هويّة العِراق الوَطنيّة وبُعْدها العَرَبي
الى أين وَصَلت؟ .. عودَتها هي الحل
(الجزء الأول)
سرور مرزا محمود
مع تقلبات حياة العراقيين ومحاولة تمزيق الارض العراقية بعد الاحتلال وتدخل القوى الدولية و الاقليمية، الذي ينزع العراق من سياقه الأوسع، ويقطع صلته بتاريخه وتراثه ومصالحه، بات موضوع هوية العراق، من ابرز الموضوعات المثيرة على الساحة الوطنية والسياسية والاجتماعية، فنحن امام تحول عميق في الهوية العراقية المرتبطة بالمكان السكاني المتنوع بحضاراته ودياناته وقومياته، وهذا يستلزم علينا كعراقيين الكشف عن الهوية الوطنية الحقيقية وإبرازها للجيل الحالي، والأجيال القادمة المتكونة من أطفال اليوم، لأن الوطني هو الذي يتمسك بقوميته ويحافظ على هويته وخاصة بإرثه وثقافته الحضارية المبنية على المنجزات والعادات المتوارثة والتقاليد الأصيلة مع تبني الموضوعية بعيداً عن التطرف والجمود، والإقرار عن الحقيقة الإنسانية المعاصرة لهذا الوطن، وهو ما دعانا ان نتناول هذا الموضوع الحيوي.
الانتماء غريزة فطرية، الى الأرض التي يعيش عليها، والبيئة التي خرج منها، وهي جزء من الهوية، فالانتماء للأسرة وللعمل والبيئة المحيطة، وكل ما هو في دائرته الصغرى، كلها أسس لانتمائه الأكبر نحو الوطن، والانتماء يستحيل أن يكون بقرار أو بتوجيه، سواء من المواطن ذاته أو من المجتمع، اذ ان الانتماء مرتبط بعوامل ثقافية – دينية والى عوامل تأريخية لارض الاجداد.
تبقى الهوية الوطنية نتاج للوحدة المتكاملة في كتلة واحدة، يعيش أفرادها تحت كنف الأمة المستقلة التي تعني في فحواها ضمان التضامن وتوطيد لأواصر الأخوة وترابط الشعب في علاقة بدون مقابل نفعي يعود على أي طرف، أو صلات إجتماعية لا تحكمها المادة ولا تكون المصلحة الذاتية غاية لها، بقدر ما يكون الإنتماء الحضاري والتاريخي والثقافي هو الذي يتحكم في التعامل المتبادل والإتصال المزدوج بين أفراد الأمة الواحدة، الذين يربطهم المصير المشترك ويجعلهم يحتكمون لضمير إجتماعي واحد.
ظهرت هوية بلاد مابين النهرين منذ فجر التأريخ ببصماتها على الشخصية التى أخذت مكوناتها الأساسية من تاريخها، وعلى أرضها تشكّلت حضارة عريقة، نجحت وتمكنت من استيعاب كل من سكن فيها ومن قدم من خارجها، و ما وفد إليها من ثقافات وحضارات وتفاعلت معها، أصبحت أجزاء ممتزجة أو متفاعلة مع هويتها الأم لكنها لا تمنحها هوية بمفردها.
وعلى ارضها التي اقيمت على ضفاف دجلة والفرات والمناطق المحيطة بها عرفت التوحيد قبل ظهور الديانات، و على أرضها طبق الحكام السومريين والاشوريين الايمان بالتوحيد، وكانت ملاذاً آمناً، فعلى أرضها نشأ وترعرع بعض من الانبياء ومنهم نبى الله ابراهيم (ع). ووسط أهلها عاش اتباع ديانات اخرى فعاش اليهود، ووجدوا على أرضها الأمن والأمان، وفيها انشأت الصابئية وانتشرت المسيحية، ومن ثم جاء الاسلام ودخل غالبية اهلها الى الاسلام، فمن العراق انتشر الاسلام الى بلاد فارس واسيا وصولا الى الصين.
اصبح العراق مقر الخلافة العباسية التي كانت تعتبر اوج الحضارة الاسلامية والثقافية، تلك الثقافة التي استوعبت كل الأمم والشعوب؛ التي انضوت تحت لواء الأمة العربية الإسلامية، ووسعت كل الثقافات التي تعايشت معها، فصارت بذلك ثقافة العرب المسلمين، وثقافة المسيحيين واليهود، وثقافة كل الأديان، وطوائف الملل والنحل التي اندمجت في الكيان الإسلامي.
وعاشت في ظل الدولة الإسلامية عبر الأزمنة والعصور، ومن أهم الخصائص التي تميزت بها الثقافة العربية أنها امتزجت بالثقافات الأخرى التي كانت سائدة في عهود الإسلام الأولى، وتفتحت لعطاء الأجناس والأقوام، وأهل الديانات والعقائد التي تعايشت مع المجتمع الإسلامي، فصارت بذلك الثقافة غنية المحتوى، متعددة الروافد، متنوعة المصادر، ولكنها ذات روح واحدة، وهوية متميزة متفردة،
وارتفع عدد سكان العراق الى 20 مليون نسمة، واصبحت بغداد مركزاً لامبراطورية غنية مترامية الاطراف، واشتهر العراق بتطوره وتنوعه، و بات قِبلَة لكل من لم يشعر بالأمان بين أهله والجهة التي جاء منها.
وتركت الهوية العراقية بصماتها الواضحة على طبيعة الشخصية العراقية، فأصبح المواطن العراقي متديناً ايا كانت ديانته، يهودياً، صابئياَ مسيحياً أو مسلماً، يقدر فى غالبيته الساحقة الأديان، يحترم المقدّسات، يضفى بصماته الخاصة على المناسبات الدينية فتصبح هذه المناسبات تحظى باحترام الجميع. لا يقبل فى غالبيته الساحقة إساءة إلى دين، أو مساساً بمقدس. هذه الطبيعة للهوية العراقية هى التى حفظت ان يكون العراق صامداً فى وجه أنواء وعواصف وتدخلات من كان يطمع فيه.
وفي عام 1257 دخل المغول بغداد واصبح الرمز المضيء للدولة العباسية مجرد انقاض بعد ان كان مركزاً لدولة عريقة ومترامية الاطراف، ودخل في عصر مظلم واصبح معزولاً ومهزوماً طمعت وتنافست عليه القوى الخارجية،
وفي اواخر الحقبة العثمانية، فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، جاءت البعثات لبعض من شرائح المجتمع العراقي بثقافات جديدة، ومع ازدياد وعي الافراد من ازدياد نسبة التعليم وانتشار الصحف، بدأ البحث عن الانتماء الوطني العراقي والعربي وتحديداً في منتصف القرن التاسع عشر مع ظهور الجمعيات ذات الطابع السياسي والقومي، عندها بدأ التلميح عن هوية عراقية، محافضة ثقافياً لناحية التزامها بالقيم الثقافية العربية المسلمة، دون اعتداء على الهويات الثقافية الاخرى، منفتحة حضارياً، فالنهضة الثقافية التي عرفها العالم العربي في حينها انطلقت من بلاد الشام ووصلت الى مصر والعراق.
وفي مرحلة القرن العشرين انتهت الإمبراطورية العثمانية بنهاية الحرب العالمية الأولى، وتقاسم البريطانيون والفرنسيون الوطن العربي استناداً لاتفاقية “سايكس – بيكو”، التي قسمته إلى دويلات، مما ادى الى عدم انشاء كيانٍ سياسي عربي واحد، وصنع ثقافاتٍ فئوية خاصَّة في البلدان التي سيطرت عليها، والمحافظة على الواقع العربي المجزَّأ، فالهدف الأول من تلك التجزئة كان إحلال هويات محلّية بديلة عن الهوية العربية المشتركة التي هي حصيلة التقارب بين الهوية الوطنية والدين المنفتح والثقافة العربية، وإضعافاً لكلّ جزء بانقسامه عن الجزء العربي الآخر.
عند النظر الى بداية الاحتلال البريطاني للعراق، فان القضايا المتعلقة بالهوية الطائفية والعرقية والأثنية لم تكن بالظاهرة الجديدة فقد تمرد الاكراد عام 1919 وكان تأثير رجال الدين واضح في ثورة العشرين، وتمرد الاشوريين بعدها في بداية الثلاثينات، ومن ثم فإن أي محاولة لتفكيك الهوية أو اختزالها في صنف أو لون واحد كان محكوم عليها بالفشل. فالموروث الشعبي يتمدد فيه كل هذا الزمن لتبقى قيم ومعان وألفاظ وطقوس مستمرة لا تهتز ولا تذهب، ولهذا لم تتأثر اطر ترابط النسيج الاجتماعي بذلك.
ثم تشكلت دولة العراق الملكية عام1921، فوجدت الشارع العراقي فى معظمه يغط فى الجهل والأمية، والقلة منهم عندهم تعليم تقليدى، سعت الدولة في مراحلها الاولى الى خلق هوية جامعة للمجتمع العراقي.
بدأت الشرائح بعد تشكيل دولة العراق الملكية تبحث عن ذاتها المتأثرة بتراثها التأريخي، كبداية مرحلة سياسية على ضفاف نهري دجلة والفرات والمناطق المحيطة بها من وديان وهضاب وجبال وصحارى وهي تمتلك اقدم تراث موجود حيث تزخر مدنه ومناطقه الريفية على السواء باثار العديد من من الحضارات القديمة، ومقر الخلافة العباسية التي كانت تعتبر اوج الحضارة الاسلامية المتطوررة والمتنوعة، فالعراق شعب وتأريخ وسياسة، لذا فقد تولت الدولة الجديدة مهمة تطوير العلاقات بين الجماعات المختلفة.
يتبع لطفاً…