في الذكرى العشرين لاحتلاله: العراق يدفع ضريبة رسالته في التحرر والنهوض القومي

في الذكرى العشرين لاحتلاله:

العراق يدفع ضريبة رسالته في التحرر والنهوض القومي

أ. د. محمد مراد : باحث في التاريخ السياسي والعلاقات الدولية – لبنان

بعد عشرين سنة على جريمة القرن التي اقترفتها رأسمالية الشركات الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ، في احتلالها التزويري لدولة سيادية بحجم العراق من حيث امتدادها التاريخي لأكثر من ثمانية آلاف عام ، ومن حيث وزنها كمساحة جغرافية ( حوالي 440 ألف كلم2 ) ، وكتلتها السكانية التي باتت تقترب اليوم من 45 مليون نسمة، هذا فضلا عن كونها الدولة الأولى في المنطقة العربية التي سجّلت سبقاً مبكراً في نيلها استقلالها الوطني في العام 1932. بعد عشرين عاما تحت الاحتلال، وبعد اعتراف غير مسؤول ولجنة لتقصّي الحقائق في دولتي الاحتلال بأنّ الحرب على هذا البلد كانت لدوافع ذرائعية وتبريرية مزوّرة وملفّقة، وليس لها أي مستند يمكن أن يشكّل لها غطاء حقوقياً وإعلامياً لمباشرة الحرب التي تركت وماتزال نتائج كارثية على غير مستوى من الخسائر البشرية والمادية، ناهيك عن تدمير بنى الدولة المؤسسية والمجتمعية، وتحويلها الى دولة موزّعة على قاعدة المحاصصة الطائفية والمذهبية والعرقية، إضافة الى سلطة حاكمة جاءت مصنّعة ومفصّلة على قياسات الاحتلال وأهدافه الحقيقية في تدمير الدولة العراقية المركزية لتكون النموذج لسائر الأقطار العربية الأخرى، التي تستجيب للمشروع الأميركي في قيام نظام شرق أوسطي جديد يكون بديلا للوحدة القومية العربية، التي كان العراق في ظل نظامه الوطني – القومي  يمثّل عنصر القوّة الأبرز فيها فكريا وسياسيا واقتصاديا وعقيديا مرتكزا الى المنطلقات الفكرية للنظرية القومية المعاصرة التي أطلقها حزب البعث العربي الاشتراكي في مؤتمره التأسيسي الأول في السابع من نيسان لعام 1947. والتي التزمت ثورة 17 تموز المجيدة في العراق العمل بهديها وترجمتها في الواقعين العراقي الوطني والقومي مؤسسة لتجربة رائدة في الانجازات الوطنية المتلازمة مع الأهداف القومية العليا للحزب في تأصيل العمل الوحدوي وبناء ركائز المجتمع القومي التحرري الاشتراكي .

   يبقى هناك ثمّة تساؤل على درجة عالية من الأهمية، وهو لأية دوافع عميقة كانت وراء احتلال العراق سنة 2003 ؟ هل هنالك من أشكلة مازالت تحتمل اللبس غير واضحة دفعت بدولتين من القوى العظمى ( أميركا وبريطانيا ) لشنهما حربا تدميرية غير مسبوقة على العراق واحتلاله واسقاط دولته المركزية، ونظامه الوطني، واصدار قانون باجتثاث الحزب الحاكم – حزب البعث؟

إنّ الباحث الموضوعي الذي يمكنه الاجابة على التساؤل – الأشكلة المشار اليه، هو الذي يستطيع تظهير هذه الأشكلة الى معرفة يقينية جلية وواضحة.

نعم، الأشكلة تتعلق بجملة من الخصوصيات الجيوسياسية اكتسبها العراق على مديات مراحل تشكّله التاريخي من القديم الى الوسيط فالحديث والمعاصر..

 

 أبرز الخصوصيات كانت :

1 – خصوصية الجغرافية

  الجغرافية الطبيعية للعراق تمتد على مساحة تصل الى نحو 440 ألف كلم2 ، وهي بذلك توازي مساحة دولة أوروبية عظمى هي فرنسا طالما كانت لها أهميتها كثورة مبكّرة للديمقراطية عام 1789، وأيضا تجربتها في السباق الاستعماري في أفريقيا وأميركا الجنوبية، وفي المغرب العربي ( الجزائر ، تونس ، المغرب )، وفي المشرق العربي ( سوريا ولبنان ). كذلك المساحة العراقية في ظل الدولة الحديثة بعد 1921، تعادل نصف مساحة مصر، وأكثر من مرة ونصف المساحة الكلية لأقطار المشرق العربي ( سوريا 180 ألف كلم2 ، الأردن 97 ألف كلم2 ، فلسطين 28 ألف ولبنان 10452 كلم2 ) .

إلى جانب الوزن المساحي للدولة العراقية هناك خاصّية على درجة عالية من الأهمية، وهي الطبيعة التضاريسية للجغرافية التي تتوزّع على أربع مناطق مختلفة من حيث البيئة والمناخ والمتساقطات المائية، والاقامة البشرية وسواها.

المناطق الأربع هي : المنطقة الجبلية في الشمال والشمال الشرقي ، وهي على محاذاة المحاددة لكل من تركيا وإقليم كردستان العراق وإيران ، مساحة هذه المنطقة تمثّل نحو 20 % من مساحة العراق الاجمالية .

المنطقة الثانية هي عبارة عن الكتلة الهضبية في الجهة الغربية المحاددة لسوريا، وهي ذات طبيعة صحراوية قاسية، تصل مساحتها الى نحو 23 % من مساحة العراق الكلية.

المنطقة الثالثة وتسمى بالمتماوجة بين الجبلية والسهلية ، وهي تلي مباشرة المنطقة الجبلية المحاذية لايران واقليم كردستنا وتركيا .

المنطقة الرابعة وهي السهل الرسوبي الممتد بين نهري دجلة والفرات ، يبدأ من تكريت ويتجه جنوبا الى مصب النهرين في الخليج العربي .

كانت هذه المنطقة الأكثر استعدادا للانتاج الحضاري عبر التاريخ ، وهو الانتاج الذي سجّل سبقا حضاريا على سائر البلدان المحيطة والمجاورة . خضعت هذه المنطقة لقانون التحدي والاستجابة ، فقد عملت الجماعات البشرية التي أقامت فيها على تجاوز التحديات الطبيعية في المنطقتين الجبلية والهضبية ، وراحت تحولها الى استجابات حضارية عراقية من جهة، وتصدرها الى خارج حدودها ، لاسيّما الى المجال الحيوي المجاور ( المجال العربي – القومي فيما بعد ) ، بهدف تطويره وتهيئته للتفاعل معها ، الأمر الذي يساعد على تعزيز قوتها ، ويمنحها مناعة التحصين من الاختراقات الخارجية الايرانية والتركية  وسواهما  .

 

 2- الخصوصية البرية

الجغرافية العراقية شبه حبيسة ومغلقة، فهي تحادد الدول المحيطة بمسافات طولية على النحو التالي : إيران 1458 كلم ، تركيا 331 كلم ، سوريا 605 كلم ، الأردن 181 كلم ، السعودية 814 كلم ، الكويت 242 كلم .

وبذلك يكون الطول الاجمالي لحدود العراق البرية حوالي 3631 كلم ، بالمقابل لا تتجاوز حدوده البحرية 58 كلم ، وهي عبارة عن شريط ساحلي يمتد من البصرة الى شط العرب بين العراق وايران . لا يمثل هذا الشريط البحري أكثر من 1.5 % من اجمالي المساحة العامة للدولة ، وقد شكل هذا الواقع التحدي الثاني بعد الطبيعة التضاريسية الداخلية للعراق ، الأمر الذي كان يدفعه دائما الى التوحد العربي (القومي فيما بعد ) مما يساعده على الانفتاح على الخارج ، وخاصة لتصدير نفطه عبر مرافئ أخرى إضافة الى مينائي البصرة الذي يبعد حوالي 120 كلم عن رأس الخليج، وأيضا ميناء أم قصر الذي يبعد نحو 60 كلم. إنّ تحليلا موضوعيا لمشكلات العراق الحدودية مع الكويت لا يخرج عن محاولة العراق الدائمة لكسر التحدي المفروض على جغرافيته البحرية ، والتي تصل نسبتها الى اليابسة الى  0.015 \3631 وهي نسبة ضئيلة جدا بمقاييس الجغرافية السياسية للدول وبمدى انفتاحها مع الخارج الدولي.

 

  3- الخصوصية الحضارية

 تأسيسا على منهج الربط بين الجغرافية كثابت مكاني والتاريخ كمتغير زماني، يمكن التوقف عند السبق العراقي في تحقيق منجزات حضارية كان لها الأثر الأكبر في الحضور العراقي الفاعل والمندفع تجاه عمقه المجاور ( القومي ) ، كل ذلك بهدف تقوية وتطوير هذا العمق من جهة، وتوظيفه الى عنصر قوّة ومناعة وتكامل مع العراق من جهة أخرى. وهنا ، بالذات ، تكمن مسألة اندفاع العراق نحو عمقه العربي – القومي في ضوء مشروع البعث لقيام الدولة القومية وفق جدلية الربط والتكامل العضوي بين مثلث القوّة المتمثل بالوحدة والحرية والاشتراكية .

  كان العراق ، عبر التاريخ يتميز برسالة تقوم على الانتاج الحضاري من أجل الجماعات المجاورة التي استمرت تتفاعل لتتشكّل في إطار أمة عربية واحدة . ففي العراق القديم تواصلت الانتاجات الحضارية ذات الأبعاد الوحدوية والتوحيدية الجامعة، فكانت هناك الجماعات الحضارية الأكادية والأشورية والبابلية والسومرية وغيرها الكثير قد انطلقت من بلاد الرافدين لتندفع الى مجالها الحيوي المجاور في الخليج ومصر وسوريا وسائر المنطقة التي اكتسبت خصوصية الهوية العربية فيما بعد. فالكتابة السومرية كانت الأولى في العالم ، لم تلبث أن انتشرت في مصر لتدخل في الكتابة الهيروغليفية ، والى فينيقيا على الساحل الشرقي للمتوسط ليعمل الفينيقيون على تطويرها الى أبجدية من 22 حرفا ، وتكتب من اليمين الى اليسار بعد أن كانت السومرية تبدأ من اليسار . وعلى صعيد التشريعات الحقوقية  كانت لوحة حمورابي القانونية بمثابة أول قانون في تاريخ البشرية ، وقد وضع في الاقتباس والتوظيف في المجال الحيوي للعراق ، وامتدت تشريعاته الى العالم المزامن له .

وليس من الصدفة أيضا أن يختار الخليفة الراشدي الرابع الامام علي بن أبي طالب مدينة الكوفة العراقية مركزا للخلافة ، وكذلك ليس من باب المصادفة أن يختار الخليفة العباسي هارون الرشيد بغداد العراقية العاصمة المركزية لدولة عباسية مترامية الأطراف .

إنّ الخصوصيات المشار اليها هي السبب العميق وراء كل الاحتلالات التي تعرض لها العراق في تاريخه المديد وصولا الى اليوم . ثمّة ظاهرة لازمت هذا التاريخ العراقي هي ظاهرة ” الاندفاع والصدّ ” ، فالاندفاع هو من جانب العراق نحو مجاله الحيوي العربي لمنحه مزيدا من القوة ، مقابل استقواء العراق بهذا المجال وتمكينه من الاستجابة لكسر التحديات الخارجية ، أمّا الصدّ فهو محاولة القوى المعادية والطامعة في السيطرة على المجال العربي والاستئثار بخصوصياته الجيوسياسية الموقعية والثرواتية والبشرية والحضارية ، صدّ العراق ومنعه من أن يكون فاعلا حضاريا لأمة عربية مختصة بنشر رسالة انسانية الى العالم أجمع .

أمّا الاستنتاج الذي يمكننا تسجيله في ذكرى الاحتلال الأنكلو – أميركي للعراق منذ نيسان 2003 وحتى اليوم، هو أنّ العراق ومعه الأمة العربية تعرضا لاحتلالات متعددة ، احتلالات أمعنت تفتيتاً وتفكيكاً وتدميراً وتشريداً وقهراً ، لكن مقومات البقاء وقدرة العراق والأمة على احتواء تداعيات الاحتلالات أفضى الى نتيجة دامغة في التاريخ ، وهي عودة العراق والأمة على استعادة المبادرة ، ومباشرة النهوض والارتقاء من جديد، ومواصلة العمل بمبادىء الرسالة العربية الخالدة التي ستكون المنتصرة حتما في التاريخ .

Author: nasser