بسم الله الرحمن الرحيم
برنامج كتاب الشهر
للكتاب والقراءة أهمية عظمى في حياة الأمم والشعوب، وفي عالمنا المعاصر حيث تحتدم التحديات والمتغيرات في مختلف الاصعدة والمجالات ، اصبحت المعرفة احد اهم الاسلحة التي تتسلح بها الشعوب في كفاحها حتى اضحت حاجة جوهرية لا غنى عنها من اجل البقاء وتحقيق التطور والازدهار. وفي ظل عمليات التجهيل المنَظَم والمتَعَمَّد للاجيال الصاعدة من الشباب في وطننا العربي يحتل هذا الامر اهمية استثنائية. وتساهم العديد من الاصدارات العربية الحديثة في القاء الضوء على القضايا الملحة في وطننا العربي، وتنوير الرأي العام ونخبه الفكرية والثقافية، وتعميق الوعي لديها، فتشكل منارات هادية تضئ الطريق امام ابناء الامة ولا سيما اجيالها الصاعدة ، لتتزود منها بالمعرفة اللازمة لمواصلة الطريق في دفاعها عن خيارات الامة وحقها في الحياة ومواصلة رسالتها الخالدة بين الامم.
يسلط برنامج ” كتاب الشهر ” الضوء على هذه الكتب ويتناول بعدها القومي وتأثيراتها ودورها في تعميق الوعي فيقدم خلاصات للنصوص الجديدة في مجالات الثقافة القومية والفكر العربي المعاصر والتحديات الراهنة في مختلف المجالات ، تشترط الرصانة الموضوعية ،وتضمن الفائدة العامة لجميع القراء والمتصفحين . ولإثراء النص وتعميق مضامينه ، يشرع كتاب الشهر نوافذ للحوار العلمي ، وتبادل وجهات النظر .
كتاب هذا الشهر يحمل عنوان : ميشيل عفلق الذي لم أعرفه كما يجب!. للدكتور محمد عمارة. ونعرض فيما يلي قراءة أولية له من اعداد ناصر الحريري.
ميشيل عفلق الذي لم أعرفه كما يجب!
تأليف الدكتور محمد عمارة
عرض ناصر الحريري
يشير الكتاب في البداية الى ان مؤلفه قد جمعته علاقات صداقة مع عدد كبير من مفكري حزب البعث العربي الاشتراكي ومناضليه، ولم يكن قد قرأ على نحو منّظَّم أعمال مؤسس الحزب ومفكره الأول وفيلسُوفَه الأكبر الأستاذ أحمد ميشيل عَفلَق. ويشير بصراحة الى انه كان لديه انطباع سلبي، ثم يتساءل ” فكَيف ولماذا تغيَّر الحال واحتلَّت دراسة مشروعه الفكري الأهمية التي جعلته يعطيه عاماً كاملاً للقراءة والتأمُّل و يشرع في كتابة هذا الكتاب ؟“.
ويبدو ان ما رافق وفاة القائد المؤسس رحمه الله في 24-6-1989 من بيانات ونشريات ووقائع قد كان بداية لنقطة تحوُّل عند المؤلف، حيث كان يومَئذٍ مُشاركاً في ندوة علميّة عن ” السُنة النبَويّة ” فاطلع من مصدر على بيان القيادة القومية لحزب البعث العربي الاستراكي وما تضمَّنه من تفاصيل منها اعتناق الأستاذ احمد ميشيل عفلق للإسلام، وكيف أنه لم يرغب هو ولا رفاقه في القيادة إعلان ذلك حرصاً منهم على ألا يُعطى لهذا الخَيار أي تأويل سياسي، وأنه قد تم دفنه وفق الشريعة الإسلامية.
في هذا اللقاء بدأ خيط الاهتمام بفكر القائد المؤسس وما هي ملامح المشروع الفكري للبعث يتخذ مكاناً في عقل واهتمامات المؤلف الفكرية ؟
ويشير د. محمد عمارة الى اهمية هذا الموضوع لان القائد المؤسس: ” هو رجل من أبرز مفكري وقادة التيار القومي العربي في العصر الحديث، وأستاذ تتلمذ عليه أجيال من المناضلين والمفكرين والمثقفين، وأهم من هذا، ان المشروع القومي الذي صاغه هذا المفكر قد تبناه تيار فكري سياسي مؤثر في واقعنا الفكري والسياسي…“.
يتناول المؤلِف في كتابِه “ ميشيل عفلق الذي لم أعرفه كما يجب ! ” زيارتَه الى بغداد في أبريل سنة 1981م بدعوة مِن جامعتِها لإلقاء بعض المحاضرات على أساتذة قسم السياسة – بكلية القانون والسياسية – وطلبة الدراسات العليا فيه، فيذكر تأثُره بخطاب القائد المؤسِس في ذكرى تأسيس حزب البعث العربي الإشتراكي في – 7 نيسان – وما تضمّنَه عن علاقة العروبة بالإسلام، والذي كان مدعاة الى تعمُّقِه بمُراجعة الخِطاب ودراسته التفصيليّة لاحقاً.
ثم جاءت دعوة الجمعية العربية للدراسات السياسية ومركز الدراسات السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة له للمُشاركة بالكتابةِ عن الأستاذ ميشيل عفلق ومحاور مشروعه الفكري، حيث طلبَ منه القائمون على الندوة أن يكتب عن محور “الإسلام في فكرِ ميشيل عفلق”، فشَكَّلَت تلك المشاركة فرصة له حيث انتقلت جهوده من الرغبة إلى الممارسة والتطبيق. فبدأ بجمع كل كتابات القائد المؤسس. ولأنه وجد أن الأمر أكبر من أن يُختَزَل في صفحات تُقدَّم إلى ندوة، قرَّر استكمال البحث ليخرج في هذا الكتاب.
يشير المؤلِّف الى انه كتب عن الاستاذ أحمد ميشيل عفلق العديد من الكتاب والدارسين، وقد يرى البعض أنه لا مجال لجديد بعد الذي كتَبَه المفكِّرون والمثقفون والساسة البارزون عنه، ولكن ما توصل إليه أن الذين كتبوا عنه سواء من اي طرف كانوا، موالين او خصوم، بعثيين أو غير بعثيين، قد صَمَتوا صَمتاً كاملاً عن دلالة العلاقة بين العروبة والاسلام، في مشروعه الفكري وحياته النضالية.
ويشير الكتاب إلى أن موقع المؤلِّف الفكري من كتابات القائد المؤسس ومشروعه الفكري ومسيرته النضالية قد مثَّل عاملاً مساعداً ليكتشف ما لا يستطيع أن يكتشفه فيه تلامذته ومريدوه الأقربون أو حتى خصومه المناوئون. فيقول عنه ان القائد المؤسس قد استطاع ان يكتشف في الاسلام ما لم يكتشفه الذين ورثوا الدين دون بحث وكدّ ومعاناة.
يتناول الكتاب تحليل الواقع الذاتي والموضوعي في فكر البعث من خلال تحليله لمقولة القائد المؤسس التالية :
“قراءة جديدة للإسلام كشفَت لنا عن حقائق أساسية في روح شعبنا ونفسيته وأضاءت لنا طريق العمل الثوري. وثمة واقع ذاتي جاءَ في الوقت نفسه تعبيرًا عن واقع موضوعي… الواقع الذاتي هو أنني شخصياً، في بداية تكوين الحزب، اكتشفتُ الإسلام. أقول اكتشفت ولا أعني أنني لم أكن أعرف الإسلام – فقد كانت هناك أُلفة منذ الصغر- اكتشفت الإسلام كثورة… كتجربة ثورية هائلة، وقرأته قراءة جديدة من هذا المنظار… في أنه عقيدة، ونضال في سبيلها… وقضية هي قضية أمة، وقضية إنسانية. بل إنه قضية أمة بتصور إنساني أوسع… ونضال على أروع ما يكون بأعلى مراحله وبما فيه من تنظيم دقيق وتثقيف، إلا أنه أيضًا دين، فهو تجربة ثورية، السماء فيها متداخلة بالأرض.”…
وهنا يقف المؤلف وقفة تأمل وتفسير واستخلاص لحقائق تاريخ القائد المؤسس وكيف انه في النص اعلاه تتجسد حقيقة أن الذي جعله ورفاقه الأوائل يختارون صيغة” البعث” و” التجديد” لتراث الأمة وهويتها ليس صيغة الليبرالية الغربية أو الماركسية، وإنما اكتشافه المبكِّر للإسلام، فكان الاختيار لطريق البعث هو الذي ميز مشروع البعث الفكري عن تلك المشروعات التي اختارها عرب آخرون.
ويستعرض الكتاب الإكتشاف والربط المبَكِّر ( اي منذ بدايات تأسيس البعث ) بين العروبة والإسلام ، ويتناول شرح القائد المؤسِّس كيف ان الدين كان يُجسِّد الثورة و الحضارة للعروبة، وهو التراث و الهوية بالنسبة للأمة، ورسالة إنسانية خالدة لها.
ثم يعرض نصاً من نصوص كتاباته ذات الدلالة العامة في هذا الموضوع الهام ومنها قول القائد المؤسس : “ لقد كانت اللحظة التاريخية في حياة الثورة العربية المعاصرة هي سلامة الاختيار… وقد كان الموقف من التراث القومي أي من الإسلام وعلاقته الوثيقة بمرحلة الانبعاث القومي المعاصرة، معبراً عن إحدى الاختيارات الكبرى لفكر البعث… ولأن هذه النقطة الأساسية لم تعط حتى الآن الاهتمام الذي تستحقه، بل بقيت مجهولة من الكثيرين، كان لا بدّ، حرصا على المستقبل وسلامة الاتجاه، من الإشارة الصريحة الى ذلك، والتتمـّة على الأجيال البعثية الصّاعدة.”
ويتناول الكتاب حديث القائد المؤسس في ذكرى الرسول العربي حيث يتحدث عن قصته مع الإيمان وعن اكتسابه له بالألم والمشقة وكيف أنه لم يرثه بالتقليد! فيشير الكتاب الى ان النص التالي ذي دلالة كبرى :
“ لا يفهمنا إلا المؤمنون، المؤمنون بالله. قد لا نُرى نصلي مع المصلين، أو نصوم مع الصائمين، ولكننا نؤمن بالله لأننا في حاجة مُلحَّة وفقر إليه عصيب، فعبئنا ثقيل وطريقنا وَعِر، وغايتنا بعيدة. ونحن وصلنا إلى هذا الإيمان ولم نبدأ به، وكسبناه بالمشقة والألم، ولم نرثه ارثاً ولا استلمناه تقليداً، فهو لذلك ثمين عندنا لأنه ملكنا وثمرة أتعابنا..“.
ويعبِّر المؤلف عن اعجابه بهذ المقولة فيقول : ” إن الكلمات الأخيرة يجب أن توضع أسفلها عشرات الخطوط ” .
ثم يضيف الى ان القضية المهمة: هي مكانة الإسلام في المشروع الفكري والحضاري للبعث و مؤسسه، الذي هو المشروع الفكري والحضاري لواحد من أبرز وأهم فصائل التيار القومي العربي المعاصر، وليس مشروعاً خاصاً لمفكر من المفكرين أو كاتب من الكتاب.
يتناول الكتاب شرح لما ميّز فكر الأستاذ أحمد ميشيل عفلق وهو اكتشافه للإسلام فجعله “بعثاً ” وإحياءً وتجديداً لهوية الأمة وتراثها ورسالتها، ولم يجعل القومية مجردة من الدين والتراث، ولا جعل صبغتها ليبرالية غربية أو ماركسية.
ثم يحلل حجم مرجعية هذه القيم في هذا المشروع الحضاري البعثي بالنسبة إلى حجم المؤثرات الأخرى، ودرجة الوضوح لهذه الأسس والموازنات في أدبيات هذا المشروع الفكري وخاصة في مجال الربط بين الإسلام وبين العروبة والقومية و العلاقة بينهما، وأيهما الأصل؟ وأيهما الفرع؟. ويتناول معنى الرسالة الخالدة لهذه الأمة الواحدة ودرجة وضوح هذا المعنى في أدبيات هذا المشروع، وعلاقة الدين بالدولة، والموقف من العلمانية، وكذلك دور الدين في تميز الأمة ومشروعها الحضاري عن الأمم الأخرى، ومشروعاتها الحضارية وخاصة في المواجهة مع الحضارة الغربية.
ثم يتناول العوامل التي أدت إلى تطور المشروع الفكري للبعث وموقف القائد المؤسس ويلخص بعضها فيما يلي :
* أن الإيمان قد حدد توجهه الفكري والسياسي والحضاري منذ فجر حياته النضالية.
* إن هذه الإضاءات الفكرية لم تسلط عليها الأضواء ولم تُعط حقها من الإبراز والإيضاح والتفصيل.
ويستعرض الكتاب موقف القائد المؤسس من اللبرالية الغربية فيقول لقد كان منذ بداياته الفكرية رافضاً لليبرالية الغرب لكنه وقف موقف الدارس المستفيد المنتقي من شمولية الغرب، الأمر الذي دفع إلى زيادة حجم الاستقلال الفكري عنده لزيادة الاهتمام بالربط بين العروبة والاسلام باعتباره السياج الحقيقي والمنبع الحقيقي لهذا الاستقلال الفكري.
ويشير الكتاب الى انه في الوقت الذي اكد فيه مؤسس البعث على جمود وتراجع منابع الاشتراكية الغربية فانه دعا لمزيد من استلهام الأصالة وروح الأمة كي لا يصل المشروع الحضاري إلى طريق مسدود.
كما اهتم المؤلف بخطاب 7 نيسان 1977 حيث أشار القائد المؤسس فيه إلى أن مكانة الإسلام ودوره في تميز هذا المشروع الفكري: ” لم تعط حتى الآن الإهتمام الذي تستحقه، بل بقيت مجهولة من الكثيرين، كان لا بدّ، حرصا على المستقبل وسلامة الاتجاه، من الإشارة الصريحة الى ذلك، والتتمـّة على الأجيال البعثية الصّاعدة.”
وهو بذلك يعلن عن تصديه لاستكمال النقص وإيضاح المجهول” حرصاً على المستقبل وسلامة الاتجاه” ويعلق الآمال على الأجيال البعثية الصاعدة في هذا المشروع.
ويوثق الكتاب اشادة القائد المؤسس بدور المناخ العراقي في اغناء فكر البعث حيث يقول: “والآن نشعر بأن في تجربة حزبنا في العراق، للمرة الأولى، تأخذ أفكار الحزب مداها “.
وقد جمع د. محمد عمارة كتابات القائد المؤسس في العراق عن التراث والإسلام لتشكِّل جزءاً كاملاً من الكتاب هو الجزء الثالث، مشيراً الى ان أغلبها هي محاضرات القاها في مدرسة الإعداد الحزبي، ملقياً الضوء على ان التركيز على الإسلام والتراث لم يكن كلاماً للمناسبات العامة، وإنما كان مادة فكرية لإعداد القيادات الحزبية، مع كل ما يمثله ذلك من دلالات وأهمية بالغة.
كما يشير الكتاب الى حقيقة جوهرية وفي غاية الأهمية وهي ان مواد الجزء الثالث المشار اليها اعلاه كانت سابقة في تاريخها على احداث ايران عام 1979، لذا لم تكن مزايدة إسلامية على الشعارات المرفوعة في تلك الفترة، مما يؤكد ان الموقف الفكري للبعث وقائده المؤسس إذن من الدين والتراث هو موقف فكري أصيل، فيه تصاعد وتفصيل وتوضيح وتعميق وتطوير مستمر.
في هذه السياق يطرح الكتاب سؤالاً هاماً عن :
مكانة الدين في المشروع القومي ومرجعيته في المشروع الحضاري؟
فيقول إن كتابات المؤسس تتحدث عن الإسلام ليكون غذاء للمشروع النهضوي وطاقة للبعث والنهضة، فهو يصف الإسلام: الثورة، والإسلام: التجربة المفصحة عن عبقرية الأمة، والإسلام: التراث الروحي المكوِن لقومية الأمة، والإسلام: الحضاري المميز للأمة وقوميتها ونهضتها عن غيرها من الأمم والقوميات والنهضات.
ويؤكد الكتاب على ان القائد المؤسس هو نموذج للمفكر القومي الذي يتبنى الإسلام الحضاري، فمع اعترافه وإيمانه بالإسلام كدين سماوي إلا أنه لا يتبنى في مشروعه الفكري والحضاري جانب الإيمان الغيبي، لأنه يراه كشأن إيمان فردي يحمي الإنسان من ضياع الإلحاد، الذي يرفضه. لكن ما يستدعيه للمشروع الحضاري ويتبناه مرجعاً في النهضة القومية والبعث العربي . ويشير المؤلف الى انه بذلك قد تقدم على و ظل متميزاً عن المفكرين الإسلاميين وظل مشروع البعث متميزاً عن مشروعات النهضة الإسلامية.
ويضيف الى إن آفاق فكر القائد المؤسس تنتظر من مفكري التيار القومي العربي أن يواصلوا السير على طريقه، لانها تفتح وتفسح أمامهم سبل التطور والوضوح التي لا تعرف الحدود، طالما استمرت في التجدد والنمو حيوية العقل الإنساني الذي يسعى إلى الاقتراب من الكمال.
مكتب الثقافة والاعلام القومي
29 /11 /2021