مَعْرَكَة العَرَبِ الوُجوديَّة
تُحَتِّمُ مواجَهَة الواقِع وتَرْصين الجَبَهَاتِ الدّاخِليَّة
ثابت ياسر الجميلي
تقديم:
تجاوز زمن العدوان على غزة سنة كاملة قبل حوالي أربعة أسابيع، ولعل هذه المعركة بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني هي الأطول منذ احتلال فلسطين، وهي بالتأكيد الأكثر شراسة ووحشية، مارس فيها الكيان الصهيوني حرب إبادة جماعية وجرائم غير مسبوقة ضد البشرية طالت الإنسان والشجر والحجر وشملت تحطيم كل معالم المدنية وبناها التحتية. وقد امتدت عنجهية الإرهاب الصهيوني وتوسعت لتشمل في الأسابيع الأخيرة هجمات بالطيران والصواريخ على لبنان، وتوغل محدود في الجنوب اللبناني.
سقط للعرب في هذا العدوان عشرات الآلاف من الشهداء، وربما مئات الآلاف من الجرحى، ودمرت المدارس والكنائس والجامعات والمستشفيات، إضافة إلى لائحة طويلة من الاغتيالات الذين قدمتهم إيران هدية مجانية للكيان الصهيوني، لتثبت له حسن نواياها وحقيقة ما تضمره من تكامل وتوافق ولقاء استراتيجي معه.
العروبة هي الهدف:
المتابع الموضوعي لأحداث المنطقة يدرك دون عناء أن الخارطة السياسية والموقف العربي المرتبط بها قد انقلبت بزاوية انحدار مريعة بعد غزو العراق واحتلاله واغتيال نظامه الوطني القومي سنة ٢٠٠٣ م. ولعل من تحليل ما حصل، وبعد مضي كل هذه السنوات، يبدو واضحاً أن عروبة العراق ووحدته الوطنية ولحمة وتآزر شعبه، كانت هي الهدف. فهي أبرز ما أوغل الاحتلال وأدواته الحزبية والميليشياوية فيها تدميراً ونخراً واختراقاً. ومن العراق مباشرة امتدت يد المشروع الفارسي وعبر ذات المنهج والأدوات الحزبية والميليشياوية الطائفية لتستهدف عروبة سوريا واليمن ولبنان بشكل خاص، حتى صار المشهد في المشرق العربي بشكل خاص مشهد مد طائفي فارسي يوغل في تمزيق العروبة ويضعها هدفاً مباشراً لهجمات على الصعد الديموغرافية والمجتمعية والثقافية والجغرافية كافة.
ووظفت إيران إمكانات العراق المحتل لتمويل هذا الهدف، وإغراق العرب في هذه الأقطار بدماء بعضهم البعض، وتحويل الفكرة القومية العربية من مسار تحرر قومي إنساني عميق في حياة العرب، إلى شبهة وصفة غير مستساغة أو مشوَّهة، وبالتالي وضع الكثير من العروبيين نتيجة ما جرى تحت طائلة الاتهام بالإرهاب الفكري أو التخوين الوطني أو التكفير الديني أو الإحساس المرير بالانكسار والتراجع، ليصلوا في النهاية إلى جلد أنفسهم وإنكار أصلهم وتغييب ذاتهم واستصغار أصالتهم وحضارتهم لابل ذهب البعض إلى التشكيك بكل ذلك وصولاً إلى اليأس المطلق من المستقبل.
ولأن العروبة التي تتوالد أزمنةُ الأمة من رحمها هي عروبة إنسانية جامعة عابرة للأديان وللمذاهب والاثنيات، لذا فإن المشروع الإيراني – الصهيوني قد مسك خنجر التفرقة الطائفية والاثنية المسموم ليمزق ثوابت الارتباط الإنساني القومي لأبناء الأمة.
فالمشروع الفارسي من مصلحته تدمير المشروع القومي العربي لأنه بطبيعته مناهض له، وبالتالي تحجيم أو إنهاء الفكر القومي ومشروعه الوحدوي التحرري، والتصدي لإنهاء كل من يمثله نظاماً أو دولة أو أحزاب وقوى عربية .
ولأنه لابد للمشروع الفارسي المعروف بعنصريته وشوفينيته المتعالية أن يغلف نفسه بعباءات مخادعة تسهل له الولوج، فكانت الطائفية السياسية طريقه إلى تحقيق ذلك. وإمعانا في الأذى فقد عززها بجوانب أخرى أهمها الغلو والتطرف وإشاعة الجهل والفاقة والبطالة.
ومن بين أخطر ما قام به النظام الايراني هو المتاجرة بالقضية الفلسطينية ومقاومتها الباسلة كغطاء لإضفاء الشرعية الزائفة على أهداف غير شرعية لابل شريرة معادية، تسعى إلى ذبح الأمة العربية والقضاء على كل عناصر وجودها الثقافية والدينية والمجتمعية ونهوضها الحضاري. فاستغل النظام الإيراني ذلك للتعمية على مشروعه واندفاعه في تدمير العرب في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين، وهذا بالضبط ما حصل في إبادة غزة المستمرة منذ أكثر من سنة، وفي تدمير لبنان. وبذلك فإنه متكامِل مع الكيان الصهيوني في أهدافه، وما يناور به اليوم من تمثيليات ما هي إلا غطاء لاحتلاله أرض العرب في العراق ولبنان وسوريا واليمن.
نعم لتحرير فلسطين، ولا لاستخدامها ذريعة من قبل أعداء الأمة الإقليميين:
لا يوجد عربي شريف حر لا يؤمن بتحرير فلسطين ويعمل من أجل ذلك الهدف، ويقف مع إسناد فصائلها الفدائية المقاومة للاحتلال الصهيوني. بل لا يوجد عربي ولا إنسان حر لا يفتخر بما حققته المقاومة الباسلة عبر السنين منذ اغتصاب فلسطين وإلى الآن. غير أن الإيمان بالقضية والكفاح من أجلها شيء، والسماح لأعداء الأمة التاريخيين باستغلالها والمتاجرة بها لذبح أبناء فلسطين والأمة العربية شيء آخر. فلقد كان تخلي إيران مثلاً عن تقديم الدعم الذي كانت تتبجح بتقديمه للمقاومة، قد مهَّد لإبادة الشعب العربي في غزة ولبنان وسوريا. وإمعاناً بالمتاجرة فقد تم اتخاذ كل تلك الوسائل لتعميق احتلالها للعراق وتلك الأقطار وتوسيع نفوذها فيها عبر أحزابها وميليشياتها باستخدام أموال العراق وثرواته. كما دفعت ميليشياتها الطائفية إلى ارتكاب المجازر في العراق ولبنان وسوريا مما أوهن الصلة بين أبناء الأمة الواحدة وأضعف رد فعلهم ضد الكيان الصهيوني. ولم تكتفِ بذلك، فإمعاناً منها في طعن فلسطين، قامت بدفع بعض الأنظمة العربية إلى التطبيع بسبب عدوانها المستمر وتهديداتها واختراقها للجسد العربي ساعية لتفتيته بالطائفية السياسية المدمرة.
كان على إيران لو كانت صادقة النية بدعوى سعيها لتحرير فلسطين، أن ترسل جيوشها، حيث انفتحت أمامها جبهات الداخل الفلسطيني وجنوب لبنان والجولان السوري المحتل. وأن ترسل (فيلق القدس) الذي لا صلة له بالقدس الشريف غير الاسم، أو ترسل فرق من حرسها الثوري وقواتها البرية والبحرية والجوية لتدعم صمود غزة ولبنان بدل الإغراق في الدعاية الفارغة والمناورات الإعلامية والسياسية التي تحمي النظام الإيراني ومشاريعه الفارسية في الداخل الإيراني فقط. لذا فان النظام الايراني يتحمل مسؤولية تدمير غزة ولبنان لأنه لم يقاتل كما كان يدّعي ويعِد به، بل ولم يدعم إلا بمسرحيات مكشوفة وبمقادير محسوبة لتعمية البعض. هذه هي أم الحقائق التي يدركها الآن أغلب الذين كانوا موالين للمشروع الفارسي، ومن سقطوا ببلادة مميتة في أحضانه المسمومة. فإيران هي من قامت بتصفية، بطريقة واخرى، المقاومة على اختلاف وتباين الطرق والوسائل. وهي التي باعت المقاومة الوهمَ ولم تجهزها بالقوة الكافية لصناعة التوازن الذي كانت تعد به. وهي التي صدعت رأس العرب بشعارات تحرير فلسطين لكنها في الواقع وفرت ظروف غير مسبوقة ليحقق الكيان الصهيوني جرائم الإبادة في غزة والضفة وفي لبنان. لقد استخدمت إيران القضية الفلسطينية للحفاظ على نظامها الكهنوتي المعادي للشعوب الإيرانية وللإنسانية، ولكي تحمي مشاريعها ومصالحها في الوطن العربي.
لا حلّ إلّا بوحدة العرب:
نحن كأمة عربية وطلائع ثورية نؤمن ونعمل على تحرير فلسطين كلها من النهر الى البحر، ونؤمن أن هذا التحرير لا ينجزه فصيل ولا حزب ولا دولة عربية لوحدها، بل يتم فعلاً وبزمن منظور في حالة واحدة، هو أن يواجه العرب كلهم متحدين بأي شكل من الأشكال، هذا التحدي المصيري دولاً وجماهير وقُوى وأحزاب. بمعنى أن توحِّد الأمة كامل طاقاتها الجبارة، وبأي سقف وحدوي وتكاملي ممكن، وتوظفها في صراعها الوجودي هذا.
قد يقول البعض، وتحت وطأة الخسائر وشدة الخذلان واليأس الذي يشيعه العدو في النفوس، أن هذا طرح مثالي أو غير واقعي، في حين أن الفرصة الآن سانحة أكثر من أي وقت مضى لتشع أنوار الحقيقة في العقل العربي الرسمي والشعبي ، تلك الحقيقة التي يثبتها الواقع كل يوم، وهي أنه بدون وحدة وتكامل العمل العربي المشترك على صعيديه الشعبي والرسمي، لن يتمكن العرب من خوض معركتهم الوجودية التي تحتم مواجهة كل عوامل التفرقة والقضاء عليها بدءً من ترصين الجبهات الداخلية الوطنية في فلسطين وفي كل قطر عربي فالمستهدف بالأساس هو وجود الأمة وبقاءها.