القضية الفلسطينية
بعد ٧٥ سنة على النكبة والاغتصاب الصهيوني
د. محمد مراد- لبنان
يأتي الخامس عشر من أيّار لهذا العام ليسجل ثلاثة أرباع القرن على ذكرى الحدث – النكبة في ١٥ أيّار ١٩٤٨، التي تمثلت بقتل وتشريد واقتلاع شعب فلسطين التاريخية بهويتها العربية، وإعلان قيام كيان اغتصابي استيطاني صهيوني دخيل تحت مسمى ” دولة إسرائيل” بدعم عسكري وسياسي ودبلوماسي ومادي واعلامي مفتوح من قبل رأسماليات الغرب الاستعماري وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي انفردت برأسمالية المركز العالمي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومازالت تستأثر بهذا الموقع مع صعود امبريالي شركاتي حاكم للاقتصاد والسياسة والسيطرة حتى عصرنا الحاضر.
عربياً، ومنذ الحدث – النكبة سنة ١٩٤٨، تقدّمت القضية الفلسطينية سائر القضايا القومية كأولوية في سياسات وبرامج وتوجهات الأقطار العربية ، سواء على مستوى النظم الرسمية الحاكمة من ناحية أولى، واجتماعات ومؤتمرات القمم العربية التي سجلت، منذ العام ١٩٤٦ ( مؤتمر أنشاص في القاهرة )، ٤٦ قمّة بين عادية وطارئة، وهي على موعد مع القمة السابعة والأربعين المزمع عقدها في مدينة جدّة في المملكة العربية السعودية في ١٩ أيار القادم ، من ناحية ثانية ، وفي التوجهات الفكرية والسياسية والنضالية للقوى والأحزاب العربية الثورية من ناحية ثالثة.
تعددت الحركات والقوى القومية التي قامت استراتيجيتها على تحرير فلسطين بوصفها قضية قومية مركزية لها تأثيراتها الفاعلة على مشروع النهوض القومي في التوحّد والتحرر والتقدم.
أبرز الحركات القومية التي قامت استراتيجيتها الفكرية والنضالية على تحرير فلسطين، كانت ثلاث أساسية:
الأولى، حزب البعث العربي الاشتراكي الذي ربط بقوة جدلية بين تحرير فلسطين والوحدة العربية، فقد أعلن مؤسسه احمد ميشيل عفلق في العام ١٩٤٧الرفض الكامل لقرار الأمم المتحدة في تقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية، وطرح، بالمقابل، نظريته في استعادة فلسطين بهويتها القومية والحضارية التاريخية بقوله:” فلسطين لن تحررها الحكومات العربية، بل الكفاح الشعبي المسلّح “.
لم يلبث البعث أن جعل قضية تحرير فلسطين تتصدر بيانات ومؤتمرات قياداته القومية والقطرية، لا بل أنّه أطلق في مؤتمره القومي لعام ١٩٦٩، المؤتمر الذي عقد بعد عام واحد على ثورة ١٧تموز المجيدة، أطلق قيام جبهة التحرير العربية، رابطا بذلك بين تحرير فلسطين والوحدة العربية، اذ بمقدار ما تساهم الوحدة العربية بتحرير فلسطين، بمقدار ما يساهم، بالمقابل، تحرير فلسطين في تحقيق الوحدة العربية.
الحركة الثانية، كانت الناصرية التي أطلقها الرئيس جمال عبد الناصر في أعقاب ثورة ٢٣ تموز عام ١٩٥٢، وهي الثورة التي وضعت مصر — الدولة المركز في الوطن العربي بثقلها السكاني والعسكري والسياسي، في قلب المعادلة القومية، وهي المعادلة التي أفضت الى تحرير الاقتصاد الوطني في مصر عبر قرار تأميم قناة السويس، والتصدي للعدوان الثلاثي (البريطاني – الفرنسي – الصهيوني) عام ١٩٥٦، وصولا الى التفاهمات والتنسيق بين الناصرية والبعث التي أفضت الى قيام أول تجربة للوحدة بين مصر وسوريا عام ١٩٥٨.
الحركة الثالثة، كانت حركة المقاومة المسلحة الفلسطينية، التي انطلقت في الفاتح من كانون الثاني (يناير) ١٩٦٥، وما لبثت أن تعددت فصائلها الفكرية والعسكرية في أعقاب نكسة حزيران لعام ١٩٦٧.
كانت الحركات الثلاث المشار اليها قد أحدثت مناخاً فكرياً وثورياً جديداً، ليس فقط بشأن قضايا التوحد والتحرر القومي، وإنما، بتأثير مباشر على القضية الفلسطينية، وزيادة في الأمل في استعادة فلسطين وانتصارها كقضية قومية مركزية.
أدركت قوى التآمر الامبريالي – الصهيوني – الرجعي، أن المشروع القومي التحرري سوف يفضي الى نتائج في غاية الخطورة ليس فقط على مستوى كسر الاحتلال الصهيوني وهزيمته باستعادة فلسطين حرة عربية ، وإنما ، وهذا هو الأكثر خطرا على مستقبل السيطرة والهيمنة الاستعمارية على الوطن العربي المتميز بخصوصياته الجيوسياسية والجيواستراتيجية والجيوثرواتية من نفطية وغيرها، هو أن يتطور المشروع القومي الوحدوي لتلك الحركات الى تحقيق خطوات ملموسة على صعيد الوحدة العربية ، الأمر الذي يجعل من الوطن العربي ، وهو قلب العالم ، قوة قطبية منافسة على قيادة العالم ، الامر الذي تفقد معه إمبريالية المركز اميركا وحلفاؤها ، مكانتها وسعيها الى الانفراد بحكم العالم واستغلاله والتحكم بمصائر دوله وشعوبه. لذلك، راحت قوى الشر الاستعماري المتقاطعة في أهدافها ومصالحها، تعمل على رسم استراتيجيات الاطاحة بالمشروع الوحدوي القومي التحرري التي تمثله الحركات الثلاث المشار اليها أعلاه بصورة أساسية، من هنا، جاءت الضربات المتلاحقة لفصائل هذا المشروع بهدف اسقاطه وتدمير مرتكزات قوته الأساسية. ثمة ثلاث ضربات قاسية وجهت لفصائل المشروع القومي المذكور، وهي على النحو التالي:
الضربة الأولى، تمثلت بدعم انفصال الوحدة المصرية – السورية عام ١٩٦١، وصولا الى اسقاط جمال عبد الناصر كشخصية قيادية في المشروع القومي، وفي تحرير فلسطين، جاء الاسقاط في هزيمة حزيران ١٩٦٧، التي استمرت تداعياتها في إخراج مصر من المعادلة القومية، وصولا الى التطبيع المصري – الصهيوني في معاهدة كامب ديفيد لعام ١٩٧٩.
الضربة الثانية، تمثلت بالحرب الصهيونية على المقاومة الفلسطينية عام ١٩٨٢ وهي الحرب التي احتلت فيها العاصمة اللبنانية بيروت، والتي أخرجت معها فصائل المقاومة الفلسطينية الى تونس لكي تكون بعيدة عن مجالها المقاوم مع فلسطين المحتلة.
الضربة الثالثة، كانت حروب التطويق والحصار للمرتكز القومي الأكبر المتبقي من مرتكزات المشروع القومي النهضوي التحرري، هو العراق بقيادة حزب البعث الذي ظل أمينا وفيا لفلسطين ولعودتها الى حريتها وعروبتها. شنت على العراق أربع حروب متتالية انتهت باحتلاله في نيسان ٢٠٠٣، وبإسقاط نظام حكمه الوطني ودولته المركزية، الأمر الذي مهّد الطريق الى تفجير سلسلة من الحروب الأهلية العربية بهدف اسقاط الدولة المركزية، وفتح المجال العربي برمته أمام سلسلة من الجغرافيات السياسية في إطار من الدويلات الطائفية والمذهبية والعرقية، دويلات تنتهي معها الرابطة القومية، وتنشأ هويات بديلة تكون محكومة الى الولاءات الأولية على أساس الطائفة والمذهب والعرق والعشيرة وسوى ذلك.
هكذا، بات الوطن العربي اليوم من دون مشروع لمستقبل يأخذ طريقه الى النهوض والتوحد والتحرر، ومن دون أن يكون لفلسطين الأمل في استعادة حريتها وهويتها الوطنية والقومية، وإن ما يطرح اليوم من شعارات براقة تحت عناوين الانتصار للقضية الفلسطينية يدخل في إطار التوظيفات الاستثمارية لخدمة أجندات ومشاريع خارجية دولية وإقليمية تسعى لاستغلال فرصة التفكك والانهيار الحاصل في غير ساحة عربية، من أجل تسويق مشروعها البديل في تصنيع خرائط جديدة لجغرافيات سياسية تقوم على أساس التعددية في تلويناتها التضاريسية بهدف خلق وتصنيع هويات جديدة تأخذ بالمذهب والعرق والفئة المناطقية والجهوية، كل ذلك بهدف محو الهوية القومية لأمة عربية واحدة، الأمر الذي سيكون له تداعيات ثقيلة على الهوية الفلسطينية، وعلى أمل تحرير فلسطين وعودتها حرة عربية من النهر الى البحر.
إلا أن كون معركتنا مع العدو الصهيوني هي معركة طويلة وشاملة وشاقة، يجب ألا يكون مدعاة لليأس والقنوط، فالأمم الحيّة لا تيأس أو تتوقف أو تستسلم، بل تستفيد من أخطاء الماضي، وتتفاعل مع تطورات الحاضر المحلية والدولية لتستنبط منها وسائلها الجديدة.
ومن هنا فإن كافة القوى الوطنية والقومية الحيّة مدعوّة اليوم الى بلورة مشروع عربي يتصدى لكل هذه المخططات المعادية، مستنداً الى حقيقة ان الصراع العربي الصهيوني هو صراع وجود لا صراع حدود، ومستلهماً من المقاومة والصمود الاسطوري لشعبنا العربي في فلسطين، والتي تثبتها الاحداث كل يوم في القدس الشريف وفي كل بقعة من فلسطين، ومستفيداً من التطورات الدولية الراهنة التي تثبت إن النظام العالمي الأحادي القطبية يمر بمأزق شديد يشير الى حتمية حدوث تطورات كبرى تأخذ شكل صراعات عسكرية واقتصادية وسياسية جوهرية.
إن كل ذلك يستدعي استثمار كل هذه العوامل الموضوعية كفرص ثمينة لإطلاق هذا المشروع العربي وتوظيفها لخدمته، بعيداً عن الاكتفاء بالشعارات العامة والفضفاضة التي لا تتبنى برامج عمل واستراتيجيات تنفيذية واقعية. بل تبدأ بإعادة توحيد الصف الفلسطيني، والاتفاق على برنامج سياسي يؤكد على حقوق شعبنا في فلسطين العربية ومصالحه العليا وقضيته العادلة.
إن تخبط وشراسة ممارسات العدو الصهيوني، والتي تقابلها قوة وصلابة صمود شعبنا المتجَدِّدة في فلسطين، تزيد من الإيمان بأن المستقبل لا يجب أن ينتهي إلا على انتصار فلسطين.