في ذكرى يوم الشَّهيد العراقيّ / عِندَما تَكُونُ الشَّهَادةُ دِفَاعاً عَن الحَياة والهُويَّةِ الوَطنيَّة والقَوميَّة

في ذكرى يوم الشَّهيد العراقيّ

 

عِندَما تَكُونُ الشَّهَادةُ

دِفَاعاً عَن الحَياة والهُويَّةِ الوَطنيَّة والقَوميَّة

د. محمد رحيم آل ياسين

 

إنَّهُ يومٌ عظيمٌ خالدٌ من أيَّام العِراقيِّين والعربِ، مُزدانٌ بالمفاخرِ والعِزِّ والإباء، يومَ انتخى أبناء العراق الأوفياء الغيارى للدفاع عن العراق وهُويَّتهم الوطنيَّة والقوميَّة، فاندفعوا كالليوثِ الكواسر ليَصدُّوا عدوان الفرس الصفويِّين على البوّابة الشرقيَّة للأمة العربية، وليقطعوا دابر أرباب الشرّ في قُم وطهران، وليَحموا العراق هُويَّةً وأرضاً وشعباً وتاريخاً وثقافةً من عدوان بلاد فارس، وتحطيم غطرستهم وعنصريَّتهم وتجبّرهم وأحلامهم المريضة باحتلال العراق الأبيّ، وتصدير ثورتهم المشؤومة، ومحو هُويَّة العراق الوطنية والقومية.

 عندما يطلُّ علينا هذا اليوم التاريخي فإنَّنا نستذكر ذلك الحدث الجَلل وتلك الفِعلة الاجرامية التي أقدم عليها الجيش الإيراني المنهزم، وذلك بارتكابه جريمة شنعاء قام خلالها بقتل الأسرى من ضباطِ وجنودِ الجيش العراقي الوطني الباسل بما يزيد عن ألفٍ وخمسمائةٍ من المقاتلين الأشاوس، في جريمةٍ وَحشيَّةٍ لم تعرفها جيوش العالم في التاريخ الحديث، وكان ذلك اليوم هو الأول من شهر كانون لعام 1982م. ومنذ ذلك التاريخ والعراقيّون الأصلاء يُثبِّتون على صدورهم شارة الشَّهيد، وهي عبارة عن صورةٍ لنصب الشَّهيد، ذلك المَعلَم المعماري العظيم، ذا المعاني الانسانيَّة الرَّاقية والذي وجَّه الرفيق القائد شهيد الحج الأكبر صدَّام حسين رحمه الله بتشيِّيده، وهو صاحب فكرة هذا الرَّمز الوطني الذي يُخلِّد شهداء العراق، موسومة بمقولته: “الشُّهداءُ أكرَمُنا جميعاً” تعبيراً عن قدر الشُّهداء ومنزلتهم الراقية عند ربِّهم تعالى وبيننا جميعاً.

قد يتصوَّر البعض أنَّ يوم الشَّهيد العراقي مُرتبطٌ بمعركة قادسية العرب الثانية، والحقيقة أنَّ قضية الشهادة من أجل الهُويَّة الوطنية وهُويَّة الأمة لها تاريخٌ مُمتدٌّ وليست مُحدَّدةٌ بقضيَّةٍ أو حدثٍ تاريخيٍّ بعينه وفي زمن خاص، بل هي قضيةٌ سَطَّرها أبناء العراق والأمة في تاريخهما القديم والحديث، فالشَّهيد العراقي ينعم بجنان الخُلد كما الشَّهيد العربي في فلسطين العربية ومصر والجزائر والأردن وسورية ولبنان والسودان واليمن وموريتانيا وكل أقطار العرب، وهُم بيننا أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقون. فشُهداء المقاومة الفلسطينية هُم شُهداء الأمة، وكلّ شُهداء العروبة الذين ضَحُّوا بأنفسهم في معارك العرب الكبرى، دفاعاً عن أرض فلسطين المغتصبة والأراضي العربية المُحتلة ابتداءً من معارك العرب في العام 1948م، ومروراً بحرب تشرين عام1973، وما تلاها من مواجهات كبرى بين ابناء الامة العربية واعدائها في كل مكان من الوطن العربي.

 

شُهداء العِراق والأمَّة تَجلياتٌ مُشرِّفة

ولو تَعمَّقنا في تجلِّيات هؤلاء الشُّهداء العرب لوجدناها واحدةً في كلّ غاياتها وأهدافها، فهي دفاعٌ عن العروبةِ وانتصارٌ للهُويةِ القوميَّة للأمة. لم يكن الشَّهيد العراقيّ هو شهيد الحرب الإيرانية العراقية حسب، بل هو شهيد الوحدة الوطنيَّة العراقية، عندما قاتل وأُستُشهِد الألوف من أجل وحدة الشعب العراقي ولُحمته الوطنية، في شمال العراق العزيز، وهو شهيد معارك العرب الكبرى مع العدو الصهيوني، وشهيد التصدِّي للغزو الأمريكي الغاشم ومَن تحالف معه في هذا العدوان من أرباب الشرّ في العالم، وهو شهيد المقاومة الوطنية الباسلة التي أذاقت المحتل المجرم العذاب الهُون، حتى ولَّى هارباً من العراق يَجرّ أذيال الخيبة والخسران، يَئنُّ من جراحه النازفة، فكان للمقاومين الأبطال الفضل الكبير في الحفاظ على هُويَّة العراق الوطنية والقوميَّة.

 والشَّهيد العراقي هو شهيد أبناءنا الشباب في ثورة تشرين الذين انتفضوا وثاروا على الطائفية السياسية، والفساد والظلم، فهذه الطائفية هي نتيجة منطقية للفساد السياسي والاداري والأخلاقي والمالي، فقد شعر هؤلاء الشباب السلميِّين أنَّ هُويتهم الوطنية والقومية تَمرّ بمرحلة تاريخية خطيرة، لذلك كانت تضحياتهم بالآلاف من الشهداء والجرحى والمُصابين، كيما يحافظوا على هُوية العراق الثقافية والتاريخية والاجتماعية والقيَميَّة. أُستُشهِد هؤلاء الشباب بعد أن رفضوا تفتيت وطنهم وتهميش هُويتهم الوطنية والقومية. لقد قاتل العراقيّون ونالوا شرف الشَّهادة من أجل أن تبقى هُويَّتهم هي الهُويَّة الجامعة لكلّ العراقيِّين بكلِّ مشاربهم ونحلهم وأعراقهم وأديانهم ومذاهبهم، وليتَصدّوا لتَحوَّل العراق الى هُويَّاتٍ (جزئية) وفرعيةٍ بديلاً عن الهُويَّة الوطنيَّة الجامعة، وتالياً يتمّ التجاوز على الهُوية الجامعة وتذويبها وهدرها.

استُشهِد الأُلوف من العراقيِّين كيما لا تَتآكل المُوحِّدات الوطنية التي يجتمع فيها ومن خلالها العراقيّون تاريخياً، فالصراع العربي الصهيوني، والصراع العربي الفارسي هو صراعُ وجودٍ وحياةٍ، وصراعُ هويَّةٍ، قبل أن يكون صراعاً سياسياً أو جغرافياً أو صراع على حدودٍ وأرض وحسب، بل هو صراعٌ تاريخيٌّ على الهُويَّة القوميَّة، والهُويَّة الثقافية والتاريخيَّة والاجتماعية والقيَميَّة. لأنَّ كِلا العَدُوَّين يستهدفان قبل كلّ شيء نزع هُويَّتنا القومية والثقافية، من هنا فشُهداء العروبة قد عبَّدوا طريق النصر، ومَهَّدوا طريق التَحدِّي والمُواجهة والتَصدِّي لمآرب وأهداف الصهاينة والفرس (مُجتَمِعَين).

لقد دافعَ العراقيّون عن البوَّابة الشرقية للأمة بأرواحهم الطاهرة ودمائهم الزكيَّة ضدَّ العدوان الإيراني الفارسي، نيابةً عن العرب جميعاً، هذا العدوان الذي لم يكن يستهدف التراب العراقي والهُوية الوطنية وحسب، بل كان ولم يزل يَسعى خاسئاً لمحو وشطب انتماء العراق لأمته العربية المجيدة. كما يجري اليوم في ظل الاحتلالَين الأمريكي والفارسي الصفوي، وبإسناد ومباركة من حكومة الاحتلال وأحزابها الولائية المجرمة.

وقد يتساءل القارئ الكريم وما الهُويَّة التي من أجلها يُضحِّي الشهداء بأرواحهم ودمائهم؟!

والحقيقة أنَّ الهُوية تُمثِّل إرادة الوجود والحياة للإنسان في أيِّ زمانٍ ومكان، وهي منظومة القيَم التي يحيا بها ومن اجلها والتي تحدد طبيعة مستقبله ومستقبل الاجيال من حوله. لذلك فهي تَستحقّ التضحية من أجلها والاستشهاد في سبيلها، لأنَّها تُعبِّر عن حقيقة الانسان، وصفاته التي يَتَميَّز بها عن غيره، ومن خلالها تظهر شخصيَّته التي تَتمثَّل في لغته ودينه وتاريخه وتراثه وقيَمه، من هنا لا يمكن أن نتَصوَّر شعباً دونما هُويَّة. فهذه الهُويَّة هي مجموعة السِّمات الرُّوحية والفكرية والعاطفيَّة للمجتمع التي تَميَّزه عن غيره، وتحدد طبيعة مستقبله بين المجتمعات والشعوب، من خلال طرائق الحياة ومنظومة القيَم والتقاليد والمعتقدات، وفيها تجتمع: العناصر التاريخية من وقائع وأحداث ماضية في الزمن القريب والبعيد، والعناصر الثقافية من عقائدٍ وأديانٍ وسماتٍ نفسيةٍ ونسقٍ مُتجانسٍ من القيَمِ، والعناصر النفسية التي تعتمد الأسس الاجتماعية من قدرات وامكانات وانتماءات، وتحديات الواقع المتشابهة، ووشائج التطلعات المصيرية والمستقبلية المشتركة، أفبعدَ ذلك ألا تَستحقّ الهُويَّة الوطنية والقومية الاستشهاد في سبيلها؟!.

ويلحق بما سبقنا عن منزلة الهُويَّة وقيمتها العظيمة في قضية واقعيَّة وهي أنَّها أيّ الهُويَّة تتضمن ثلاثيَّةً متلازمةً، تتَمثَّل في الوطن، الدولة، والأمة. فالوطنية هي حب الوطن، والقومية حب الأمة وكلاهما شعورٌ بارتباطٍ باطنيٍّ بهما. من هنا وجدنا أعداء العراق والأمة من أرباب الشرّ من صهاينة وفرس يستهدفون أول ما يستهدفون في عدوانهم الهُويَّة الوطنية لأقطار العرب وهُويَّتهم القوميَّة، وبالتالي فليس هناك من خيارٍ لأبناء العروبة الأوفياء، إلَّا الدفاع والاستعداد للتضحية بالأرواح والمُهَج في سبيل الحفاظ على هُويَّة الأمة.

 

الشَّهيد والقِيادة في نفسِه ومجتمعِه

ليست القيادة في النفس والآخرين إلَّا لمَن يستحقّها بجدارةٍ، والشَّهادة هي قيادةٌ للنفس نحو الاندفاع والاقدام واقرار التضحية والفداء في النفس أولاً في سبيل الوطن والأمة وهُويّتهما. والشَّهيد هو انسانٌ مُتَصالحٌ مع نفسه ومجتمعه ووطنه وأمته، من هنا وجدناه يبذل النفس والدمّ الزكيّ في سبيلها دون تَردّد أو ضعف، فهو لا يعرف التَقهقر والهزيمة، فأمَّا النصر ودونه شهادة تسرّ الصديق وتغيظ العِدى. وفي تاريخنا العربي كمٌ هائلٌ من الاحداث والشواهد والوقائع الحقيقية التي تروي لنا مآثر من مشاهد التضحيات الجسام من أجل الأمة وهُويَّتها العربية.

إنَّنا اليوم نعيش في أسوأ حالٍ تَمرّ به الهُويَّة الوطنيَّة والهُوية القوميَّة في العراق وسوريا وليبيا ولبنان واليمن، في ظلِّ تَهميشهما ومحاولة إلحاق الضرر بهما، بإشاعة الانتماءات الطائفية والعِرقيَّة، والولاءات خارج الحدود، خاصة دولة الملالي سيِّئة الصيت في محاولاتٍ خبيثةٍ في العراق لتجفيف المنابع التي تُغذِّي الهُويَّة الوطنية، ومنها عدم الاحتفاء بيوم الشَّهيد، واهمال الاهتمام به كما يجب عن قصدٍ وسوء نيَّة من قبل الحكومات العميلة المُتَتالية، لأنَّهم لا ينتمون للعراق والأمة، وتالياً فهُم ليسوا من الوطن في شيء.

الرَّحمة والخلود لشهداء العراق والأمة العربية والبعث الذين قدَّموا أرواحهم قرابينَ فداء فنالوا الشَّهادة دفاعاً عن الارض والعرض وعن هُويَّتهم الوطنية، وعن الأمة وهُويَّتها القوميَّة، وفي مقدِّمتهم شهيد الحجّ الأكبر الرفيق القائد صدَّام حسين، والرفيق القائد عزة ابراهيم رحمهما الله تعالى، وفي عليِّين وفي مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتَدر..

 

د. محمد رحيم آل ياسين  –  عِندَما تَكُونُ الشَّهَادةُ دِفَاعاً عَن الحَياة والهُويَّةِ الوَطنيَّة والقَوميَّة

https://www.thiqar.net/Art.php?id=61230

 

Author: nasser