الحَرْب فِي السُّودَان
بَيْنَ الإهِّمالِ العَرَبِي والنِّسْيانِ الدُّولي
محمد الامين ابوزيد
تجاوزت الحرب فى السودان أكثر من 18 شهر ، فى ظل إصرار طرفيها على استمرارها بالتصعيد المتبادل والدفع بإتجاه دخولها طوراً جديداً من التصعيد، رغم تزايد انكشاف مخاطر التدخلات الإقليمية والدولية على مجرياتها. وفي ظل ما أوردته قيادة قطر السودان لحزب البعث العربي الإشتراكي مؤخرا من مؤشرات فى ظل استمرار الحرب وتعميق تأثيراتها ونتائجها الكارثية نشير إلى ما يلي :
أولاً: إصرار قيادة الجيش رفض أى مبادرة لوقف الحرب، والإنخراط فى خيار الحسم العسكرى وتكثيف العمليات الحربية التى لم تظهر أى تقدم يعزز هذا الخيار الذى يبدو أشبه بالمستحيل فى ظل قراءة موضوعية لتوازنات القوى على الأرض.
ثانياً: تزايد أعداد الضحايا وسط المدنيين وتضرر البنى التحتية ومراكز الخدمات واستمرار تدهور الأحوال المعيشة وسعر صرف الجنيه السودانى، جراء القصف المتبادل بين الطرفين. الأمر الذى يلقى بظلال الحرب على الشعب السودانى الأعزل وجعله تحت نيران الطرفين العابثين بمستقبله.
ثالثاً: اشتداد حملات معاداة الحريات وحقوق الإنسان باستهداف القوى السياسية وشباب الحراك الثورى ولجان التكايا والطوارى من خلال ما سمى بقانون “الوجوه الغريبة” الصادر أثناء الحرب، واطلاق الإتهامات واستمرار خط التخوين للمنادين بوقف الحرب.
رابعاً: إن الظهور العلنى لمليشيات نظام الحركة المتأسلمة السابق ورموزه والتحشيد الذى تقوده تحت لافتة الاستنفار من أجل الكرامة، يؤكد ماظللنا نقوله منذ بداية الحرب بأنها حرب بالوكالة لخدمة أجندة الحركة المتأسلمة فى أحلام العودة للسلطة ومصالح ذاتية ضيقة.
خامساً: توسع قوات الدعم السريع فى الإعتداء على المواطنين ونهب الممتلكات والمحال التجارية وتهجير السكان، كما ظهر مؤخراً فى مدن وقرى وبلدات شمال وشرق ولاية الجزيرة ونيالا والفاشر فى دار فور .
لقد عكست الحرب شيوع ثقافة التضاد لا التكامل والتعايش، ثقافة أما أن تكون معى أو لاتكون، وهى تسعى لشطب المخالف فكرياً ودينياً وسياسياً، في حين أن احترام الآخر وتقدير مواقفه وتفهم ما لديه أصبح ضرورة اجتماعية وانسانية وثقافية وحضارية.
فى جانب آخر تبرز الحرب فى السودان تفاقم النزعة العنصرية والتمييز وتصاعد خطاب العنف والكراهية وزيادة التوترات والصدامات وتقسيم المجتمعات الى كانتونات متناحرة، وانهيار التماسك الإجتماعي وفقدان الثقة والتعايش والتعاون والتسامح من خلال ما تقوم به أطرافها من تجييش قبلى وجهوى وتسليح القبائل بإسم الاستنفار، لتواجه بعضها البعض .
إزاء هذا تبدو الحاجة ماسة إلى التوافق على حسن إدارة التنوع لصالح وحدة المجتمع، وتقوية عناصر القوة فيه، وتحويله إلى عامل ثراء وإغناء ثقافي وتماسك اجتماعي، وتحييد فرص الصراع والإنقسام، بما يعزز التصدى للمشروع الإمبريالى الصهيونى المعروف بنظرية ضرب أسفل الجدار المقترح لضرب نسيج وحدة المجتمع العربى فى أكثر من قطر تحت لافتات طائفية ومذهبية واجتماعية، بهدف إعادة رسم الخرائط وفق ما يطلق عليه ذلك التحالف “الشرق الأوسط الجديد”.
إن التوجهات الأمريكية والغربية وجهود القوى الإقليمية فى إطار التوجهات الجارية منذ بدء الحرب وحتى الآن، لاتعكس توجهاً حقيقياً لوقف الحرب فى السودان. بل تتناغم مع مشروع التقسيم وإعادة رسم خرائط الوطن العربي ونهب ثرواته وضمان تغلغل الكيان الصهيونى عربياً وأفريقياً. حيث يأتى ذلك متزامناً بذات التوجه مع استمرار العدوان على فلسطين و لبنان لتكريس وجود الكيان الصهيونى وتوسعه كخندق متقدم لحماية المصالح الإمبريالية وعلى حساب مصالح العرب ووحدتهم ونهوضهم القومى .
بمعنى أن التوجهات الأمريكية والغربية لا تهدف حالياً ، كما تؤكد الوقائع لوقف العدوان على فلسطين ولبنان ووقف الحرب فى السودان، وإنما دعمها لتستمر طالما تخدم المصالح وتخدم تحقيق النسخة المعدلة لمشروع ما يسمى “الشرق الأوسط الجديد” . من الإشارة الى علاقة أطراف الحرب فى السودان، بالعدو الصهيونى، وهو الداعم الرئيس لإنقلابهم على الحكومة الإنتقالية فى 25اكتوبر/ تشرين أول2021 وعقدهم تفاهمات ما سمي بالسلام الإبراهيمى، ومنذ لقاء يوغندا فى فبراير 2021 .
تتصاعد هذه التطورات فى المنطقة فى ظل حالة عدم اهتمام عربى مريبة للحرب فى السودان شعبياً ورسمياً وهذا يؤشر حالة ضعف وإنحطاط قومى وتخلّي مشبوه ومريب عن الدور فى لحظة وجودية فارقة أزاء تطورات الصراع مع أعداء الأمة العربية يتقدمهم العدو الصهيونى والإيراني.
إذ لم تحظ الحرب فى السودان بإهتمام عربى بل تشهد حالة من النسيان بالرغم من عظم تأثيراتها ونتائجها الكارثية على الوضع الإقليمى والعربى.
فلم تشهد أروقة الجامعة العربية أى اجتماع وعلى أى مستوى وزارى أو قمة رؤساء لمناقشة الأوضاع فى السودان. ولم تتحرك الجامعة ضمن أى مبادرة خاصة أو فى إطار المبادرات الداعية لوقف الحرب بما يؤشر قصر قامتها وحالة الضعف والهوان التى تعتريها كمؤسسة قومية يجب أن تعبر عن المصالح العربية والأمن القومى العربى.
تؤكد ذلك عزلة الجامعة في مفاوضات جنيف فى اغسطس الماضى، فغاية ما انتجته عبقرية الجامعة العربية قرارها رقم 8913 الصادر فى مايو 2023والذى لم يتعدَّ الدعوة لوقف العمليات العسكرية وإدانة استهداف المدنيين وحل الأزمة بما يضمن أمن السودان وسيادته ووحدة أراضيه وصيانة مؤسساته من دون أن يشير ذلك القرار الى أية آليات تنفيذ أو قدرات فعالة للضغط على أطراف الحرب.
ضمن هذا الظرف المعقد لإستمرار الحرب فى السودان يكمن دور الإرادة الشعبية الحاسم فى وقف الحرب واستنهاض الحركة الجماهيرية على طريق تشكيل الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير. فوفقا لما أشارت إليه افتتاحية صحيفة الهدف الناطقة باسم حزب البعث العربي الاشتراكي فى السودان، فإن الحرب نشبت أساساً لقطع الطريق أمام التحول المدنى الديمقراطى، ووضعت البلاد أمام حافة التقسيم والتمزق الداخلى.
وبالمقابل إضعاف القوات المسلحة بإنتاج المليشيات الموازية والنفخ فى نيران الفتنة والحرب الأهلية بالدعوات للتسليح والإستنفار والتجييش على أساس جهوى وقبلى. وتعميق الإنقسامات الإجتماعية وزيادة خطاب الكراهية والعنصرية والقتل على أساس الهوية مما يمهد للحرب الأهلية ضمن خطة الحركة المتأسلمة الرامية لتدمير المجتمع أو حكمه بالقوة والتى لخصها بالنيابة عنها أحد قادة الحرب بالقول ( أما سودان جديد وفق رويتنا أو ما فى سودان).!
إن إفشال مخطط التقسيم بإستمرار الحرب عن طريق التجييش والاستنفار القبلى والمناطقى بمزاعم الدفاع عن الأنفس والأعراض الذى تقوده الحركة الإسلاموية وحلفائها ، وتجاريها بالتناغم قوات الدعم السريع مستخدمة في ذلك بعض مؤسسات الجيش، يضع القوى السياسية والإجتماعية السودانية أمام مسؤوليتها التاريخية والوطنية بوحدتها والإنتظام فى جبهة عريضة لوقف الحرب ومنع التقسيم ، والتوافق على برنامج إنتقالى وطنى لعودة الإنتقال الديمقراطى، وبناء ما دُمِّر، وإجراء انتخابات عامة لتكوين حكومة منتخبة، ومرحليا العمل على تخفيف معاناة الشعب عن طريق إيصال المساعدات لمستحقيها، كأولوية وطنية ومسؤولية قومية وإنسانية وأخلاقية.
فإخراج السودان سالماً موحداً، من براثن مخطط التقسيم، الذى حولت الحرب أطرافها إلى بيادق فى رقعة مخططة ، مسؤولية وأولوية تعلى ولا يُعلى عليها .