في ذكرى تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي
رؤية في معاني علاقة “البعث” بالأمة العربية
نبيل عبد الله
شهد المجتمع العربي في القرن العشرين، ظهور العديد من التيارات الفكرية، القومية منها والأممية، بشقّيها الشيوعي والإسلامي، وحينما نشأت “حركة البعث العربي” في نهاية ثلاثينات ذلك القرن لم تكن في المضمار وحدها، بل نافستها حركات قومية أخرى، كانت أقدم منها تأسيساً، فبماذا تميّز حزب البعث العربي الاشتراكي حتى صار كل حديث عن القومية العربية والوحدة والأمة العربية مرتبطاً به بالضرورة؟!
بدءاً لابد من الإشارة إلى أن ذلك (الغنى) المفترض في الساحة السياسية والفكرية العربية، وخاصة في مشرق الوطن العربي حينها، من جانبٍ، كان في حقيقته يمثل فقراً من جانب آخر، ذلك أن تلك الساحة وإن بدت زاخرة بكثير من التيارات والأحزاب والرؤى الفكرية المختلفة إلا أنها كانت بحاجة ماسة إلى فكر حقيقي يجسّد نفسه بتنظيم حقيقي ويرتبطان معاً بنضالٍ حقيقي.
هذا بالضبط ما جعل “البعث” يحوز مع بدايات مرحلة التبشير وفور بزوغه بحصة وافرة في الساحة السياسية العربية على مستويات الفكر والتنظيم والنضال.
ولعل أهم ما يميز “البعث” هو ذلك الانتماء العضوي الحقيقي للأمة، فهو لم ينشأ تبعاً لحوارات جرت في صالونات سياسية مغلقة ولا أحاديث كتبت على صفحات الجرائد أو قيلت في مناسبات اجتماعية عامة وذهبت أدراج الرياح، بل كان نتاج فهمٍ عميقٍ لواقع الأمة سياسياً وفكرياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً، ونتاج فهمٍ عميقٍ لمعاني ومكانة الدين، والإسلام تحديداً، في حياة الأمة العربية كأمة، لا في حياة أفرادها فقط.
لقد أنتج الفهم العميق لواقع الأمة العربية، كما قرأه الرفيق القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق، يرحمه الله تعالى، منطق “البعث” الجدلي العلمي التاريخي الذي لم يكن منطقاً مجرداً ولا مثالياً، بل واقعياً حياً متفاعلاً مع الحياة بكل سلبياتها وإيجابياتها، لذا كان منطق النظرية البعثية يعبر تماماً عن “ظفر الحياة على الموت”.
ولأن “البعث” استخدم في منطقه أسلوباً علمياً لا خيالياً طوباوياً، فقد أدرك مواقع القوة الكامنة في الأمة فعمل على إجلائها وإظهارها برّاقة للفرد العربي، ورأى مواقع الخلل فيها، وفي أفرادها، فشخّصها على نحو ممتاز وعالجها بما لا يدع مجالاً لفكرٍ آخرٍ لأن يعبث بها ويستغل مواضع الخلل تلك لينفذ منها فيعيق نهضتها ويمنع انبعاثها.
ولأنه فكر علمي وعملي لم يقدّم “البعث” نظرية حبيسة أغلفة الكتب فحسب، بل قدّم نظرية قابلة للحياة، لأنها مستمدة منها، معبرة عنها، فاعلة فيها، وهي في المحصلة هدفها، لذا رأيناه يربط على نحوٍ عضويٍ، لا جدلي، بين الأهداف الثلاثة، فلن تتحقق وحدة الأمة بلا حرية أقطارها وحرية أفرادها، ولا وحدة للأمة ولا حرية لأبنائها وأقطارها دون عدالة اجتماعية، أسماها اشتراكية، لكنها ليست الاشتراكية الماركسية التي لا علاقة لها بواقع الأمة العربية ولا تتصل بهواجس أبنائها، بل هي اشتراكية الطريق الخاص المنسجم مع الأمة وقيمها ودينها وتاريخها وما يشغل بال مواطنيها.
و”البعث” هو أول حزب آمن بالوحدة العربية فكراً وعملاً، وجعل تنظيمه على أساسٍ عربيٍ شامل لأنه آمن، منذ البداية، أن “كل نظرةٍ ومعالجةٍ لمشاكل العرب الحيوية لا تنطلق من حقيقة “وحدة الأمة العربية” تكون نظرة خاطئة ومعالجة ضارة”، وبذلك لا وجود لــ “بعث” عراقي وآخر سوري أو سوداني أو لبناني، أو غير ذلك، بل هو “بعث” عربي واحد يؤمن بـ “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة” دون أن يُنكر خصوصيات كل قطرٍ فيها ومشاغل مواطني كل قطرٍ فيها.
ثم أن “البعث” يفهم الوحدة العربية باعتبارها “تخلق العرب خلقاً جديداً” فهي وحدة حقيقية وليست على شاكلة “الجامعة العربية التي تجمع العجز إلى العجز، والأحقاد والأطماع والمصالح الخاصة بعضها إلى بعض.”
ومع أنه كانت ثمة أحزاب وقوى وشخصيات عربية قد نادت، قبل “البعث” وبعده ببعض هذه الاهداف والمبادئ، إلا أن “البعث” ربط تحقيق هدفي الحرية والاشتراكية بتحقق هدف الوحدة، ولأنه رأى أن إمكانيات الأمة ليست مجموعاً عددياً لإمكانيات أجزائها في حالة الانفصال فحسب، بل هي في حالة “الوحدة” أكثر في الكم وأغنى في النوع، فقد أدرك أن فهم “الحرية” و “الاشتراكية” وتحقيقهما في حالة التجزئة وفي عقلية التجزئة يختلف كلياً عن فهمهما وتحقيقهما في إطار الوحدة فهو هنا أيضاً “فرق في النوع لا في الكم”.
وفكرة “الرسالة” في “البعث” ليست فكرة خيالية هائمة ولا مفهوماً فلسفياً مجرداً، إنها الدور الحضاري للأمة العربية، وهو بالضرورة دور انساني يتعدى الحدود الجغرافية للوطن العربي فيحدث تأثيراً عميقاً في الأمم الأخرى، ومن هنا اقترن شعار “البعث” المعروف “أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة” بالوحدة التي يقرنها بالرسالة. فلا رسالة مشروعة وجدية وخالدة للأمة الا في نطاق الوحدة.
وهذا الفهم العميق لرسالة الأمة العربية أدركته، بشكل تام، القوى المعادية لها، لذا تراها تنطلق في عدائها للعرب من عميق إدراكها لمعاني رسالة أمتهم المستندة إلى تراثٍ حضاريٍ عميقٍ ودينٍ رساليٍ خالدٍ وقيمٍ أخلاقيةٍ عالية، لذا نرى أن كل محاولات ضرب الأمة العربية إنما تعمل على ضرب تراثها وحضارتها وتاريخها ودينها وقيمها السامية، وبهذا المعنى يكون صراع أعداء الأمة، صهاينة وفرساً وغربيين استعماريين، وامتداداتهم، مع الأمة صراعاً شاملاً، ويكون تصدي الأمة لهؤلاء الأعداء، جميعاً، تصدياً شاملاً في مهمة رسالية شاملة لا يقدر عليها إلا المناضلون الرساليون المتمتعون بالرؤية الشاملة.
وفي رؤية مستقبلية عميقة وثاقبة أدرك “البعث” قبل 76 سنة أن وحدة الأمة ليست عملاً آلياً يحدث من تلقاء نفسه نتيجة لظروف الأمة وتطورها، “فالظروف لا تخدمها، والتطور قد يسير معاكساً لها نحوِ تبلورٍ كاذبٍ للتجزئة” وهو بالضبط ما يحدث اليوم من تنامي الدعوات القطرية الانعزالية، بل تصاعد ضجيج الدعوات التفتيتية على وفق الهويات الطائفية والعرقية والمناطقية، ومن هنا جعل “البعث الوحدة “فاعلية وخلقاً ومغالبةً للتيار، وسباقاً مع الزمن، أي إنها تفكير انقلابي وعمل نضالي”.
ولأن “البعث” ليس فكراً خيالياً طوباوياً، كما قلنا، فقد أدرك أنه بسبب التشوّه العميق الحاصل في شخصية الأمة وأفرادها، على مدى قرون، يتوجّب الانطلاق في مسيرة الوحدة على مراحل، فهي ليست قراراً رسمياً يتّخذه حكام أقطار عربية وينفذونه فوراً، فقد فشلت تجارب وحدوية لم تكن مستندة إلى فهمٍ عميقٍ أصيلٍ لمعاني الوحدة مما ادى الى انعكاسات سلبية على الأمة وعلى فكرة “الوحدة” بحدّ ذاتها.
وتبعاً لذلك فقد أدرك “البعث” أن أوضاع الأمة في جميع أقطارها، وفي كل نواحي حياتها السياسية والاجتماعية والفكرية تستدعي إعادة نظر شاملة وبداية جديدة، تكون بمثابة عملية “إنقاذ مصيرية”، ومن هنا فقد بدأ منذ العام 1986 يبشّر بمشروعٍ قوميٍ أكثر واقعية، فكان العمل على بلورة “مشروع العمل العربي المستقبلي”، ورأى في ذلك المشروع الصيغة الوحيدة القادرة على إنقاذ الأمة وتمكينها من تجاوز حالة الضعف والتردي التي نشهدها، وبداية العمل الجدي والفعال لتحقيق تضامن عربي حقيقي يطرح مشكلات الأمة على أساس كونها “وحدة لا تتجزأ” وينظر إلى وزن الأمة في مواجهة هذه المشكلات.
كما اكتشف القائد المؤسس ليس حقيقة الايمان ودوره في حياة الفرد والمجتمع بشكل عام فحسب، حيث الإيمان حقيقة يتشارك بها جميع أتباع الديانات السماوية، بل إنه اكتشف حقيقة الإسلام كدين، واكتشف حقيقة دوره في نهضة الأمة، وفي صيرورتها “كأمة” بعد أن كانت قبائل العرب في شبه الجزيرة متنافسة بل متناحرة لا يعرف لها إسهام حضاري في مسيرة البشرية.
لقد شكّل هذا الفهم العميق لحقيقة “الإسلام” أهم مميزات “البعث” فكراً وحزباً في مرحلة لم تكن الأحزاب والجمعيات والشخصيات القومية تجرؤ على فهم حقيقته، وإذا فهمتها لم تجرؤ على إعلانها، بل المؤكد انها لم تعالجها في أدبياتها حتى في المراحل اللاحقة.
ولو نظرنا إلى فهم المرحوم عفلق العميق للإسلام حينها، نجد إنه يتفوق بمراحل وأشواط متقدمة جداً على كل الطروحات التي كان مفكرون (مسلمون) يتحدثون بها.
تعمّق، عزيزي القارئ، بقول الأستاذ عفلق “بدافع الحب للأمة العربية أحببنا الإسلام، منذ السن اليافعة، وبعد أن اقتربنا أكثر من فهم الإسلام، أضحى حبنا لأمتنا يتلخص في حبنا للإسلام، وفي كون الأمة العربية هي أمة الإسلام”.
وأنا، اليوم، أجزم القول بأنه لو فهمت الأمة العربية، بكل تياراتها الفكرية وتنظيماتها الحزبية، حقيقة واقعها وحقيقة دورها وحقيقة رسالتها على هذا النحو، ولو انها فهمت حقيقة موقف “البعث” من “الإسلام” كما هو فعلاً لحدث تغيرٌ هائلٌ في مسارها. على جميع الأصعدة.
ما نراه في فكر “البعث” هو الفهم الحضاري الثوري للإسلام المتعلق بوجود الأمة وبهويتها، وليس الفهم التعبدي له فحسب، فلقد رأى القائد المؤسس ملايين المسلمين يؤدون فرائض الدين التعبدية ولكنهم بلا فاعلية، غثاءٌ كغثاء السيل، رأى فيهم “تابعون لدينٍ ورثوه وليس أبناء دينٍ ارتقوا اليه”، ومن هنا التقط فكر “البعث” جوهر الإسلام في الوحدة وفي التحرر وفي العدالة الاجتماعية وفي الثورة على الباطل وفي محاربة الظلم وفي تحفيز الكامن من الطاقات في النفس البشرية، وصولاً إلى تحقيق “الشخصية العربية التي تستلهم ثورة الإسلام وروحه ورسالته الحضارية” وهي الشخصية التي تحقق ذلك الانسجام الواجب أن يكون بين الانسان العربي في هذا الزمن وبين حقيقة كون الأمة أمة رسالة وأنها، برسالتها لا بعنصريتها، أصبحت خير أمة أخرجت للناس، فلا معنى لخيرية الأمة إن لم تحقق قيم العدالة والحق والخير والجمال (تأمرون بالمعروف) ولا معنى لخيريتها إن لم تردع الباطل وتثور على الظلم وتنقلب على الفساد والانحراف (وتنهون عن المنكر) ولا معنى لخيريتها إن لم تكن مؤمنة حقاً (وتؤمنون بالله).
ولم يغفل القائد المؤسس، يرحمه الله، دور القائد النموذج في تمثيل هذه المعاني، فجعل من حياته مرآة لها، ولو نظرنا إلى مسار حياته وسلوكه الفردي وعلاقاته الرفاقية نراه يجسّد في محطات حياته كلها معاني خيرية الأمة ومعاني ارتباط الفكر بالواقع ومعاني الوحدة والحرية والاشتراكية.
و”البعث” هو أول تنظيم عربي يتجاوز ثنائية القطرية والقومية، فهو يتحرّر من ضيق القطرية إلى رحابة الفضاء القومي الأوسع، وهو أول تنظيم عربي يتجاوز ثنائية الإيمان والإلحاد، فيعبر عن موقفٍ حاسمٍ لا تردّد فيه عن إيمانه، وهو أول تنظيم عربي يتجاوز ثنائية المسلم/ وغير المسلم، فيجمع كل من انتمى إليه في بوتقة واحدة تنتمي إلى الامة العربية وتعمل على بعثها ونشر رسالتها الحضارية الخالدة.
والأهم في هذا كله، أعني تجاوز الثنائيات، أن “البعث” لم يؤمن بذلك على المستوى الفكري فحسب، بل إنه حلّق بالوحدة الفكرية في هذه المقوّمات إلى ميادين تطبيقها تنظيمياً وسلوكياً، وهذه ميزة لم يتميز بها إلا “البعث” ولا أعرف أن فكراً بشرياً آخر استطاع أن يحقّقها على صعد الفكر والتنظيم والسلوك في آن معاً، ولا أظنّ أنه هناك من يستطيع ذلك سواه.
لقد تجاوز “البعث” كل أحاديث الاتجاهات الفكرية الأخرى عن العروبة والإسلام بفهمٍ لا أعمق منه ولا أرقى، وتقدّم على كل التنظيمات السائدة في الأمة، بإدراكه أن “العروبة جسدٌ روحه الإسلام” وبإدراكه أن “الإسلام ليس ديناً فحسب، بل هوية حضارية إنسانية جامعة”.
وهكذا حسم الفكر البعثي الأمر مبكراً وباختياره وليس اضطراراً، حسمه في وحدة عضوية لا جدلية، لا بل أنه أكد أنه سيأتي “يوم يجد فيه القوميون أنفسهم المدافعون الوحيدون عن الإسلام” لأن دفاعهم عن “الإسلام” مهمة دفاعٍ عن هوية بل عن وجود، ومن هنا أكد “البعث”، وليس غيره، على ضرورة “أن تكتشف الطوائف العربية غير المسلمة أن الإسلام هو ثقافتها، وحضارتها وأثمن شيء في عروبتها” بل وأوجب على تلك الطوائف أن “تُباهي به حضارات الأمم الأخرى”.
واليوم وفي ظل الهجمات الشنعاء على الفكر القومي، كثيراً ما يهاجم أعداؤنا “البعث” باعتباره حزباً علمانياً، وتكرار هذه المقولة، مع التشويه المتعمّد الحاصل لفكر “البعث” ولعلمانيته، له قصد خبيث وهو الربط بين فكر “البعث” والفكر العلماني الاجنبي المجرد من كل القيم الروحية، الفكر الرافض للإيمان والذي لا ينكر الإلحاد، بل ويعلن الالحاد، وهذا كما قلنا مقصد خبيث ينبغي العمل على فضحه دوماً.
الصحيح أن علمانية “البعث” هي – مدنية الدولة – التي يقودها الحزب حيث يكون كل المواطنين سواسية أمام القانون وأمام فرص الحياة، وتكون قوانينها مستلهمة من الشريعة كمصدر اساسي للتشريع، وفي نفس الوقت منفتحة على القوانين والدساتير العالمية وتطورات العصر، وبما يلائم خصوصية وقيم وواقع امتنا العربية وهكذا يتم تحقيق معادلة الاصالة – المعاصرة التي ميزت البعث.
نأمل أن نكون بعد هذه الرحلة الفكرية قد أجبنا على سؤال البداية: بماذا تميز “البعث” حتى صار كلَّ حديث عن القومية العربية والوحدة العربية والأمة العربية مرتبطاً به بالضرورة؟!
وأجدني في ختام هذه السياحة الفكرية معنيٌ بالقول لنفسي ولمن يقرأ: إنني اليوم بعد أكثر من أربعة عقود على الانتماء إلى هذه المدرسة العظيمة، فكراً وحزباً، أجد نفسي أقرب إلى روح البدايات، روح “عهد البطولة”، روح أولئك “الذين يُجاهِرون بأفكارهم ولو وقف ضدّهم أهل الأرض جميعا، روح أولئك المتسلّحين بالشجاعة والصبر والثبات والصلابة” على طريق ذات الشوكة، طريق الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة.