طروحات الأقاليم في العراق، وموقف البعث منها
أ.د. طارق السامرائي
تروَّج بين الحين والآخر ومنذ الأعوام (2018،2006 ثم 2024)ِ جملة من الأفكار بعضها يتم ضمن إطار دعوي ساذج، والبعض الآخر ملغوم ومقصود لتحقيق أهداف مشبوهة، يمثل موجة من طروحات تدعو إلى تأسيس مشروع الأقاليم الثلاثي كمحصلة خلاص من الأزمات التي تعصف بمجتمع العراق، وهي أفكار دخيلة تشوبها ذبذبات بعيدة عن واقع ومبادئ النضال العربي من جهة، وبعيدة عن المصلحة الوطنية العراقية من جهة أخرى. وهذا التحول الذي يطل برأسه بين الفترة والاخرى، يبرز عادة في صيغ التفكير المنفصل عن شمولية النظرة القومية وحقيقة ان العراق هو جزء من الامة العربية والتي هي أمة واحدة في جوهرها، متكاملة في امكانياتها، ومتجانسة في كل دعامات تكوينها، ولا حياة له ولمستقبل اجياله بعيداً عنها.
كما إنها في نفس الوقت أمة إنسانية متسامحة، وقد جسد ذلك حزب البعث العربي الاشتراكي بفكره القومي الذي يتميز بكونه فكر إنساني بعيد كل البعد عن النزعة العنصرية الشوفينية، عندما كان السبّاق إلى مراعاة خصوصية الاخوة في كردستان العراق فقام بمنحهم الحكم الذاتي في 11 آذار من العام 1970، في دلالة ساطعة على مرونة الفكر القومي وتعبيره البليغ عن التسامح المجتمعي.
إن النزوع إلى ترويج طروحات الأقاليم هذه الأيام لمعالجة أزمة العراق تتقاطع كليًا مع طبيعة مكوناته المجتمعية منذ النشوء قبل اكثر من 8 الاف سنة. والمطروح لهذا التوجه هو التقسيم الجغرافي لأرض العراق تبعًا لمكوناته العرقية او المذهبية وكما حاول أن يفرضه المحتل الامريكي في دستور الاحتلال لعام 2005، والمعروفة أهدافه للجميع.
كما أنه طرح يتنكر للحقيقة الصارخة وهي أن أغلب دول العالم تتكون من عدة أعراق وأديان وطوائف ومع ذلك تحافظ على وحدتها الوطنية وتعتبرها من اهم مقدساتها. كما انه طرح مجافي للواقع من حيث طبيعة المجتمع العراقي المتداخل والمتصاهر والمتعايش بين مكوناته بسلام عبر آلاف السنين.
إن ما يتم طرحه يأتي في إطار تفكير سطحي لأنه يفترض أنه سيحقق مطلب الأمن والاستقرار في غياب كل مقومات ذلك. فضلاً عن كونه طرح مستورد لأن الغرب يريد ذلك للتمهيد لتقسيم المقسَّم ضمن إطار ما يسمى بمشروع “الشرق الأوسط الجديد” . فالعراق وحدة جغرافية جامعة لكل مكوناته وبذلك فأن هذا التفكير الملتوي هو جزء من توجهات تمهد لمشروع تهديم الروابط التاريخية والجغرافية والانسانية التي يتحلي بها هذا المجتمع عبر كل مراحل التاريخ ليصبح مجتمعا مفرغًا من مقومات وجوده الموضوعية والذاتية.
وقد تم اقحام هكذا طروحات وبشكل متوازي مع احتلال العراق سنة 2003 لكي تتم حلقات تمزيقه، ومن ثم الولوج من هذه البوابة إلى مزيد من تفتيت للأمة والوطن العربي .
وهذا الطرح ليس وليد الظروف الراهنة ولا نتاج أزمات العراق المستعصية الحالية ، بل تعود جذور تأجيجه منذ عصر الثورة الصناعية في الغرب حيث توجس الاوربيون واقع الوطن العربي كسوق استراتيجي ومادي لمشاريعهم الاقتصادية في وقت كان القانون الدولي والعدالة الإنسانية تغط في سبات عميق مما مكن سياسة شريعة الغاب الاستعمارية من سيادة العالم وحكمه في تلك المرحلة تشخصت أنظار الغرب الطامع إلى الوطن العربي لكنوزه الطبيعية ومصادر الطاقة الهائلة فيه، يضاف لذلك القلق الغربي من أن تنتعش في هذه الأمة حالة نهوض فتعصف بأحلامه وبالموارد التي يطمع بها لتحقيق هيمنته على العالم.
ولكي يتحول هذا البرنامج إلى واقع ملموس تم التفاهم بعد الحرب العالمية الأولي على مشروع (التقسيم) وهو الكعكة التي تفردت بها فرنسا وبريطانيا ضمن اتفاقية (سايكس بيكو). ولأجل ترسيخ ذلك تم تشريع (وعد بلفور) المشؤوم الذي أصدره وزير خارجية بريطانيا عام 1917 وبموجبه تم خلق كيان لليهود في فلسطين. وبهذه الخطوة حاول المستعمرون استغلال الفرص لتحويل الكيانات القطرية إلى كيانات تتصارع على الحدود أو الثروات أو منابع النفط والطاقة. وكان الاستعمار يسعى إلى تضخيم المنازعات وتجذيرها كسلوك ثقافي وتربوي ومجتمعي، إلا إنه لم يفلح إلا على الصعيد السياسي، فبقيت وشائج وروابط وحدة ابناء الامة على صعيد جماهيرها قائمة رغم خلاف الانظمة وحجم التآمر عليها.
وبقي طرح النفوذ البريطاني التقسيمي يبرز وان نادراً، حيث طرح في عام 1952 فكرة تقسيم العراق إلى كيانات ثلاثة على اسس عرقية ومذهبية. الا انه بقي طي الكتمان لرسوخ الوحدة الوطنية والتأكد من استحالة نجاحه. وفي محاولة لإضعاف العراق أعلن عن تفاصيل المشروع أبان الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) فحذر منه حزب البعث العربي الاشتراكي وقيادته الوطنية فتصدى له كل الشعب العراقي ودافع عن وحدته بصلابة واستبسال.
إن السبب الحقيقي في حرص الغرب وامريكا على تهديم بنية العراق الاجتماعية هو ما يتمتع به من خصائص فريدة تاريخية ومعاصرة، وقدرته على تخزين المراحل والامكانيات لصالح مشروع نهضوي طموح قادر على قيادة الوطن العربي وتكبيد الأعداء خسارة احتكار الثروات النفطية والطاقة المتجددة. لذلك لجأوا إلى إعاقة مسيرة البناء والتنمية وأثارة النعرات المذهبية والعرقية بهدف تشطير المجتمع العراقي وتحويله من مجتمع متماسك إلى مجتمع مكونات متشرذمة كل له طقوسه وتطلعاته الفئوية الضيقة. ولكنهم كانوا دائماً يصطدمون بإرادة شعب العراق ووعيه العميق لمؤامرات الغرب والشرق ودسائسهما.
ومن هذا المنطلق فإن حزب البعث العربي الاشتراكي يرفض كل صيغ التقسيم وتحت أي مسمى كان سواء الإقليمي منه او اي من اغلفته واقنعته وبرامجه. لأنه حزب الوحدة وحزب الامة وحزب النهضة والتنمية التي لا تتم إلا بوحدة المجتمع الراسخة وتكامل امكانياته. وهو الذي ناضل في كل تاريخه من أجل تحقيق مجتمع كل من فيه واعي لأهمية الوحدة الوطنية كدعامة اساسية لتحقيق الحرية والاستقلال. وكل من فيه محصَّن بالإيمان كما في الالتزام بالقيم وبمبادئ رسالة الامة الخالدة، يحدوه الامل في بناء دولة المواطن تحت خيمة واحدة، لا دولة اقاليم ومكونات هامشية ضعيفة تعتاش على التبعية للأجنبي كمقوم اساسي لوجودها.
وإن طفت على السطح طروحات وتوجهات تتقاطع كليًا مع عقيدة البعث الوحدوية فأنها ستبقي قاصرة لانها تطرح هذه المشاريع تهربًا من مسؤولياتها التاريخية في تحرير العراق من الاحتلال الايراني تحريراً كلياً وناجزاً. والتستر بدلاً عن ذلك خلف عباءة الاستهدافات المتلاحقة والتدافع للكسب الرخيص قصير النظر، واقحام حلول طارئة على الفكر الوطني بكل اطيافه ومنطلقاته، ظنًا من اصحابها ان هذه الطروحات وما تفترضه من حلول مبتورة سيحرر العراق من أزماته ومما وقع على ابنائه من ظلم وأذى، في ظل الاحتلال الجاثم على صدورهم، لذا فهم واهمون!!
إن حزب البعث العربي وهو يدين هذه الطروحات ينبه بعض المروجين لها إلى خطأ الاستناد على امثلة غير واقعية لدول اخرى لا تمت لواقعنا ولا لشعبنا ولا لتحدياتنا بصلة مثل اميركا وسويسرا !، ذلك أن استيراد النماذج الجاهزة لا يمكن أن يكتب لها النجاح، بل تكون تبعاتها كارثية على الوطن.
كما أن الوحدة الوطنية رافد من روافد الوحدة العربية الشاملة التي يبقي البعث مناضلا في سبيلها، غير آبه بمثل هذا الافلاس السياسي والقيمي بحق الأمة. ففكره كان وسيبقى عمود الخيمة العربية وجامع شملها بأذن الله مهما اشتدت الخطوب. وسيبقي على عهده في التصدي لكل التحديات الوطنية التي تواجه العراق وغيره من الأقطار العربية، وفيًا ومترجمًا في نضاله اليومي للقيم والمبادئ البعثية على طريق وحدة العراق وِتحقيق أهداف الأمة.