من بين حقول أشواك الاستيطان
تنبتُ أزهار شُهداء فِلسطين
حسن خليل غريب
صباح الخير يا خيري.
صباح الخير يا ابن العشرين ربيعاً.
كل صباح وربيعك سوف يُزهر في حقول فلسطين.
وكل صباح سوف يكون مُرَّاً علقماً على من اغتصب أرضك، أرض والدك، وأرض جدِّك، وأرض جدِّ جدِّك.
لقد حافظت يا خيري، يا شهيد فلسطين والعروبة والإنسانية على قوة الحنين إلى وطن اغتصبته الصهيونية منذ أكثر من سبعين سنةً. وهذا ينفي ما يُؤكده علماء النفس والاجتماع من أنه يمكن تطهير النفس من غريزة الحنين إلى شيء سبق، بعد تربية جيل أو جيلين من العمل على تنظيفها مما علق بها عبر عشرات الأجيال التي سبقتها. ويتحقق هذا الفعل إذا انتزع المبيِّضون من ذاكرة الأجيال الجديدة حالة الشعور السابق وغرس نزعة شعور جديدة.
بعد عشرين سنةً من التاريخ الذي قتلوا فيه جدَّك، وبعد أكثر من سبعين سنةً من اغتصاب فلسطين، استراح المستوطنون الصهاينة أنهم انتزعوا منك الحنين إليه، وإلى حنينه إلى أرضه. ولكنك أثبتَّ العكس مما يقولون.
والسبب أنه كان من الممكن أن يحصل هذا لو استطاعوا أن ينتزعوا ذاكرتك، التي هي عبارة عن ذاكرة فلسطين، التي تناقلها الابن عن الأب، والأب عن الجد. ولأن انتزاع الذاكرة لن يحصل طالما بقي من يغرسها مُلِحَّاً على نقلها من جيل إلى جيل.
ولأن ذاكرة الشعب الفلسطيني، منذ احتلال فلسطين لأجيال سبعة مضت اتَّصلت إليك، في البيت الأسري، وفي الشارع، وفي عموم فلسطين، وفي أماكن التهجير، والشتات في كل أصقاع الأرض، بحيث أصبحت رسالة لكل فلسطيني…
لكل ذلك لم تمت ذاكرتك، ولم يستطيعوا محوها وتبديلها بأشياء أخرى. ظلَّ الحنين لموت جدِّك حيَّاً، وظلَّت ذاكرتك مشدودة إليه، تغذِّيها ذاكرة فلسطينية لن يطفئ أوارها مرور الزمن، وهي لا تزال تتَّقد باستمرار. وستبقى حبلى بالغضب ممن اغتصبها، وعدَّها (أرضاً للميعاد).
لقد شنَّوا حرباً صليبية وتوراتية لاستعادة أرض تركها أجدادهم منذ آلاف السنين، وزعموا أن الله اختارها لهم. فاعتبروها تارة أنها أرض لموسى، وتارة أخرى للمسيح. لم تكن فلسطين يوماً ما محسوبة على دين أو على مذهب، فهي أرض الله أعطاها لمن سكنها منذ الأزل، قبل أن يأتي موسى ويبني حائطاً فيها. وقبل أن يأتي المسيح ويُنشئ موقعاً لكنيسة القيامة. وقبل أن يأتي محمدٌّ صل الله عليه وسلم ويؤسِّس للمسجد الأقصى.
إن أرض فلسطين التي اختزنت تاريخاً لكل تلك الرسالات الدينية، اختزنت قبلها وعد الله لبني البشر الذين سكنوها وبنوها وشيَّدوا حضارتها. وسوف تبقى كذلك غير معروضة للاغتصاب تحت أي زعم أو ادِّعاء. في عصر ما سمَّته مصطلحات الصهاينة، وأرباب الصهاينة، بـ(التطبيع)، والخاضعين لعامل الخوف من الصهيونية، لم يكِّلف الله أي واحد منهم، بتحويل الاغتصاب إلى حق. وكيف يتحوَّل الحق إلى باطل؟
لم تعد أرض فلسطين أرضاً فلسطينية محسوبة على دين بعينه، فهي لكل الأديان من دون استثناء. بل تجاوزتها إلى اعتبارها أرضاً عربية بما لمفهوم اغتصابها من أبعاد قومية، وهي منذ بداية احتلالها كانت تشكِّل الخطوة الأولى لاغتصاب الأرض العربية لاحقاً. واتَّخذت أبعاداً إنسانية لتناقضها مع التشريعات التي تعترف بحق كل أمة في تقرير مصيرها.
يا خيري، يا من أنبتته الذاكرة الفلسطينية ليكون شهيداً على طريق الجلجلة لعشرات السنين..
يا شهداء فلسطين، يا من ابتدأتم تحتلون مواقعكم في لوائح شهداء التحرير منذ وطئت أقدام الغاصبين أرضكم..
أنتم الذين كلَّفكم الله بالدفاع عن الأرض التي سكنها أجدادكم منذ بدء الخليقة حتى الآن..
أنتم أصحاب القرار، وليسَ من راحوا يعملون لتطبيع العلاقة بين الغاصب والذي اغتُصِبت أرضه. لقد رفضتم أن تتساوى الضحية مع الجلاد.
كلكم، جميعاً، أصحاب القرار. فليوقِّع من أراد تحت وهم الخوف على موقعه في السلطة أو من تهديدات خارجية. وليتصرَّف بقضيتكم من أراد، لأن توقيعه سيبقى حبراً على ورق.
دماؤكم الحمراء سوف تطمس حبرهم الأسود.
أنتم أسياد على الأرض ما دمتم ثابتين عليها.
أنتم لا تحتاجون إلى صاروخ أو دبابة أو طائرة، ولا إلى المئات من ألوف الجنود الرسميين..
كل واحد منكم، من دون تكلفة فلس واحد، يساوي لواء يكلِّف مئات الملايين من الدولارات. فعندكم الحجر والسكين والمسدس.
لقد تغيَّرت مفاهيم الحرب الشعبية التي عرفناها في الماضي. فالآن لم تعد بحاجة إلى فيالق وألوية وملايين الدولارات، فهي تحتاج إلى حجر على الأرض، أو سكين موجود في المطبخ، أو إلى مسدس لا يكاد يخلو منزل منه.
ولا تحتاجون إلى تصريح بالمرور على نقاط التفتيش الأمنية على الحدود الفاصلة بين فلسطين والأقطار الأخرى، أو تقفزوا فوق الجدران العالية التي تفصل الكيان الصهيوني عنها. فالمقاومة الشعبية، بحاجة إلى الإيمان بالأرض، والإيمان بدولة توفِّر حياة شريفة وآمنة.
سلاحكم، حنين إلى وطن آمن، خالٍ من الاغتصاب، والاضطهاد، والاستيلاء على الدور والحدائق والحقول.
سلاحكم ذاكرة لا تنسى، وأنتم الآن تحت سمع العالم وبصره تتعرَّضون إلى شتى أنواع الجرائم. يحصل لكم كل ذلك، ولا ضمير رسمي يهتز.
سلاحكم، قلب طلَّق الخوف، لأنكم تبحثون عن وطن ضاع، وليس عن سلطة وكرسي في تلك السلطة.
يا خيري، ويا كل الشهداء الذين سبقوا، وكل الشهداء الذين سيلتحقون بكم. فيكم تكبر قلوب الشعب العربي، وهذا هو اليوم، يرقص فرحاً، لأنكم تقتصُّون لهم ممن عاثوا في الأرض العربية فساداً وجريمة وتجويعاً وامتهاناً بكرامتهم وحقوقهم.
سيروا على الدرب، ولا تأبهوا لمؤامرة من هذه الدولة أو تلك. ولا تأبهوا لتوقيع رسمي عربي من هنا أو هناك. بل أنصتوا إلى آمال الشعب الفلسطيني والعربي والعالمي الذي يتطلَّع إلى بطولاتكم لأنكم ستصبحون المثال الذي يشق لهم الطريق.
فما كان صعباً تصوره أمامهم أصبح سهلاً ممتنعاً أمامهم وهم يشاهدون كرَّكم وفرَّكم على شاشات التلفزيون.
لقِّنوا الدرس للصهاينة، ليتعلَّم من بلاغته كل من يقلِّدهم من القريب من دول الإقليم، والأبعد ممن أغرتهم مهانة من يفرِّط بالحق من الأشقاء العرب الأشقياء.
ونحن نتطلَّع إليكم، وعلى الرغم من أننا لا نستطيع أن نكون إلى جانبكم على أرضكم، ولكننا نرى ولو من البعيد أن حقول الأشواك التي غرستها اليد الصهيونية على أرض فلسطين أصبحت يانعة بالأزهار التي روتها دماؤكم.
وتاريخنا الذي ملأه العلقميون العرب بالخيانة سوف يزهر شرفاً بدماء الشباب العربي التوّاق للتحرير، والعاملون له من المحيط إلى الخليج.