قراءة في البيان رقم (1)
الصادر عن المجلس الوطني لقيادة الثورة في الثامن من شباط 1963
ناصر الحريري
الجماهير أداة الثورة وهدفها، بل هي مبرر وجودها وسر من أسرار ديمومتها، وبدونها لا تعني الثورة شيئاً، ولا يمكن أن تكون إلا خواء قاتلاً وهيكلاً هزيلاً متداعياً. والجماهير ليست بحاجة لدعوة كي تنخرط في الحركات الثورية، فهي تجد نفسها في صفوف الحركات الثورية بحكم انسجامها معها مصيرياً، وانتقال الجماهير إلى صفوف الحركات الثورية يساهم بشكل واضح وجلي في تحقيق تطلعاتها وآمالها.
إن حزبنا حزب البعث العربي الاشتراكي كواحد من الأحزاب الثورية التي تشرفت بتحمل مسؤوليات النضال، انطلق من الجماهير هدفاً ووسيلة، وآمن بالخلق الثوري الذي اعتمد الإنسان الانقلابي الثائر على المفاسد في نفسه قبل غيره.
إن حزبنا في مسيرته الطويلة قد عمق مفاهيمه الثورية، وأكد أن البعثي ليس مجرد منتسب الى حزب سياسي، فالبعثي هو الثوري، وهذا يفرض عليه أن يمثل الثورة في سلوكه، اي أن يكون صورة مصغرة لتلك الثورة.
ولقد كان حزب البعث العربي الاشتراكي وسيبقى حركة ثورية تسعى إلى ترجمة أهدافها الثورية إلى حيز الواقع، ومن هنا فإن النضال الحاسم الذي يمارسه البعث قد اصطدم بكثير من المعوقات والتحديات إن كان على المستوى القطري أو القومي، ففي العراق واجه البعث أنظمة ديكتاتورية قمعية، فتعرض مناضلوه إلى الاعتقال والترهيب، لأنه كان يمثل الإرادة الجماهيرية الساعية إلى بناء دولة قادرة على تحمل مسؤولياتها الداخلية والخارجية، فكان البعث هو الحركة القومية الثورية الوحيدة التي انطلقت على هدى إيديولوجية متكاملة تعبر عن طموحات الامة العربية والجماهير الثورية من خلال اهداف كبرى هي الوحدة والحرية والاشتراكية، وتعتمد الثورة وسيلة لتحقيق تلك الطموحات والاهداف الاستراتيجية.
وتجسيداً لكل ذلك فقد تمكن حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق من تفجير ثورةٍ اتسمت بأخلاق ثورية وثّابة عبرت عن طموح وتطلعات الشعب العراقي تحقيق تلك الاهداف الكبرى وفي التخلص من نظام ديكتاتوري قمعي شعوبي، ممثلاً بنظام عبد الكريم قاسم الذي كان يتجه بالعراق إلى الهاوية.
لقد فجَّر حزب البعث العربي الاشتراكي في الثامن من شباط، الرابع عشر من رمضان عام 1963، ثورةً ما زالت تكنّى بعروس الثورات، لأنها تمكنت من استعادة العراق إلى وجهته العربية والجماهيرية والقضاء على السلطة الفردية المطلقة التي كان يمثلها الحكم القاسمي، فأصبحت السلطة بيد الشعب والجماهير الثورية التي هي جزء من امتها العربية تتفاعل معها وتسخر كامل امكاناتها لخدمتها ومواجهة تحدياتها ونصرة قضاياها.
بعد نجاح ثوار العراق في تفجير ثورة شباط والقضاء على الحكم الديكتاتوري الشعوبي المجرم، أصدروا البيان رقم (1) الذي أعلنوا من خلاله استراتيجية الثورة الكبرى وخططها العملاقة على الاصعدة الوطنية والعربية والعالمية. كما اعلنوا فيه نجاح الثورة واسقاط النظام القاسمي الدموي.
وفي قراءة عميقة للبيان الصادر في الثامن من شباط عام 1963، والذي صدر باسم (المجلس الوطني لقيادة الثورة)، لا بد لنا من اعتماد الموضوعية والحيادية في تحليل مفرداته .
بدايةً لا بد لنا من ملاحظة أن إصدار البيان باسم المجلس الوطني لقيادة الثورة يعني أن الجهة المعبِّرة عن الثورة ليست جهة فردية، وانما هي قيادة وطنية جماعية، فلم يصدر البيان باسم شخص أو حزب او مكون واحد فقط من مكونات الشعب العراقي. ولقد وجّه المجلس الوطني لقيادة الثورة بيانه إلى جماهير الشعب العراقي الكريم، بكل مكوناته القومية والإثنية، وكل شرائحه المجتمعية، موضحاً أسباب القيام بالثورة بما يلي :
( لقد تم بعون الله القضاء على حكم عدو الشعب عبد الكريم قاسم وزمرته المستهترة، التي سخرت موارد البلد لتطمين شهواتها وتأمين مصالحها، فصادرت الحريات، وداست الكرامات، وخانت الأمانة، وعطلت القوانين، واضطهدت المواطنين.
يا أبناء الشعب الكرام:
قامت ثورة الرابع عشر من تموز لتحرير وطننا من الأوضاع الاستعمارية المتمثلة بالحكم الملكي، وسيطرة الاقطاع وسياسته، ومن التبعية، ولتحقيق أوضاع ديمقراطية، ينعم فيها الشعب بحياة كريمة، ولكن عدو الله وعدوكم المجرم والخداع استغل منصبه واندفع بكل الوسائل الدنيئة والأساليب الإجرامية لإقامة حكمه الأسود الذي أفقر البلاد وصرع الوحدة الوطنية، وعزل العراق عن ركب العروبة المتحررة وطعن أماني شعبنا القومية).
لقد تضمن بيان المجلس الوطني الأسباب الموجبة للثورة على نظام عبد الكريم قاسم والقضاء عليه، معتمداً على إرث ثورة الرابع عشر من تموز التي أسقطت النظام الملكي والتبعية للاستعمار، ووضح البيان بعضاً من تلك الأسباب، فعلى الصعيد الداخلي كانت:
- افقار البلد، وتهديد الوحدة الوطنية.
- تسخير موارد البلد لتأمين مصالح النظام.
- مصادرة الحريات.
- إهانة كرامة الشعب العراقي.
- خيانة الأمانة المتمثلة بمبادئ ثورة 14 تموز.
- تعطيل القوانين واحلال الفوضى بدلاً عنها.
- اضطهاد المواطنين.
وعلى الصعيد العربي القومي حدد البيان الأسباب بما يلي:
- عزل العراق عن ركب العروبة المتحررة
- طعن أماني الشعب العراقي القومية.
ونلاحظ مما ورد آنفاً أن الثورة أعادت الإعتبار للحقيقة المتمثلة في انتماء العراق وشعبه إلى الأمة العربية وتجذر المنطلق قومي فيه. وهو ما يعبر عنه البعث في أدبياته ودستوره ومبادئه، من أن العراق هو جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، والشعب العراقي هو جزء وامتداد للأمة العربية على مساحة الوطن العربي الكبير.
ثم يتابع البيان: (إن حرصنا على سلامة وطننا، ووحدة شعبنا، ومستقبل أجيالنا، وإيماننا بأهداف ثورة تموز العظيمة، قد حمّلنا مسؤولية القضاء على الطغمة الفاسدة التي تسلطت على ثورة الشعب والجيش، فأوقفت مسيرتها، وعطلت انطلاقتها، وقد تم ذلك بمؤازرة كافة القوات المسلحة الوطنية، وتأييد جماهير الشعب).
ومن ذلك فقد ركز بيان المجلس الوطني لقيادة الثورة على القضايا الوطنية الكبرى التالية والتي شكّلت أسباب أساسية للثورة ومنطلقاتها بعد ان تعرَّضَت
تلك القضايا الجوهرية التي تشكِّل أعمدة ومقومات الوطن والدولة الأساسية الى التهديد المباشر من قبل نظام قاسم، وهي :
- سلامة الوطن.
- وحدة الشعب.
- مستقبل الأجيال.
- تحقيق مبادئ واهداف ثورة 14 تموز العظيمة
- النهوض بالعراق وشعبه العظيم.
لقد كان الحرص على سلامة الوطن ووحدة الشعب بكل مكوناته وبناء مستقبل مشرف للأجيال القادمة من المحفزات والدوافع للقيام بالثورة، فليس هناك أهم من الوطن وسلامتة اراضيه، والشعب ووحدته ومستقبل أجياله حتى يتم تقديم التضحيات لأجل ضمان تحقيقها وصيانتها.
كما يشير البيان صراحة إلى أن الجيش العراقي، وقواته المسلحة شاركت وآزرت الثورة ضد الطاغية، لأنها تنبثق من الشعب، فلا يمكن أن تكون القوات المسلحة العراقية إلا في صف الشعب، والحامية لطموحه وتطلعاته.
ويتابع البيان:
(إن هذه الانتفاضة التي قام بها الشعب والجيش من أجل مواصلة المسيرة الظافرة لثورة تموز المجيدة، لابد لها من إنجاز هدفين، الأول تحقيق وحدة الشعب الوطنية، والثاني تحقيق المشاركة الجماهيرية في توجيه الحكم وإدارته، ولابد من إنجاز هذين الهدفين الاثنين من إطلاق الحريات وتعزيز مبدأ سيادة القانون.
إن قيادة الثورة المتمثلة بالمجلس الوطني لقيادة الثورة، إذ تؤمن بهذا وتعمل على تحقيقه، تؤمن كذلك بما يزخر فيه الشعب من روح وطنية وثّابة وما يتحلّى به من عزم ثوري، وما يتصف به من وعي عميق، لذا نحن نأمل أن يترفع المواطنون في هذا اليوم المبارك عن الضغائن والأحقاد، وأن يعملوا
جميعاً على ترسيخ وحدتهم الوطنية، وتقوية التفاهم حول أهداف ثورة تموز المجيدة، وألا يدعوا منفذاً لعميل أو مفسد ومأجور يسعى فيه للتفرقة).
مما تقدم نلاحظ أمراً مهماً، هو أن المجلس الوطني لم ينسب القيام بالثورة له وحده، بل أكد على حقيقة مفادها أن الجيش والشعب هما من قام بالانتفاض، كما أن الجميع مشاركون في تحقيق الأهداف الأسمى للثورة، وهي تحقيق وحدة الشعب الوطنية، بكل ما يمثّله الشعب من قوميات واثنيات.
ويشير البيان إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي المشاركة الجماهيرية في توجيه الحكم وإدارته، دون استئثار من جهة معينة، وهو ما يفضي إلى إطلاق الحريات ووضع حد للفوضى السائدة بتعزيز مبدأ سيادة القانون، ليكون الجميع أمام القانون سواسية.
لقد أسقط بيان المجلس الوطني لقيادة الثورة كل الرهانات التي كانت تطلق مدّعية أن الثورة ستمارس أعمالاً انتقامية عشوائية ضد نظام عبد الكريم قاسم وزمرته وكل من مارس العنف والهمجية والقتل ضد الشعب العراقي ورجال العراق الوطنيين، فقطع البيان الطريق على هؤلاء داعياً بكل وضوح الى أن يترفع المواطنون عن الانتقام وعن الضغائن والأحقاد، وأن يعملوا جميعاً على ترسيخ الوحدة الوطنية، مؤكداً على ان الشرعية تبقى ممثلة بأهداف ومبادئ ثورة 14 تموز المجيدة.
إن ما تؤشر إليه هذه الدعوة من نبذ الأحقاد والضغائن إنما هو دليل قوي على أن الثورة إنما جاءت لتخلص الشعب، كل الشعب، من الظلم والاضطهاد والاستبداد، وتسعى لبناء مجتمع عراقي تغيب عنه الأحقاد والكراهية، لأنها حملت النظام بما يمثله من أشخاص قِلّة مسؤولية ما حدث في العراق.
كما يشير البيان إلى الأهداف الأخرى التي تسعى الثورة إلى تحقيقها، تلبية لتطلعات الشعب العراقي، حيث يذكر البيان:
(إن المجلس الوطني لقيادة الثورة يعمل على إقامة حكومة وطنية من المخلصين من أبناء الشعب، ومن المخلصين من أبناء هذا الوطن، وستكون سياسة حكومة الثورة، وفقاً لأهداف ثورة تموز المجيدة، لذا فإن الحكومة ستعمل على إطلاق الحريات الديمقراطية، وتعزيز مبدأ سيادة القانون، وتحقيق وحدة الشعب الوطنية بما يتطلب لها من تعزيز الأخوة العربية الكردية، بما يضمن مصالحها القومية ويقوي نضالهما المشترك ضد الاستعمار واحترام حقوق الأقليات وتمكينها من المساهمة في الحياة الوطنية . كما إنها تتمسك بمبادئ الأمم المتحدة، والالتزام بالعهود والمواثيق الدولية، والمساهمة في تدعيم السلام العالمي ومكافحة الاستعمار بانتهاج سياسة عدم الانحياز، والالتزام بقرارات مؤتمر باندونغ، وتشجيع الحركات الوطنية المعادية للاستعمار وتأييدها، كما إن قيادة الثورة تعاهد الشعب على العمل نحو استكمال الوحدة العربية، وتحقيق وحدة الكفاح العربي ضد الاستعمار والأوضاع الاستعمارية في الوطن العربي، والعمل على استرجاع فلسطين المحتلة، وستحافظ على المكتسبات التقدمية للجماهير وفي مقدمتها قانون الإصلاح الزراعي وتطويره لمصلحة الشعب، وإقامة اقتصاد وطني يهدف إلى تصنيع البلد وزيادة امكانياته المادية والثقافية، كما سيؤمن تدفق البترول إلى الخارج).
يوضح هنا البيان أن المجلس الوطني لقيادة الثورة غير معني بالاستئثار بالحكم، وإنما هدفه الرئيسي هو إقامة حكومة وطنية، يشارك فيها كل المخلصين الشرفاء من أبناء العراق. وحدّد البيان الأهداف الإستراتيجية الكبرى السياسية والتنموية التي ستسعى الحكومة إلى تحقيقها على المستوى الوطني والقومي والعالمي.
فعلى صعيد الداخل الوطني تم تحديد الاهداف التالية :
- إطلاق الحريات الديمقراطية.
- تعزيز مبدأ سيادة القانون.
- تحقيق وحدة الشعب الوطنية بما يتطلب لها من تعزيز الأخوة العربية الكردية، بما يضمن مصالحها القومية ويقوي نضالهما المشترك ضد الاستعمار.
- احترام حقوق الأقليات وتمكينها من المساهمة في الحياة الوطنية بفعالية.
- تطوير قانون الإصلاح الزراعي لمصلحة الشعب.
- تعزيز الصناعة و إقامة اقتصاد وطني يستند عليها.
- تنمية الثروات والموارد المادية والبشرية.
- ضمان تصدير البترول باعتباره المورد الرئيسي للبلاد.
وعلى الصعيد العربي والإقليمي، أشار البيان الى ان قيادة الثورة:
- تعاهد الشعب على العمل نحو استكمال الوحدة العربية.
- تحقيق وحدة الكفاح العربي ضد الاستعمار والأوضاع الاستعمارية في الوطن العربي.
- العمل على استرجاع فلسطين المحتلة وتحريرها.
وهذا مؤشر واضح وقوي على أن القضية المركزية للعراق والأمة العربية هي فلسطين، وأن تحريرها هو واجب مقدس على كل أبناء الأمة.
اما على المستوى الدولي فيشير البيان الى أن الثورة:
- تتمسك بمبادئ الأمم المتحدة، وملتزمة بالعهود والمواثيق الدولية
- تساهم في تدعيم السلام العالمي.
- تعمل على مكافحة الاستعمار.
- تؤكد على السيادة والإستقلال الوطني من خلال انتهاج سياسة عدم الانحياز، والإلتزام بقرارات مؤتمر باندونغ.
- تعمل على تشجيع الحركات الوطنية المعادية للاستعمار وتأييدها.
وفي ختام البيان الأول ألزم المجلس الوطني نفسه بالعهد لله ثم للشعب أن يكون مخلصاً للعراق وللنظام الجمهوري، أميناً على المبادئ والقيم، ومضحياً في سبيلها، مع الدعوة للجماهير بأن تكون وحدة متراصة متكاملة لتحافظ على المبادئ والقيم، للسير في طريق البناء والنهضة.
من كل ما سبق يتبين أن توجهات ثورة 14 رمضان في العراق وقيادتها هي توجهات ثورية عربية تقدمية أصيلة. وهي لم تكن مجرد تغيير أشخاص بأشخاص، وإنما هي ثورة شاملة جاءت وهي تحمل مشروعاً استراتيجياً كبيراً واضح الأهداف على الصُعُد الثلاثة الوطنية والقومية والعالمية. كما ان البرنامج الوطني الذي تبنته كان شاملاً حيث تضمن كافة الجوانب السياسية والقانونية والتنموية الرئيسية وبما يليق بقدرات الشعب العظيم وامكانيات وموارد العراق الكبرى . وبذلك فقد أسست تلك الثورة المعجزة لما تلاها من حكومات الاستراتيجيات الكبرى لكي تعتمدها في المجالات اعلاه.
وان الثورة ومنذ يومها الأول كانت منصبة لخدمة الشعب وإعادة العراق إلى وسطه العربي الذي أبعدته عنه دكتاتورية قاسم وعدائه لكل توجه قومي بدفع وتحريض الجهات والعناصر الشعوبية التي دعمها و سمح لها بالسيطرة على
الساحة السياسية ومواقع القوة والنفوذ العسكرية والامنية في العراق، لذلك واجه هؤلاء الشعوبيون الثورة منذ ساعة انطلاقها الأولى.
ورغم عمرها القصير الذي لم يتجاوز تسعة أشهر، نتيجة للتآمر عليها بحدوث ردة تشرين، الا ان ما حققته من تغيرات وانجازات جذرية خلال تلك الفترة القصيرة يعد معجزة بحد ذاته، وما لم تستطع اكماله فانها قد أسست له
وفتحت الطريق واسعاً باتجاهه. فحزب البعث العربي الاشتراكي الذي استمر بنضاله على الرغم من حملة الاعتقالات والنفي التي شملت كل قيادته ومناضليه بعد ردة تشرين السوداء، قد تمكن بعزيمة وإصرار من تفجير ثورة 17 تموز 1968 لمواصلة المسيرة التي خطتها ثورة 14 رمضان العظيمة وتحقيق تلك الأهداف التي دعت اليها تلبية لطموحات وتطلعات الشعب العراقي وكل الأمة العربية.