مَنْ مَضَى في سَبِيلِ البَعْثِ لا يَكُونُ إِلا عَرَبِيَّاً قَوْمِيَّاً

مَنْ مَضَى في سَبِيلِ البَعْثِ

لا يَكُونُ إِلا عَرَبِيَّاً قَوْمِيَّاً

أبو شام

 

حين يُذْكر العظماء تتلاشى سيرُ الصغار وتندثر كأنها هباء منثورا، العظماء في أمتي كنجوم السماء، بعضها يمنحك النور لتبصرَ ما حولك، وبعضها الآخر يمنحك الدفء فيقيك برداً يكمن لك ليصيبك بالمرض!

عظماء أمتي يمتلكون هاتين الميزتين، بعضهم يمنحك فكراً وأدباً وثقافة ترفعك إلى مستويات غير مسبوقة من المعرفة والوعي والبصيرة فيما يدور حولك.

وبعضها الآخر يمنح الطمأنينة والأمان، حين يوضح لك طريق المستقبل بكل ثقة واقتدار، وكلاهما لا يطاوله أحد..

ننظر نحن البعثيون وكذا كل أبناء الأمة العربية المؤمنين بأمتهم وحقها في الوحدة والنهضة والتحرر والتقدم، إلى القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق كواحد من عظماء الأمة وروّادها في العصر الحديث، الذين قدّموا لها فكراً نهضويّاً عصريّاً وفلسفة متجددة، وأزاح التراب المتراكم من على تراثها الحضاري الثريّ ومكامن قوتها الحاضرة، ليبرزها على حقيقتها، جوهرة قوية لامعة برّاقة. 

ولقد تميّز عن غيره من المفكرين بربطه الفكر بالعمل من خلال ممارسته الكفاح والنضال الضروس في سبيل تحرر الأمة العربية منذ أن دعا إلى التطوع لقتال العدو الصهيوني في فلسطين، فقاد فصائل المتطوعين من الفدائيين العرب وقاتل في فلسطين العصابات الصهيونية اثناء حرب سنة 1948.

ذلك الارث النضالي للقائد المؤسس الذي لم يستكين يوماً، وتلك العقيدة المنفَتِحة، قد وضَّحت طريق النهضة للأجيال بعد الاجيال، والتي مازلنا ننهل منها ونسير في نضالنا على هديها رغم ما يداهمنا من خطوب حتى بعد رحيله، فما قدمه القائد المؤسس للأمة العربية حاضراً في ضمير كل عربي وطني قومي.

وكما هو قدر العظماء منذ الأزل تُثار حولهم بين فينة وأخرى بعض الزوابع التي لا تحمل إلا غباراً ملوثاً لا يلبث أن يتلاشى حين تبدأ سحب الغمام التي تحمل غيث الحقيقة بالهطول، فلا تجد لهذه الزوابع أي أثر.

القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق عربي وطني قومي، لا يلبث أن يصير كالموج الهادر إن نعته أحدٌ بغير هذا، فهو سليل عائلة سورية كريمة، تدين بشريعة عيسى عليه السلام، وتسكن في قلب الأمة النابض، دمشق. وتميّز بفهم عميق وأصيل لرسالة الإسلام الإيمانية، وحلل تحليل علمي الرابط بين العروبة والإسلام معتبراً أن ذلك ما يشكل خصوصية هذه القومية فقال: «إن العرب ينفردون دون سائر الأمم بهذه الخاصة: إن يقظتهم القومية اقترنت برسالة دينية، أو بالأحرى كانت هذه الرسالة مُفصِحة عن تلك اليقظة القومية، فلم يتوسعوا بغية التوسع ولا حكموا البلاد استناداً إلى حاجة اقتصادية مجردة، أو ذريعة عنصرية، أو شهوة للسيطرة والاستعباد… بل ليؤدوا واجباً دينياً كله حق وهداية ورحمة وعدل وبذل». وقال ايضاً مقولته الشهيرة: إن ” العروبة جسماً روحه الإسلام “، و” كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب اليوم محمدا”.

كان هواه دمشقياً وعشقه عربياً، وتسكنه روح الإخاء والمحبة كالبيئة التي كانت تقطنها عائلته الكريمة في حي الميدان الدمشقي المحافظ، الذي كان يمثل كل سوريا بتنوعه وحيويته ونشاطه، ففيه تلقى القائد المؤسس أولى إشارات المحبة والألفة والوحدة، فسكنت داخله هواجس الأمة كلها، لتتمثل في سعيه الحثيث ليكون قريباً من الجميع ويسعى لمساعدة الجميع، ويقدم ما يستطيع في سبيل مجتمعه ووطنه وامته.

ولد القائد المؤسس في عائلة من الطبقة المتوسّطة في العاصمة السوريّة دمشق، وتعلم في مدارسها، وغادر سوريا متوجهاً إلى باريس لإكمال دراسته الجامعية، فدرس في جامعة السوربون، وبعد تخرجه لم تأخذه المدنية الغربية وبهرجتها عن هموم وطنه وأمته، فعاد إلى سوريا في عام 1932، وبدأ حياته الفكرية ونضاله السياسي استجابة لحاجات الامة وانطلاقا من معايشته لمعاناتها.

أسَّس هو ورفيق دربه البيطار في وقت لاحق من عام 1940، حركة الإحياء العربي التي سُمّيت فيما بعد باسم حركة البعث العربي، وأثبتت الحركة نجاحها لأنها كانت تعبِّر بصدق عن هموم وطموحات الشعب.

ورغم كل الإغراءات الماديّة من مناصب وغيرها التي كانت تُقدَّم له بحكم شهاداته وثقافته ومكانته، إلا أنه بقي وفياً لهموم وتطلعات أبناء أمته ورسالتها الخالدة، مناضلاً دؤوباً ينشر بينهم فكراً تنويرياً ثورياً ليهدم به كل صوامع الجهل والتخلف والاستعمار التي كانت تربض فوق صدر الأمة العربية.

لم يكن القائد المؤسس يملك من أمر نفسه شيئاً، لأنه نذر نفسه لقضية أمته، ولرفع المستوى المعرفي والفكري لأبناء شعبه العربي، فكان منارة فكر ومعرفة، وقبل كل ذلك كان مناضلاً صلداً لا يعرف إلا أن يمضي للأمام.

ويعتبر القائد المؤسس من أهم الشخصيات الفكرية والنضالية في تاريخنا العربي المعاصر، فهو قائد من نوع متميز وخاص، استطاع بشكل فاعل من خلال ما يحمله من فكر قومي عروبي وحدوي، ومن خلال فلسفته العربية الخاصة من إيجاد أسباب النهوض بالأمة، كما شخص كل الأمراض التي تعانيها ووصف لها العلاج المناسب، المتمثل في انبعاثها من جديد.

لقد كان رحمه الله من أوائل من اكتشف تمَيُّز الأمة العربية وقدرها بين الأمم، وما ترتبط به من روابط الإيمان بدورها التاريخي، وتحقيق رسالتها الخالدة، باعتبارها تحمل أمانة السماء، لتنشرها للعالمين، فقال رحمه الله: (إنَّ الأمة التي يختارها القدر لتكون مسرحاً لمثل هذه التجربة البشرية السماوية، هي أمة حُكِم عليها وإلى الأبد، أن تكون متميِّزة عن باقي البشر)، أحمد ميشيل عفلق، في سبيل البعث، ج1، ص145.

كما وضع يده على أهم الأسباب التي تعيق نهضتها، وجوهر مؤامرة الغرب في تقسيمها فحدد الوحدة العربية كهدف أساسي لا غنى عنه للنجاح في مواجهة كل تلك التحديات، وتحقيق تحررها من الهيمنة الأجنبية وإنجاز تلك النهضة.

وتجسيداً لوعيه بالهوّة التي تفصلها في الزمن المعاصر عن العالم المتطور، نتيجة لعهود من الاستعمار الذي كرَّس التخلُّف فيها، أكّد على أهمية الانفتاح على العصر، وحدد طريقها الخاص في بناء ذاتها، وذلك بالاستناد إلى تراثها الحضاري الرائع، فكانت الدعوة إلى تحقيق معادلة (الأصالة – المعاصرة)، وضمان الموازنة بين طرفيها، كأساس لانبعاث الأمة العربية من جديد وتبوء المكانة التي تليق بها بين الأمم الحيّة.

ولكل ذلك وغيره الكثير مما لا مجال لحصره، فقد تلقف أبناء الأمة وعبر أكثر من سبعة عقود من الزمن، تلك العقيدة، فانتشر الفكر القومي الوحدوي من المحيط إلى الخليج وأصبحت رايته تُرفَع من قِبَل الأجيال العربية المتعاقبة عبر نضال ضروس باذلة في سبيل ذلك أغلى التضحيات.

إن إيمان القائد المؤسس بأمته العربية وقدسية رسالتها بين الأمم، وثقته بدورها في إعادة اغناء البشرية بالعطاء الحضاري الإنساني كما كان شأنها في السابق عبر العصور، هو إيمان لا يضاهيه آخر، وثقة لا يمكن أن تندثر أو تتزعزع مهما ادلهمت الخطوب والكوارث. ثقة تثبتها ما تواجهه الأمة من تحديات عظمى تثبت كل يوم صحة عقيدة البعث وما حدده القائد المؤسس، وتثبت أن لا تحرر أو نهضة بدون تلك المبادئ.

يبقى القائد المؤسس ضميراً حياً يتمثله كل رفاقه الذين ساروا على دربه ونهلوا من معين فكره ونضاله، ويهتدي بفكره التنويري كل أبناء الأمة العربية المؤمنين بحقها في الحياة الحرة الكريمة.

وسيبقى المُعَلِّم والموجه والبوصلة التي تهدي الأجيال عقب الأجيال للمضي في نضالها نحو تحقيق أهدافها في الوحدة والحرية والاشتراكية.

Author: nasser