بسم الله الرحمن الرحيم
(بَل نقذفُ بالحقِّ على الباطلِ فيَدمَغُهُ فإذا هوَ زاهقٌ)
صدق الله العظيم
الجُذُورُ التَّاريخِيَّة لمَشرُوعِ احتِلَال العِرَاق
بينَ الحُجَج المُفتَراة المُضَلِّلَة والحَقائِق الدَامِغَة””
د.عباس العزاوي
في مثل هذا اليوم الاسود دنست قوات الاحتلال ارض بغداد الحبيبة معلنة دخول العراق في حقبة سوداء لم يشهد لها تاريخ العالم مثيلاً ، حيث ادانت دول العالم وشعوبه ، وما زالت، ذلك الغزو الاجرامي الهمجي. فهل حدث ذلك العدوان اعتباطاً ؟ ام ان له جذوره ودوافعه الخطيرة ؟ . وقبل أن نواصل وقفتنا في موضوع الجذور التاريخية للعدوان الأمريكي الغاشم على العراق في العام2003م، فإنِّنا نحني رؤوسنا لأبطال المقاومة العراقية الباسلة، ونحيِّيهم شهداءَ في جنَّات الخلد ان شاء الله تعالى أو أحياءً يُرزقون، الذين أذاقوا المحتلّ الغاشم عظيم المرارة وأثخنوه بين قتيلٍ وجريحٍ حتى ولَّى هارباً مذموماً محسوراً من أرض الفراتين يئنُّ من جراحه النازفة، ملعونا من كل شعوب الارض…
لقد ارتكب بوش الملعون ومَن تحالف معه من أرباب الشرّ جريمتهم الكبرى قبل عشرين سنة بحق العراق وشعبه الأبيّ، بغزوه واحتلاله باشتراك أكثر من مئة وستين ألفاً من جنودهم الغُزاة، فزُلزِلَت الأرض والسماء زلزالهما بشعبنا العراقي ووطننا العربي لتنهار كلّ مظاهر الحضارة من شواخصٍ ومؤسساتٍ وجسورٍ ومصانع ومراكز علمية وجامعات ومرافق توفِّر للشعب حياته اليومية، ولم تسلم حتى محطات تصفية المياه العذبة . فبفعل مُبَيَّت ومُدبَّر دُمِّرت وخُرِّبَت كلّ مؤسسات الدولة الادارية والصناعية والخدمية، ودخلَ العراقُ في نفقٍ مظلمٍ، وتهاوت الأجساد البشرية البريئة حتى بلغ عدد الشهداء حسب الدراسات الأمريكية نفسها بأكثر من ستمائة ألف بين عسكري ومدني، من الشيوخ والنساء والأطفال، وتشرد أكثر من ستة ملايين عراقي خارج البلاد في أصقاع الأرض.
إن اختيار هذا الموضوع المهمّ، هو اصطحاب المتابع الكريم في جولة في أعماق التاريخ، لننفض الغُبارَ عن صفحاتٍ مهمةٍ من تلك الوقائع والأحداث ، ثمَّ لنربط بينها وبين الحاضر، لنقتنص الحقيقةَ منها، ونستطلع الجذور التاريخية التي كان لها الدور الكبير في العدوان الاجرامي على العراق، ولنتَبيَّن أنَّ النزعةَ العدوانية للأمريكان والصهيونية العالمية، لم تكن وليدة اليوم، وأنَّها لم تكن حالة استثنائية كما يصوّرها المعتدون، فكلّ انسان عراقي أو عربي حرّ لايجب أن يقتنع بما يَسوقه أرباب الشرّ ليُسَوِّغوا لعدوانهم الغاشم. من هنا فإنَنا سنقرأ ذلك التاريخ بعيون الحاضر، وأن لا نكتفي بقراءته السردية والمعرفية، بل سنأخذ بتفسيره وتحليله.
فمنذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة والحقد الدفين ينمو ويكبر في نفوس وصدور بني صهيون تجاه بلاد الرافدين أرضاً وشعباً وتاريخاً، فظلّوا ينتهزون الفرصة السانحة لهم للثأر من العراقيين والانتقام منهم، ويسعون بكلَّ الشرِّ الذي تمتليء به نفوسهم الى تدمير العراق، بل كانوا ولم يزلوا يتمنون مَحو العراق من الخريطة السياسية والجغرافية . والسبب كما يُطلعنا التاريخ لأنَّ العراقيين كانوا على مدى تاريخهم الطويل، هُم السَّيف المُسلَّط على رؤوس الصهاينة، وأفكارهم الخبيثة، وتوجهاتهم الشرِّيرة، وهكذا جاءتهم الفرصة المواتية على يد مجرم العصر بوش الإبن وقبله الأب في العام1991م، ليثأروا تاريخياً من أبناء الرافدين الغيارى. وهنا نجيب عن سؤالٍ ملِّحٍ أمامنا وهو: لماذا العراق .. دولةً وشعباً؟
العراق وشعبه تحت مطرقة العدوان…لماذا؟!
منذ فجر التاريخ ومنذ تأسيس أول حضارة في العراق سبقت حضارات العالم سنكتشف الحقيقة الغائبة عن أنظار الكثيرين والتي كانت أحد أسباب العدوان الهمجي على العراق، فالعراقيون هُم مَن علَّم الدنيا الحرفَ والكتابةَ والقانونَ والعلومَ والمعارف، وهُم أول مَن أسَّس الحضارات في التاريخ البشري. والعراق أيضاً هو بلدٌ من البلدان التي لها وضعيةٌ وامكاناتٌ خاصة، فهو المتفرِّد بتنوعه الجغرافي والعِرقي والديني والبشري، ويُمثِّل تكاملية متجانسة ومتفاعلة ومتوافقة، فيه تحاورت الألسن وتآلفت الملل والنحَل كشعبٍ واحدٍ في بلدٍ واحدٍ. والعراقُ يمتلك قدرات وطاقات علمية عظيمة، ففيه العلماء والمفكرون والمخترعون في كل صنوف العلوم في الذرة والكيمياء والفيزياء وغيرها. والعراقُ أيضاً، وعاصمته بغداد الرشيد، حاضرة العرب والدنيا في زمن الدولة العربية الإسلامية الكبرى، وخاصة في العصور العباسية التي كانت أقوى دولة في العالم وأكثرُها اتِّساعاً، فكان الازدهار الكبير للأمة والعالم.
وعندما نعود الى القَرنين السابع والسادس قبل الميلاد ونُسلّط الضوء على عهد البابليين زمن الملك البابلي العراقي والقائد نبوخذ نِصَّر وتحديداً في الأعوام 605، 597، 586 قبل الميلاد، حيث غزا وفتحَ هذا الملك مدينة أورشليم (القدس) وساق اليهود الصهاينة أذلَّة عبيداً الى بابل، ولم يكن هذا الفعل غروراً وعدواناً، انَّما كانت حملته لكبحِ جماحِهم، وطغيانِهم واستكبارهِم حتى على الخالق سبحانه وتعالى عمَّا يصفون، حيث جعلوا له أوصافاً كأوصاف البشر، فهو عندهم يأكل ويشرب ويجوع، ويصارع ويفوز ويخسر .عندها كان السبيّ الأول ثمَّ الثاني وتلاهما الثالث، حيث تم احراق كتبهم المزورة والمزيفة. من هنا كانت البذور الأولى لهذه النزعة الانتقامية الموبوءة بكلِّ الحقد والكراهية، وبمرور الوقت تحوَّلت الى ثقافة للثأر والانتقام والقتل من العراقيين جميعاً اخذت تتراكم عند الصهاينة وتشيع في ثقافتهم عبر السنين.
ويلحق بما سبق عوامل وأسباب تاريخية معاصرة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، منها في الداخل العراقي والقسم الآخر ضمن نطاق الأمة العربية، ففي الداخل العراقي لم ينسَ رئيس وزراء انكلترا الاسبق بلير وادارة حكومته ثورة العراقيين (ثورة العشرين)على الاحتلال البريطاني والتي انتصر فيها العراقيون من رجال القبائل في الفرات الأوسط وضواحي بغداد والجنوب، وكبَّدوا المحتلّ الانجليزي خسائر فادحة من ضباط وجنود ومعدات، وقُتِل عدد من الضباط برتبٍ عليا، وكانت أُهزوجة رجال العشائر الثوَّار (الطوب أصوب لو مكواري) أو (الطوب أحسن لو مكواري) والمكوار هو عصا غليضة يوضع في أحد أطرافها مادة القير. كما أنَّ قيام ثورة الرابع عشر من تموز والتي استبدلت النظام الملكي الذي يسنده البريطانيون، ولديهم أكثر من حامية عسكرية أو ثكنات منتشرة في البلاد، بالنظام الجمهوري وتم اجبار هذه القوات على الرحيل عن العراق. ولا ننسى الضربة الاقتصادية الموجعة لأمريكا والغرب عندما قرَّر العراق في عهد النظام الوطني القومي السابق طرد شركات النفط الاحتكارية الأمريكية والغربية بقرار التأميم الخالد في البحث والتنقيب والانتاج والتسويق.
هذه الوقائع والأحداث التاريخية وغيرها الكثير، ساهمت بشكلٍ فاعلٍ في تراكم مخزون الحقد على العراق وشعبه من الغرب الاستعماري والصهيونية العالمية. وفي الجانب المقابل كانت هناك مواقف العراقيين الثابتة والأصيلة اتِّجاه أمتهم العربية، فقد كان الجيش العراقي الباسل سبَّاقاً في الدفاع عن قضايا الأمة المصيرية ومنها قضية فلسطين العربية، فكان العراق من أوائل الأقطار العربية التي لبَّت نداء العروبة وهبَّت للدفاع عن فلسطين في معركة العرب الكبرى عام1948م، حيث قام الجيش العراقي بتحرير جنين من قبضة الصهاينة وقدَّموا مئات الشهداء، ولم تزل رفاتهم مدفونة في مقبرة جنين، ولولا تقاعس وتخاذل الحكومات العربية أنذاك التي أمرت بوقف القتال الفوري وعودة الجيوش العربية الى ثكناتها، لكان لفلسطين اليوم شأنٌ آخر. وتلاحقت وقفات الجيش العراقي البطل في معارك العرب مع الصهاينة، وكانت مشاركته الفاعلة والمهمة في حرب تشرين عام1973م حيث كان الحامي لدمشق من السقوط بأيدي القوات الصهيونية، والتي كان للطيارين العراقيين دورٌ كبيرٌ في هذه المعركة، حيث اشترك أكثر من سرب في الجبهة المصرية أُستُشهد عددٌ منهم ورفاتهم في مقبرة سيناء تشهد على ذلك، والعراق أيضاً كان المبادر الى استخدام النفط كسلاح للمعركة ضد العدو في حرب تشرين.
أمَّا عن أهمية العراق في الجسد العربي، فأمريكا والغرب والصهاينة يعلمون جيداً أنَّ العراق هو صمَّام أمان الأمة، فإن كان قوياً مقتدراً ومعافاً، فذلك خيرٌ للأمة، وإن انكسر، فالويل والثبور للعرب، كما يحصل اليوم، ذلك لأنَّ انتماء العراق الى أمته العربية لم يأتِ من فراغ، أو هو ارتباطٌ شكليٌّ انَّما هو تعبير عن علاقات عضوية متينة وصلبة في الجوانب التاريخية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية مع امته، تجاوزت كلّ الشكليات والمظاهر، وهي عميقة عمق التاريخ العراقي الغائر في القِدَم. من هنا فقد أثار هذا انتباه الأمريكان والصهاينة والغرب الاستعماري، فكان عدوانهم على العراق بنيَّة مبيَّتة وبقصد تدمير العراق وإخراجه من المعادلة العسكرية والحضارية في الوطن العربي لكي يتم فسح المجال وابوابه المشرعة الى اندفاع المشروع الايراني لتقسيم المنطقة وتفتيتها خدمة لامن الكيان الصهيوني. وما نشهده اليوم من حال العرب خير دليل على ذلك .
الكذبة المُفتراة والحقائق الدامغة
حاول الأمريكان خداع جزء من الرأي العام في بعض دول العالم، لكنَّهم لم يتمكنوا من خداع العراقيين بالذات، لأنَّ شعبنا واعٍ ومُدركٌ لأكاذيبهم، ولأنَّه لمس مدى “صدق” نواياهم، في ان عدوانهم وغزوهم لبلدهم كان من أجل سواد عيون العراقيين! فهل كان ذلك من خلال القنابل الفسفورية واليورانيوم المنضَّب، التي تناثرت عليهم من السماء ومن على الأرض، ومن قتلهم وجرحهم أكثر من مليون من أبناء هذا الشعب، ودهس سيارات تحمل عوائل بكاملها بدباباتهم في وضح النهار!. وما قام به دُعاة الديمقراطية وحقوق الانسان من انزال العقاب بالشعب العراقي بأكمله، دون مراعاة للانسانية المعذَّبة في هذا البلد من خلال فرض الحصار الظالم والشامل لمدة تزيد عن ثلاث عشرة سنة سبقت الاحتلال مباشرة، شمل الغذاء والدواء وحليب الأطفال حتى أُستشهد الآلاف من الأطفال الرضع. وحتى يستشري الجهل والتخلف والأمية بين أبناء العراق، فقد منعوا استيراد أقلام الرصاص التي يستعملها كلّ الطلبة في كافة المراحل الدراسية، بزعم أنَّ لها استخداماً مزدوجاً!. وماذا عن الفعل الاجرامي الوحشي بتدمير وحرق وشواء الناس في ملجأ العامرية، الذين يقدرون بألف ونيِّف بين رجل مُسنّ وامراءة وفتيات وفتيان وأطفال، في جريمة لم تُعرف مثيلا في التاريخ الحديث. وهل تدمير مصانع حليب الأطفال ومذاخر الأدوية ومخازن المواد الغذائية والمستشفيات ومحطات الاسالة وتصفية المياه والطاقة الكهربائية وتعبئة الوقود ومخازنه والخدمات العامة كمحطات الصرف الصحيّ والجسور والجامعات والمكتبات ودور النشر له علاقة بتغيير النظام السياسي؟. ثم ماذا عن قيام الأمريكان بتأجيج النعرات الطائفية لخلق الفتنة بين أبناء الشعب الواحد الموحَّد الذي لم يعرف الطائفية في تاريخه.
أفبعد هذا لا يكون العراقيون على علمٍ ودراية من غرض الأمريكان والصهاينة المجرمين من غزو العراق واحتلاله؟!. لقد حاولوا أن يُغيِّبوا الحقيقة التاريخية لأسباب عدوانهم على العراق وتدمير بنيته التحتية، وعتَّموا عليها، كما عتَّموا عن أسباب هزيمتهم في العراق بفعل المقاومة الوطنية الباسلة. فالعدوانيون ينكرون الجذور التاريخية الى دفعت بهم واندفعوا بسببها لارتكاب هذه الجريمة الوحشية البشعة التي لم يعرف التاريخ الحديث مثيلاً لها. على شعبنا العراقي العزيز، الذي ترتفع هاماته وكبرياؤه الى عَنان السماء أن يكون واعياً لما قام ويقوم به العدو الأمريكي الصهيوني من تأويلات مضلِّلة لعدوانه الاجرامي بحقّ العراقيين، وأن لا تنطلي عليه، فحجة اسقاط النظام الحاكم لم تكن هي غايته من احتلال العراق!، وهنا يتساءل كلّ عراقي نجيب، وهل اسقاط النظام يكون ثمنه مليون عراقي بريء آمن بين قتيل وجريح، وهل اسقاط النظام يتطلب حلّ الجيش العراقي الوطني الباسل؟ وهل اسقاط النظام يتطلب تدمير كلّ ما بناه العراقيون في عقودٍ من الزمان، وهل اسقاط النظام يتطلب استعمال الفسفور الأبيض المشعّ واليورانيوم المنضَّب على المدنيين الآمنين، واحراق المزارع والبساتين دونما مبرِّر لذلك؟ . وهل عمليات التعذيب الوحشية البشعة في سجن أبي غريب التي قامت بها قوَّات الاحتلال الأمريكي المجرمة والتي تقشعرّ لها الأبدان، بحقِّ نساءً ورجالاً، هل يمكن اعتبارها جزء من مهمَّة اسقاط النظام؟! حيث لم تتم محاسبة أي من المسؤولين عنها، ومَن تمت محاسبته صورياً بعد ضغط الرأي العام العالمي، تم اخلاء سبيله!
وما علاقة النظام السياسي الحاكم بتاريخ العراقيين التليد وحضاراتهم القديمة وتراثهم الشاخص في الآثار المحفوظة في المتحف الوطني؟، فلماذا قامت قوَّات الاحتلال الغاشمة، بكسر أبواب المتحف الوطني العراقي، الذي يحوي في بطنه كلّ حضارات العراق وارثهم العظيم، ونهب محتويات المتحف التي لا تقدَّر بثمن، والعبث بالأخريات وتحطَّيمها.
وهل فتح أبواب المصارف والبنوك على مصراعيها للصوص والمجرمين من قبَل قوات الاحتلال لنهبها ولتصبح خاوية هو غايته القضاء على النظام السياسي ؟، وأموال هذه البنوك ومنها البنك المركزي العراقي هي رصيد الدولة من العملة الصعبة، وأموال مخصَّصة لبناء المشاريع الكبرى والصغرى الصناعية والتعليمية والزراعية والصحية والخدمية….الخ، وتالياً فهي أموال الشعب العراقي نفسه. فهل هناك دليل قاطع اكثر من ذلك على أنَّهم كانوا يستهدفون العراق شعبا وتاريخاً وحضارةً وتراثاً ؟ اذن هو الثأر والانتقام من العراقيين أنفسهم وليس من نظام سياسي معيَّن.
أمَّا الكذبة الثانية البائسة، وهي زعمهم تحقيق الديمقراطية للعراقيين!
فانَّ الشعب العراقي قد اكتشف بنفسه أنَّها كذبة لا أصل لها، فأيّ ديمقراطية التي جلبها المحتلّ، وقد قتَّل أبناء العراق، ودمَّر بلادهم، ونهب ثرواتهم، ولوَّث سماءهم ومزارعهم، وسمَّم مياههم؟ نود هنا أن نبيِّن قضية تاريخية مهمة بخصوص هذه الديمقراطية المزعومة المستوردة، والموهومة التي صدَّعوا رؤوسنا بها، فنقول:
يتصوَّر الكثيرون أنَّ الديمقراطية ابتدعها الغرب الاستعماري وأمريكا، وبأنَّ الشعوب والأمم الأخرى ومنهم العرب، قد نُقِلت اليهم منهم، وما دروا أنَّ الديمقراطية عرفها العراقيون القدامى منذ أكثر من أربعة آلاف سنة وعملوا بها، بل نقلوها للامم الاخرى أنذاك!. فقد أثبتت الرُقَم الطينية في بابل وأريدو والحضر وغيرها من آثار العراق، وما احتوته ملحمة كلكامش الشعرية، ومسلَّة حمورابي التي سُجِّلَت فيها اولى القوانين التي عرفتها البشرية والمباديء الأساسية للحقوق المدنية ومباديء خاصة بالحرِّيات، ونظام تعامل الدولة مع مواطنيها، وعلاقة المواطنين أنفسهم معها، وما ينظّم علاقاتهم فيما بينهم. وكان هناك مجلس للأعيان في المملكة مٌنتخب من الأقاليم يعقد جلساته الدورية كلّ شهر، أو خلال الأزمات والكوارث الطبيعية كالفيضانات، وفي حالة الحرب والعدوان الخارجي، والعمل بالتعبئة العامة في حالة تعرّض المملكة للعدوان وغيرها الكثير. نعم كانت هناك ديمقراطية في العراق القديم قبل أن ينبري فقهاء القانون بالكتابة عنها في عصرنا الحديث. وقد أخبرتنا النقوش الأثرية، وما كتبه المؤرِّخون الثقات بتفاصيل كل ذلك. فليس للغرب وأمريكا فضل على العراقيين في ديمقراطيتهم الزائفة هذه، فالعراقيون هم مَن علَّموا الدنيا كلَّها القانون والحقوق والحرِّيات قبل آلاف السنين.
أمريكا والقوة الفائضة المنفَلِتة
لقد اوجد التقدم التقني الغربي المعاصر توجهاتٌ وممارساتٌ عدوانية متطرِّفة، تجاوزت على الانسان وقيمه وأخلاقه وخصوصياته، وخاصة أقطارنا العربية، وقد تجسد ذلك في فيتنام وكمبوديا وختمتها اميركا في اليابان بقنابلها النووية المدمرة خلال الحرب العالمية الثانية، ثمَّ تبعتها بجرائم في العراق وأفغانستان وليبيا. وهكذا سقطت الصفة الأخلاقية لهذا التطور المادي، فتطور دونما أخلاق وقيم هو تطور خاوي وبعيد كل البعد عن كلمة ” حضارة”، فمن خلال زعم نقل الحضارة الى العراق، من باب حقوق الانسان المتباكى عليها من قبلهم، أُنتُهِكَت المقدَّسات، وأُستُبيحَت الحُرُمات، وهُضِمَت حقوق الانسان العراقي، واحتُقِرَت تقاليد العراقيين وثقافتهم ومعتقداتهم، وحاولوا خاسئينَ طمس هُويَّتهم الوطنية، والعربية والدينية والثقافية. وتلاشت في هذه “الحضارة” المزعومة البائسة قيَم التسامح والحوار والتعايش بين الشعوب. وهكذا بامتلاك أمريكا والكيان الصهيوني القوة الفائضة، فقد تحوَّلت بمرور الوقت الى قوة عدوانية غاشمة، لا يحكمها قانون دولي، أو أخلاقي أو ديني. ولم تصغِ هذه القوة المُتجبِّرة المنفلتة للأصوات التي يطلقها العراقيون المعذَّبون نتيجة الاحتلال الغاشم، ولم يجد نفعاً كلّ صياحِهم وصُراخِهم ، فالعالم يسمع ولا يصغي، يرى ولا يُبالي، فلا جفنٌ يرفُّ له ولا عينٌ تدمع.
إن عرض البذور الأولى التي أنتجت زرعاً خبيثاً للصهاينة والأمريكان، تَشكَّل منه هذا المشروع الاحتلالي على العراق وشعبه، لا يُقصَد منه استرداد الماضي وانما توعية شعبنا في العراق وأمتنا العربية، وخاصة النشء الجديد والأجيال القادمة بالجذور التاريخية للحدث الجلل، لتصح قراءتهم وتحليلهم للتاريخ المعاصر، ليكونوا ليس على علمٍ ودراية بتاريخهم، بل بتاريخ عدوّهم أيضاً، كما تنص المقولة: (اعرف عدوَّكَ) . فالهوَس الصهيوني اتِّجاه الامة العربية والعراق بالذات وحقدهم وبغضهم لشعبه الأبيّ، يتوافق وينسجم مع الحقد والبغض من قبل أمريكا والغرب، وهم يعلمون ويلمسون أنَّ بقاء العراق قوياً مقتدراً سيفيضُ قوةً وهيبةً على الأمة العربية، وأنَّ عراقاً مستقراً وموَحَّدً سيمنع تمزيق الأمة وتجزئتها، بل سيعمل على وحدتها..
هذه هي الحقائق التاريخية التي اثبتتها الوقائع .