانتفاضات الشعبية ضد هذه المخططات فحسب، بل ايضا الصراع الدائم بين هذه المليشيات نفسها في التسابق على عمليات النهب والسرقة. هذا ناهيك طبعا عن اضطهاد كل الشعب العراقي الذي أصبح مناهضاً لها بكافة اطيافه وانتماءاته العرقية والدينية. إن جميع هذه العوامل تجعل من العراق بلد غير مستقر سياسيا ومُختَرَق امنيا ومستنزف اقتصاديا، وهو عكس ما تطمح له المملكة العربية السعودية في اعادة الاستقرار والسلام للدول المجاورة لها، وخاصة العراق ذي العمق الاستراتيجي لها.
إن بقاء العراق في حالته الراهنة، والتي سوف يكرسها الاتفاق السعودي الايراني، يلحق أضرار كبيرة بالمصالح الوطنية السعودية مثلما يلحق اضرار جسيمة بمصالح ومستقبل الامة.
وبالتالي، فإن من مصلحة السعودية دعم الشعب العراقي وقواه الوطنية الشريفة للعمل على انهاء الحكم الطائفي الميليشياوي التابع لإيران، والقوانين المجحفة التي تتقاطع كليا مع ابسط قواعد حقوق الانسان والديمقراطية كالاجتثاث وغيره، والعمل على مجيء نظام وطني مبني على دستور وطني وانتخابات نزيهة تشارك فيها كافة القوى والاطياف المخلصة للوطن. هذا هو الحل لعودة الاستقرار والأمن والسلام للعراق ولدول الخليج العربي، بل للأمة العربية.