دروب الحقيقة
أشواق الوحدَة العَربيّة وتَوحُّش العالَم
الأستاذ أحمد مختار – السودان
(1)
كانت منافسات كأس العالم، لكرة القدم التي جرت هذا العام، فرصة نادرة، لاختبار أشواق العرب، في بلدانهم المختلفة، لأمل وحدتهم المؤجلة، في الذاكرة وفي صفحات التاريخ، والحاضرة في ضمائر الشهداء والأحياء، ووسائل وتنظيمات النضال والتعبير الوحدوية، منذ بواكير اليقظة العربية، في القرن التاسع عشر الميلادي، وحتى اليوم. فقد أظهرت الجماهير العربية، نزوع وحدوي جارف، وتأكيد عفوي على حقيقة (وحدة الأمة) رغم محددات (الفيفا) وقانون اللعبة، أن المنافسة بالقارات والمناطق الجغرافية. وحضر طاغياً جدل التاريخ والتراث والحضارة والثقافة، الأصالة والمعاصرة، وفلسطين والمستقبل والقيم الأخلاقية، والجراح المعنوية الغائرة والهزائم والنكسات والانتصارات، في المناسبة الرياضية العالمية.
(2)
وكيف تغيب عن العالم منجزات الحضارة العربية الإسلامية، وهي التي أهدته الأخلاق والقوانين ومبادئ الطب والفلك والرياضيات، والعلوم والموسيقي، وكيف ترحل أشجار النخيل من البصرة وهجر ووهران ومروى والواحات، والزيتون من رام الله وفلسطين من بحرها إلى نهرها، ومن بلاد الشام، وشجرة الأرز وفيروز من لبنان، والمآذن من مكة والمدينة؟ والأهرامات من البركل والجيزة وأبو الهول، والصمغ العربي والتبلدي من بوادى كردفان ودار فور، ونهر النيل والثورات من الجزائر وتونس والسودان، والإيمان والعطور من اليمن، والأصداف واللآلئ من البحرين وعمان، والملح من غور الأردن.
وكيف تتخلى المناضلة جميلة بوحيرد، عن الثورة الجزائرية، لأنها تزوجت محاميها الفرنسي، ولن يغفر الليبيون جريمة اغتيال الشهيد الحي عمر المختار، الذي في صفحة الخلود مقولته الباذخة: (سيقاتلكم أحفادي من بعدي، فنحن قوم لا نستسلم، ننتصر أو نموت) ولو أقامت إيطاليا جسراً على المحيط، بينها وطرابلس. ولن يغيب الشعر العربي من بحوره، ومربده، ولن تنسى تونس ما قاله أبو القاسم الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة… فلا بد أن يستجيب القدر
صحيح أن المعارك ضارية، والساحات متعددة والأزمات عميقة، وركام التخلف يغطي الكثير من زوايا النظر، ولكن النفوس عطشى، لوحدَتِها وآمالها ولأدواء آلامها وكنوز تاريخها، ومجد أمتها، ورسالتها الخالدة المتجددة، ومستقبل شعبها ومصيرها المشترك.
(3)
(إن الأمة التي ليس لها تاريخ لا تستطيع أن تحفز ابناءها لمستقبل أفضل) هكذا لخص الشهيد صدام حسين موقفنا ودورنا من المعارك الحضارية ومصير الإنسانية، فالبشرية في قاراتها الست تعمل وتجتهد، لتقدم ما عندها، والعرب في أقطارهم المتعددة، بوحدتهم المأمولة، لديهم ما يقدمونه، إذا أتيحت لهم فرصة التعبير عن ذاتهم، والإفصاح عن مخزون قدراتهم بالنضال، (خذوا الأمة في حالة نضال تجدوها بين أرقى الأمم) تلك هي الحقيقة الحية التي اكتشفها القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق.
إن ما حدث في بطولة كاس العالم الاخيرة، مشهد جدير بالتأمل واستخلاص العبر وتجربة فريق المغرب، فيها تستحق الدراسة الفاحصة والدعم والمؤازرة والبناء عليها في مجالات أخرى غير الرياضة، ليعرف العرب، وشبابهم، قبل شعوب العالم، ما تخبأه صفحات التاريخ من كنوز.
(4)
وصحيح أيضاً، أن العالم اليوم، غابة متشابكة، ومصالح متقاطعة، ومحاور متعادية، وشركات عابرة، وشراكات متعددة، وثقافات متنوعة، ونزعات للهيمنة ، ولكن للعرب ما يقدمونه في هذه المائدة الكونية، استناداً على حلقات تاريخهم الزاخر بالتجارب والمعارف والفنون ومنجزات العقول على مدى 1400م عام، واستعداد نفسي ومعنوي ونضالي، تفصح عنه المقاومة المسلحة الباسلة وعملياتها المتجددة دوما في فلسطين وكل ضروب صمود شعبنا الفلسطيني الأخرى، والانتفاضات الشعبية السلمية المتواصلة في أكثر من ساحة، ومقاومة شعبنا العربي في الأحواز للمساهمة في عرس الكون الثقافي والحضاري إذا أتيحت لهم فرص تجميع قواهم وتسخير مواردهم وخيراتهم، لصالح وطنهم، ومستقبل أجيالهم أولا، ثم لصالح البشرية كلها ثانيا. فهي أمة العطاء المتجدد المتخطي دائما لحدودها نحو رحاب الإنسانية، بالحق والخير، لتجديد القيم الروحية والمعنوية، وإحيائها، وإتمام مكارم الأخلاق.
(5)
لماذا؟ لأن أرضهم، أرض الحضارات، فيها مركز الكون، ومهبط الانبياء والرسل كلهم، واحتضنت خاتمة الرسالات، وفيها سلة غذاء العالم، وفيها مصادر الطاقة الرئيسة، وملتقى الامم والشعوب والأنهار والبحار والقارات ولذا يتكالب عليها الأعداء والأصدقاء، وكثرت المؤامرات وتعددت الفتن، حتى لا يخرج المارد العربي عن السيطرة وينافس الشعوب التي ظنت نخبها أنها احتكرت التقدم وناصية الحقيقة وأنها ظل الله في الأرض، وشعبه المختار.
إن أشواق الوحدة فياضة نتاحة، في كل قُطْر، تعلو أمواجها وتهبط، وهي ليست جديدة في نفوس الجماهير الشعبية، من المحيط إلى الخليج، وإن كثر المخذلون، وتواطأ الحكام (السلطويون) وتآمر المحتلون والمستعمرون. فالوحدة ستشرق شمسها يوما ما، لأنها الحقيقة المفصحة عن حقيقة الأمة وهويتها القومية التحررية، مثلما أشرقت ثورات وانتفاضات الكادحين في أم درمان ومقرن النيلين، وبين النهرين، وفي القصرين، وبيروت وساحات الشهداء على امتداد الوطن العربي الكبير. وكما قدم العرب الحدث العالمي الكروي في نسخة نابضة بالحيوية والجِدّة، وفق هويتهم الحضارية والثقافية، قدمت المقاومة الفلسطينية والانتفاضة ذات الطابع الثوري السلمي في السودان والعراق، خلاصة للانتفاضات الشعبية، كظاهرة نضالية بآفاقها الإنسانية، ومضامينها الأخلاقية.