جَسَامَة الإسْتِهداف تُوجِب تَوْحِيد الصُّفُوف لِتَتوحّد البُندقِيَّة

جَسَامَة الإسْتِهداف

تُوجِب تَوْحِيد الصُّفُوف لِتَتوحّد البُندقِيَّة

 

أ.د. أمجد الراضي

 

منذ أفول السيطرة العثمانية على الوطن العربي وبدء السيطرة الاستعمارية الغربية على مقدراته والشروع بتقاسمه فتحت شهية المستعمر للإبقاء على سيطرته وتأثيره في المنطقة مستغلاً حالتي التشرذم القومي والانطواء القطري.

 وقد تُوِّجَت تلك النوايا الاستعمارية بنكبة فلسطين، والتي تمثلت بتبرع الاستعمار البريطاني (على طريقة يهب من لا يملك لمن لا يستحق) بأرض فلسطين وطناً لليهود الصهاينة.

ومنذ ذلك التاريخ وإلى الآن، أضحت قضية فلسطين قضية العرب الأولى التي خاضوا في سبيلها مواجهات جسيمة، وبذلوا وما زالوا تضحيات هائلة على مر الحقب. فلم تغب القضية عنهم يوماً، ولا عن فكر ونضال الحركات والأحزاب الوطنية والقومية التي جعلتها قضيتها المركزية، وجاهدت وناضلت لدعم كل جهد عربي شعبي ورسمي وإقليمي ودولي للقضية. وستبقى الأمة العربية وأبناؤها النجباء وقواها الشعبية والطليعية تناضل بكل ما تستطيع في سبيل تحرير فلسطين التي تبقى قضيتها المركزية ورمز عزها ودليل وجودها كأمة حية قابلة للبقاء، وكأمة تستحق الحياة بين الأمم.

وقد بلغ حجم التضحيات التي قدمها العرب خاصة دولهم المحورية والقوى والاحزاب القومية والوطنية نتيجة تبنيها وتمسكها بقضية فلسطين حدوداً كبرى لم تشهدها اية امّة، الى الحد الذي ادى الى استهداف الجميع مما ادى الى ضياع العراق وليبيا ولبنان واليمن وسوريا والسودان. وزادت وتائر ذلك الى الحد الذي اصبحت الأمة فيه تواجه استهدافاً شرساً بلغ من شدته وتنوّع استراتيجياته وسعته مستوى حرب عالمية ثالثة تُشَن ضدها، وكل ذلك بسبب تمسكها بالقضية، ذلك التمسك الذي يمثل واجبها الذي ستبقى امينة عليه مهما اشتدت حدة التآمر عليها.

ومما زاد في شدة الاستهداف هو عدم اتسام العمل العربي بالتوحّد على مستوى الاستعداد والتنسيق قبل الشروع بالفعل النضالي الثوري للمواجهات، مما جعل الخسارة مؤكدة، ليشتد معها عضد العدو ويقوى تحسبه واستعداده للقادم من الأفعال.

وكان جزء مما ساعد على استهداف الأمة العربية واستعار شدته، هو تفشّي القطرية والفردية السياسية بين الأنظمة وكذلك بين القوى العربية على حساب القضايا القومية، مما أدى إلى الإضرار بالمصالح القومية الكبرى وعلى رأسها القضية المركزية في فلسطين.

وكأحد أخطر الاستراتيجيات المعتمَدة وأمضاها لاستهداف الأمة العربية من قبل القوى العالمية الفاعلة، هو إطلاق يد إيران (العدو التاريخي الّلدود للعرب) في المنطقة، بقصد تقديمه كغول سيلتهم أقطارها الواحد تلو الآخر، ومِعوَل لتقسيمها وتهشيم مجتمعاتها، مما أوصل الأمر بالبعض إلى الشروع بالتطبيع مع العدو الصهيوني ظاناً أنه بذلك يحمي نفسه منها، في تكامل صارخ بين النظامين الإقليميين الصهيوني والإيراني.

ورغم وضوح هذه المخاطر وفداحة الخسائر وكثرة تنبيهات القوى القومية إلى مخاطر شق الصف، ورغم عشق الشعب العربي للوحدة وتوقه الدائم لها، إلا أن صعوبات توحيد الكلمة مازالت قائمة إلى الحد الذي أستطيع جازماً القول بناءً على التجربة ومجريات التاريخ، كأن الأنظمة العربية ومن بين أنظمة كل أقوام وشعوب الأرض قد تميزت في كون عدوها الوحيد هو الوحدة، وكأنها تعشق التفرقة وعدم اغتنام الفرص السانحة والمتاحة لها.

ربما يقول أحدهم إن هذه ليست صفة الشعب وإنما صفة الحكام. ولكن رغم أن الشعب غير مسؤول بشكل كلّي عن إيصال الحكام إلى السلطة، فالديمقراطية الحقيقية غائبة في الأقطار العربية، وحتى البلدان التي تنص دساتيرها على اجراء انتخابات، فغالباً ما تكون هذه الانتخابات معلَّبة إن لم تشبها عمليات التزوير. ورغم كل ذلك فإن الشعوب تبقى تتحمل بطريقة أو أخرى قدراً كبيراً من المسؤولية عن تسيّد حكامها ليوصلوهم إلى ما هم فيه من الهوان. وهذا الذي حذرنا منه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله:

(يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل يا رسول الله: وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت). صدق رسول الله.

ومن المعروف أن تفتيت الأمة قد بدأ بفرض واقع التقسيم الكياني عليها، ثم بدأت تضاف عناصر جديدة من خلال النزول بالتقسيم تحت ما هو قائم عبر إيجاد أرضية لتقسيم مجتمعي على أسس دينية أو مذهبية واثنية وقبلية وجهوية، بحسب ما هو قائم في الأقطار التي تنطوي على تنوعات مختلفة، وهذا ما تضطلع به إيران في المرحلة الراهنة في أقطار عربية عدة.

إلا أن أخطر ما في الأمر، ومما يؤسف له إنه قد انسحب على القوى الفلسطينية التي أصيبت بعدوى تفشي مرض الفُرقة والذي بان أثره واضحاً في مراحل عدة، مما انعكس على شكل نتائج كارثية لا على القضية الفلسطينية وحسب، وإنما على الأمة العربية برمّتها.

وقد أدى التصرف المنفرد وإشاعة عوامل الفرقة بين الفصائل إضافة إلى وجود أسباب ذاتية بينها، إلى شق وحدة الصف الفلسطيني وجعل البعض يتصرف بمعزل عن الإجماع الوطني الفلسطيني غير مدرك إلى حجم الأذى ولا أبعاده، وكأن ذلك الأذى سوف ينحصر بطرف واحد، أو بمرحلة مؤقتة، في الوقت الذي يؤذي فيه بالحقيقة قضية الوطن بأكملها. والنتيجة إنه لم تتضرر فلسطين فقط، وإنما اجتاحت الأهوال أقطار الوطن العربي التي أخذت تضيع الواحدة تلو الأخرى، دون أن تفيد تلك التضحيات الجسيمة القضية الفلسطينية بشيء، بل العكس هو ما حصل. فلقد تسبب كل ذلك في ازدياد معاناة كل الوطن العربي وتعاظم خسائره الجسيمة ابتداءً من فلسطين.

وأخطر ما في ذلك هو السماح لقوى إقليمية مضادة للعرب، في أن تتسلل فتتاجر بالقضية الفلسطينية وتستثمر فيها لترسيخ نفوذها في إطار علاقاتها مع أعداء الأمة العربية، بهدف القضاء عليها ونهب مواردها وتقسيم مجتمعاتها، يتقدمها في ذلك النظام الإيراني الذي يفعل كل ذلك داخلاً من بوابة فلسطين. 

إن ما أضرّ بالقضية الفلسطينية خاصة والأمة العربية عامة هو تعويل البعض على أطراف خارجية تكن عداءً تاريخياً معروفاً للأمة العربية، متجهين بعيداً جداً عن الحاضنة العربية التي هي صاحبة القضية الأساس والمرجعية الأم للقضية الفلسطينية. مما تسبب في إلحاق أشد الضرر بالقضية الفلسطينية وذبح وإبادة الفلسطينيين من جهة، وتقوية أعداء الأمة عليها بإضفاء الشرعية الزائفة (بحجة دعم فلسطين والمقاومة) على أعمالهم العدوانية واحتلالهم أكثر من قطر عربي.

فباسم فلسطين، وفلسطين من ذلك براء، تعمل القوى الإقليمية على تقطيع الوطن العربي طائفياً، تحت غطاء “تطييف” المقاومة، مما جلب الويلات على الأمة العربية، وعلى فلسطين الحبيبة وأهلها. وقد تعرَّت مؤخراً كافة الادعاءات الكاذبة لهؤلاء في الدفاع عن فلسطين، فما جرى بدلاً عن ذلك هو جر الويل والثبور والدمار للبنان ولغزّة والضفة الغربية، وتعرّى دور التخادم والتكامل بين الفرس والصهاينة، وآخرها فضائح القصف الإيراني – الصهيوني الخلّبي المتبادل بينهما.

واليوم إزاء كل ما يحدث من أهوال في غزة الصمود والضفة الغربية ولبنان المطاولة والبقاء، نتيجة العدوان الصهيوني من جهة، والمتاجرة بالقضية من قبل إيران من جهة أخرى، فإن كل ذلك يجري متزامناً ومترابطاً مع مشروع آخر هو ما يسمى “بالشرق الأوسط الجديد ” وهو في جوهره تحقيق إسرائيل الكبرى. والذي دخل مرحلة جديدة فأخذ يتغول في السعة كما أنه ولج مرحلة جديدة عنوانها تحطيم الدولة الوطنية المركزية، وتقسيم المُقسَّم، وتفتيت الوحدة المجتمعية في كل قطر عربي على طريق تحقيق ذلك المشروع.

أتذكر يوم كنت طالباً في المتوسطة وكان كل المدرسين يرددون على أسماعنا أخبار فلسطين أولاً بأول ويعززون وعينا وإيماننا بقضية فلسطين، وكيف حدثت النكبة. وكنا أيضاً نسمع من الراديو فعاليات المقاومة الفلسطينية بفصائلها المتعددة فكنت أستغرب وجود عدة فصائل في حين أن الهدف واحد وهو تحرير فلسطين!!. وكنت أرى، وأنا في ذلك العمر، إن تعدد الفصائل والذي يعني عدم وحدة البندقية، سببه الاختلاف في انتماءات تلك الفصائل، وأن ذلك سيؤدي حتماً إلى الصراع الداخلي وبالتالي سيمكِّن العدو من التصدي لنا، وسيؤخر حتماً التحرير إن لم نقل يجعله مستحيلاً. وهذا ما هو حاصل منذ 76 سنة.  كان ذلك تفكير طفل عندها! فما بال من يتصدون للعدو دون أن يفقهوا هذه المسلمة!؟ التي لا نقاش فيها. ومن يعتقد غير ذلك فإنه يساهم بالإضرار بوحدة الصف الوطني الفلسطيني، ومن ثم يساهم في تشتيت البنادق وإبادة الجميع، فلسطينيين وعرب معاً، وضياع القضية، وانتصار أعداء الأمة التاريخيين من صهاينة وفرس عليها.

واليوم حيث تغرق الأمة العربية بدم أبريائها، مع ضياع العراق ولبنان وسوريا واليمن ودمار السودان وليبيا، فإن المسؤولية التاريخية تقتضي أن تعيد كل القوى الوطنية داخل كل قطر عربي تتقدمهم القوى الفلسطينية المناضلة التي هي رفعة رأس الأمة العربية، ورمز عزها، ودليل حيويتها وجدارتها بالبقاء، أن تستجيب للمطالبات العربية لها بتوحيد صفوفها والعودة إلى مرجعيتها العربية، وغلق بوابة التدخل الإقليمي الذي تُذبَح به الأمة العربية كل يوم. من أجل وقف هذا التداعي الخطير والمستمر، والعمل بصورة مشتركة لبناء القدرات الجمعية المطلوبة لنصرة القضية الفلسطينية وتحرير فلسطين وللحفاظ على ما تبقى من الأمة العربية التي لا ينتظرها إلا الفناء إن لم يتم توحيد الجهود وربط القضية الفلسطينية بمرجعياتها العربية.

لقد سُئل قائد جيش الإنقاذ العربي في حرب 1948 لماذا خسرتم الحرب وأنتم كنتم سبعة جيوش فقال: ((لأننا كنا سبعة)). أي غير موحَّدين فلو كانت الدول العربية أو الجيوش العربية موحدة تحت قيادة عربية واحدة لاختلفت النتائج.

لذا فإن التلكؤ في جهود تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية هو طعنة للقضية الفلسطينية، وطعنة لكل تضحيات الأمة العربية التي فقدت ستة أقطار لحد الآن في حروب، ونهب موارد، وتهجير الملايين منها، والنزيف ما زال يجري أنهاراً متدفقة، من غير المتوقَّع وقوفها إذ إن الأحداث مقبلة على متغيرات خطيرة.

إن الوفاء للتضحيات الفلسطينية والعربية، وللمناضلين الذين ارتقوا شهداء وهم يقاومون الاحتلال ولكل تضحيات الأمة العربية وجسامتها منذ اغتصاب فلسطين إلى اليوم، تحتم توحيد القوى الوطنية الفلسطينية أولاً، والعودة إلى مرجعيتها العربية ثانياً، وغلق كل المنافذ التي يجري من خلالها المتاجرة بالقضية الفلسطينية واستغلالها من قبل القوى الإقليمية لذبح الأمة العربية من الوريد إلى الوريد.

Author: nasser