بمناسبة في ذكرى رحيله… القَائِـدُ المُؤسِّسُ أحمَد مِيشِيل عَفلَق وقَضِيَّتَي الأصَالة والمُعَاصَرة الجزء الثالث المُؤسِّسُ ونَظرَتُهُ الَى الدِّين

بمناسبة في ذكرى رحيله…

القَائِـدُ المُؤسِّسُ أحمَد مِيشِيل عَفلَق وقَضِيَّتَي الأصَالة والمُعَاصَرة

الجزء الثالث

المُؤسِّسُ ونَظرَتُهُ الَى الدِّين

د. محمد رحيم آل ياسين

                                                

عندما نعرض نظرة القائد المؤسِّس رحمه الله إلى الدِّين، فإنَّنا لا نأتي بالجديد للقارئ الكريم كون مؤلَّفات المؤسِّس وما تَضمَّنته محاضراته وأقواله وكتاباته من رؤيةٍ واضحةٍ لكلِّ ما يَهمُّ البعث وفكره القومي النهضوي التحرّري، وما يَتبنَّاه من رؤىً ومواقفٍ اتِّجاه الأمة العربية، قد امتلأت بها المكتبة العربية، وهي في متناول كلّ باحثٍ وقارئ لفكر المؤسِّس وما صاغه من نظريةٍ شاملةٍ وشافية لكلِّ معضلات الأمَّة وقضاياها المصيرية.

غير أنَّنا سنحاول هنا أن نضع معاييرنا التَحليلية لأبرز ما جاء من رؤية الى الدِّين من وجهة نظر القائد المؤسِّس، وسَنمرُّ على ما حصلَ من مُتغيِّراتٍ ومُستجدَّاتٍ في قضية الدِّين بعد المرحلة التاريخية التي كان يعيشها المؤسِّس، وما أفرزته هذه المُتَغيِّرات من تأثيراتٍ كبيرةٍ ومهمَّةٍ على مستوى الأمَّة العربية.

لقد كانت للمؤسِّس رؤياه الفكرية والرُّوحية الواقعية والأخلاقية الى الدِّين، فهو لم يكن من المُنَظِّرين في هذه القضية المُهمَّة والخطيرة في حياة البشرية فحسب، بل لكونه درسَ ” تاريخ الأديان” وتَعمَّق في مقارنتها فهو الأستاذ والمُعلِّم في هذا التخصص، وتَتمَحوَر رؤية المؤسِّس الى الدِّين في مجموعة من المفاهيم الأساسية وأهمَّها:

دور الدين بصفة عامة في حياة البشرية، وهل هو شيءٌ ثانويٌّ وعارضٌ أو طارئ أو مُصطَنعٌ في حياة الانسان والأمَم، مع أنَّه توغَّل بعمقٍ في حياة الانسان منذ آلاف السنين؟

حيثُ يتساءل رحمه الله فيما إذا كان الدِّينُ غير أساسيٍّ في حياة الناسِ، ولا يُلبِّي الحاجات العميقة والصادقة في نفوسِ الأفراد، وهل معنى هذا أنَّ الدِّينَ يَنتهي ويزول بمرور الزمن مع عمق تاريخه المُمتَدّ عبر أزمانٍ غائرةٍ في القِدَم؟ واجابته على هذا التساؤلِ: أنَّ الدِّينَ كما يظهر لنا من استعراض تاريخ البشر منذ أقدم العصور حتى اليوم، هو شيءٌ واقعيٌّ وأساسيٌّ في حياة الناس والبشرية جمعاء. لكنَّه أي المؤسِّس يُفرِّق بين الدِّين على أصولهِ وفي حقيقته ومراميه، وبين الدِّين كما يَتَجسَّد ويظهر بالأمسِ واليوم في مفاهيم وتقاليد وعادات ومصالح في ظرفٍ ومكانٍ مُحدَّدَين. 

فالدِّينُ كما يراه القائدُ المؤسِّس هو تعبيرٌ صادقٌ عن انسانيَّة الانسان نفسه، وأنَّه لا يمكن أن يزول. وانَّ علينا أن نفرِّق بين الدِّين في حقيقته وبين مظاهره التي يُظهرها البعض، والمشكلة التي تواجهنا جميعاً هو ذلك الفارق بين حقيقة الدِّين وتلك المظاهر، وتبرز هذه المشكلة بكلِّ قوةٍ عندما يكون الفرق بين حقيقة الدِّين وبين مظهره فرقاً واسعاً يصل أحياناً حَدّ التناقض، وخاصةً عندما يكون المظهر مخالفاً كل المخالفة لجوهر الدِّين ومراميه الأصيلة، من هنا تَتكوَّن الأزمةُ عند الأفراد والشعوب، هذا ما يراه المؤسِّس رحمه الله.  وتَتداخل في قضية الدِّين جملةً من المسائل منها الفكر والعلم، ويدخل فيها أيضاً الهوى والعاطفة، كما تدخل المصالح والمنافع، وعلى الفرد في أيِّ مكانٍ وزمانٍ أن ينظر بتَروٍّ وهدوءٍ ونزاهةٍ الى هذه المشكلة، ليَعرف ما هو نصيب الهوى فيها، وما هو نصيب المصالح والمنافع الشخصية الضيِّقة، كيما يمكنه الحكم بشكلٍ واقعيٍّ وحقيقيّ.

والمؤسِّس رحمه الله يضع حدَّاً فاصلاً وبَوناً شاسعاً بين الإيمان والالحاد، فيقول: نحنُ ضدَّ الالحاد ولا نشجِّع عليه، ونعتبره موقفاً زائفاً في الحياة، وموقفاً باطلاً وضارَّاً وكاذباً. لماذا؟ لأنَّ الحياة معناها الإيمان، فالأساس الخالد لعملنا، والقول للمؤسِّس، والذي لا نَستغني عنه هو الإيمان، وهذه المسألة رُّوحيةٌ وليست غيبيةً كما يعتبرها البعض، وهي التي تقوم عليها الحياة كلّها منذ أن وجِدَت الحياة البشرية. ونَنظر الى الالحاد كظاهرة مرَضية يجب علاجها. وهو يرى أنَّه عندما تَستيقظ الشعوب وتَستردّ حقوقها وكرامتها، عندها لا يمكن أن تقنع بالإلحاد، فتخطو الخطوة الصحيحة وتعود الى دينٍ واضحٍ سليمٍ منطبقٌ تمام الانطباق على حقيقته ومراميه الأولى.

والإيمانُ كما يراه المؤسِّس بأنَّه في أعماق كلّ انسان، كلّ انسان عربي، وقد شاء الله تعالى أن يكون هذا الإيمان هو سِمةٌ من سِمات الأمَّة، بعد أن خصَّها لتكون منبع ومَوئل كلّ الأديان السماوية، ثمَّ اجتباها لتحمل أمانة الدعوة الى العالمين.

أمَّا المحور الثاني في نظرة القائد المؤسِّس الى الدِّين، فيَتلخَّص في قضية الدِّين بالنسبة الى الأمَّة العربية، وموقفها من الإيمان والالحاد، وهل هي أمَّةٌ مؤمنةٌ أم لا؟ ثمَّ الى أيِّ حدٍّ تكون قوّة الإيمان فيها؟ وهل بمقدور أمتنا العربية أن تَترك الدِّين كما فعلت بعض الشعوب تحت ضغط ايديولوجيات معينة؟

وقد وضع القائد المؤسَّس اجاباتٍ دقيقةٍ وافيةٍ لمجمل هذه التساؤلات، حيث يقول: حقيقة الأمَّة العربية لا تكتمل الَّا بالإيمان، الَّا أن تَسري روح الرِّسالة في جماهير هذه الأمَّة، وأن تشعر بأنَّها تقدِّم شيئاً ثميناً للحياة وللإنسانية وللمستقبل وللخلود.

ويرى المؤسِّس أنَّه: من أجل قوميَّتنا، ولكي يكون مجتمعنا صحيحاً سليماً، أكَّدنا ضرورة الدِّين، وأنَّه حاجة ملازمة للنفس الانسانية التي تُلبِّي مَطلباً عميقاً وأساسياً فيها، والدِّينُ خالدٌ، وإن كانت أشكال التَّديّن ومستوياتها خاضعةٌ للتطور. ولا يفوت المؤسِّس هنا أن يبيِّن لنا بأنَّ الأمَّة العربية تَدينُ بأكثرِ من دينٍ سماويٍّ، وأنَّ تلك هي القاعدة العامة. ومن خلال هذه الرؤية الصادقة فإنَّ البعثَ كحزب قومي يتَوجَّه الى العرب كافة على اختلافِ أديانهم ومذاهبهم، وهو يقدِّس حريَّة الاعتقاد، وينظر الى الأديان نظرة مساواة في التَقديس والاحترام.

هذا باختصار هو موقف حزب الأمَّة العربية من الإيمان، وقد أجمله المؤسِّس بقوله: ونَعتقد بأنَّ أيَّة أمَّةٍ من الأُمَم مُعرَّضةٌ بأن تجنح الى الالحاد، ما عدا الأمة العربية التي يدخل الإسلام في نسيج شخصيَّتها وتاريخها، فهل يستطيع شعب أن يهرب من شَخصيَّته، ويَتمرَّد على قوميَّته، ويَتنكَّر لحضارته. ولئن وُجِدَت شعوبٌ تَنشد الحريَّة بالانعتاق من الدِّين، فالأمَّة العربية تجد حريَّتها في الفهم المُتَجدِّد للإسلام.

وهنا جديرٌ بنا أن نسلِّط الضوء على مسألةٍ في غاية الأهميَّة، وهي: أنَّ الأفكار الإسلامية في عهد المؤسِّس لم تصل الى مستوى التحوّل الواضح والكليّ في قضية التَّسييس للدِّين، ومن ثمَّ الدخول بشكلٍ مباشرٍ في المعترك السياسي من أوسع أبوابه، فقد كانت مجرَّد أفكار، استطاعت في مرحلة ما أن تخدع الكثير من أبناء الأمة، وكانت في ظروفٍ معيَّنة تنافس حزبنا المناضل، بسبب من العتمة والضبابية التي كانت تَلفّها وتَحجب الرؤية السليمة لأبناء الأمَّة ومنها وقوفها بالضدِّ من الأفكار القومية العربية، وبخاصةٍ فكر البعث.

أمَّا اليوم وفي هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ الأمَّة، فقد انكشفت هذه الأفكار والحركات الإسلاموية لكلِّ أبناء الأمَّة، بعد أن تَمكَّنت من الوصول الى السلطة والحكم في كلٍّ من العراق واليمن، والهيمنة في سوريا ولبنان، وهي مُمثَّلةً بالأحزاب الطائفية ذات الولاءات الخارجية وخاصة لدولة العدو الفارسي. كما تمكنت الاحزاب الإسلاموية في مصر وكذلك في تونس ولكن بصيغ اخرى، حيث انكشف دورهم الصادم للشعب الذي انتفض ضدهم ووضع حد لهم.

لقد بقي شعبنا في العراق، على سبيل المثال، يعاني الأمرين، ويَئنُّ من جراحه بسبب هؤلاء المتأسلمين، من أدعياء الدِّين وهو منهم براء، والذين انكشفت نواياهم وأهدافهم الشرِّيرة التي قامت بتدمير الدولة الوطنية في العراق، ومحاولة محو الهٌوية الوطنية والقومية للعراقيين، وهدر كرامتهم، واغتصاب حقوقهم المشروعة، ونهب ثروات البلاد والعباد. كلّ هؤلاء مهما اختلفت أسماؤهم قد شوَّهوا الدِّين، في أقطار الأمَّة، كما شوَّهه كثيرون في دولٍ وشعوبٍ أخرى كالفترات التي سبقت عصر النهضة في أوروبا على سبيل المثال.

فالدِّينُ وُجِد ليُشجِّع على المحبة والإخاء والتسامح، ليَحمي الضعيف، ويقف مع الفقير، ويُعطي الناسَ حقوقهم، ولكن هؤلاء المتأسلمين في العراق والأقطار العربية الأخرى، جعلوا من الدِّين غطاء لكلِّ المساوئ والاهداف التي تمليها القوى المعادية للامة، لاستهداف اقطارها، فأصبحوا أكبر خطر على الدِّين، فهم يعملونَ على هدم مجتمعنا العربي، وتشويهه وتفتيت لحمته، وتجزئته الى كيانات واثنياتٍ ومذاهبٍ إضافة الى نهب موارده.

إنَّ جماهير شعبنا وطليعتها بالذات بحاجةٍ اليوم أكثر ممَّا مضى الى المواقف الجريئة والشجاعة، لتفويت الفرصة على هؤلاء الفاسدين الذين يعملون بأمر أعداء الأمة. وهنا نود أن نُشير بكلِّ وضوحٍ أنَّ الطريقَ اليوم سالكٌ امام الطليعة أكثر ممَّا كان، فاليومُ انكشفَ كلّ هؤلاء الأدعياء، وعليها التوَّجه بكلِّ قوةٍ وكثافة الى جماهير شعبنا، فقد بان دور هؤلاء من الأحزاب والحركات المتأسلمة التآمري والتخريبي بحقِّ الأمة ومقدراتها وآمالها.

ولا بدَّ لنا هنا أن نقف عند مسألةٍ مهمَّة وأساسيةٍ وهي مهمَّة وواجب المناضلين في البعث، فكما تحدَّث القائد المؤسِّس عن نوعية المناضلين الذين يحملون لواء العروبة، ولا يبالون بوعورة الطريق وطوله ومَشقَّته، فاليوم يأتي دور المناضلين الذين تَتوافر فيهم شروطٌ صعبةٌ جداً، ولكنَّها ليست ببعيدة عن مناضلي البعث الميامين في كلّ أرجاء الأمَّة، مع علمنا أنَّهم مُهدَّدونَ دوماً بالخطر، لكنَّ إيمانهم بالبعث وقيَمه الرُّوحية وبالأهداف النبيلة التي نذروا أنفسهم من أجلها خدمة لامتهم، سوف يستمرُّون بكلِّ اندفاعٍ وقوَّةٍ ويقينٍ لا يلين في هذه المسيرة النضالية الرسالية.

ونختمُ بمقولة القائد المؤسِّس بأنَّه لا دينَ مع الفسادِ والظلمِ، وأنَّ الدّيِنَ الحقيقيّ هو دوماً مع المظلومين ومع الثائرينَ على الفساد.

 

  يتبع لطفاً …

 

Author: nasser