في ذكرى رحيله…
القائد المؤسس ورسالة الأمة
د. سالم سرية – فلسطين
في 23 حزيران عام 1989 خطف المنون مؤسس البعث العظيم الرفيق ميشيل عفلق، واستذكاراً لهذه المناسبة الأليمة تقتضي الضرورة النضالية والقومية أن نسلط الضوء على أحد أهم المفاهيم الجوهرية في ايديولوجية حزب البعث العربي الاشتراكي التي أرسى أسسها وشيدها القائد المؤسس – رحمه الله – ألا وهي الرسالة الخالدة للأمة العربية، وهي الشق الآخر من شعار البعث (أمة عربية واحدة …ذات رسالة خالدة) الذي يردده المناضلون في بداية كل اجتماع الحزبي ونهايته حتى يضفي على الاجتماع الحزبي صفته الشرعية.
لذا سنحاول أن نستعرض أدناه ما سطّره مؤسس الحزب منذ بداية الأربعينات حتى منتصف الثمانينات حول الرسالة الخالدة للأمة والتي يقع على عاتق البعثيين السير قدماً في طريق النضال القومي الشاق والطويل لإنجازها حتى لو تطلب تحقيقها التضحيات الكبرى من الشهداء وعقود من السنين.
مفهوم الرسالة
إن مفهوم الرسالة بشكل عام هو مفهوم متطور عبر الزمان والمكان ذلك لأنه مفهوم حي ومتجدد يمتاز بالديمومة (أي بالخلود) ويمثل الدور التاريخي والمهمة الملقاة على عاتق الأمة حاضراً ومستقبلاً. فكما أن للفرد رسالة في الحياة كذلك للشعوب الحية رسالتها أيضاً وهي رسالة دنيوية تختلف عن الرسالات السماوية التي خص الله تعالى بها الرسل لتبليغها للبشرية.
وأبعاد رسالة البعث هي:
أولاً: البعد الزماني
يوضح القائد المؤسس البعد الزماني للرسالة قائلاً (يظن أكثرهم أن الرسالة العربية الخالدة هي حضارة وقيم معينة يستطيع العرب في المستقبل عندما يبلغون المستوى الراقي السليم المبدع أن يحققوها وينشروها بين البشر. وهذه النظرة بعيدة عن الحياة وعن التجربة. فكنت أجيب دوماً: بأن رسالة العرب الخالدة ليست للمستقبل وإنما هي الآن في طور التحقيق. إنها هذا الإقبال من العرب على معالجة مصيرهم وحاضرهم معالجة جدية جريئة، وهذا التصميم الرجولي على أن ينقذوا أنفسهم بقواهم الذاتية. هذا الحاضر الذي يحياه العرب الآن هو بدء الرسالة الخالدة (1).
ثانياً: التفاؤلية الثورية
تتضح التفاؤلية الثورية لتحقيق المهمة التاريخية للأمة العربية في قوله (أيها الإخوان في الوقت الذي تكثر فيه موجات التشاؤم والتخاذل وتتكاثر فيه الكوارث والنكبات، يشعر العرب الصادقون بأن يوم الخلاص قد قرب، لأن الطريق قد فتح لتهتز النفس العربية أخيراً لتهتز اهتزازاً عميقاً، لتتذكر ذاتها ومهمتها وتنتفض بانطلاق وحيوية وإيمان مستعذبة كل ألم أو تضحية في سبيل تحقيق رسالتها في الوجود (2).
ثالثاً: الرسالة والإرادة
في عام 1941 شهد العراق قيام ثورة رشيد عالي الكيلاني فدعا الحزب (جمعية الإحياء العربي آنذاك) أعضاءه لنصرة العراق وجاء في الدعاء الذي يردده الأعضاء (اللهم أنت الذي أردت أن يكون العرب أمة قوية هادية تحمل إلى العالم رسالتك نريد اليوم أن تعود إليهم وحدتهم وقوتهم ليبدؤوا هذه الرسالة من جديد (3).
رابعاً: الرسالة والإيمان
في عام 1946 أشار القائد المؤسس إلى حقيقة فلسفية عميقة وهي أن الإيمان يسبق المعرفة وربط مفهوم الرسالة بالإيمان الذي يشكل الوقود الروحي لانبعاث الأمة من جديد فيقول: (الرسالة العربية إيمان قبل كل شيء ولا يعيبها هذا أو ينقص من قدرها. فالحقيقة العميقة الراهنة هي أن الإيمان يسبق المعرفة. أما الرسالة الخالدة فالقصد منها أن هذه الأمة لا تعترف بواقعها السيئ وموقفها المنفعل ولا تتنازل عن مرتبتها الأصيلة بين الأمم بل تصر على أنه لا تزال هي هي في جوهرها، تلك الأمة التي بلغت في أزمان متعددة مختلفة من التاريخ درجة تبليغ رسالتها فهي إذاً بصلتها ببعضها وبماضيها لا تزال واحدة ولا تزال فيها الكفاءة لاسترجاع تلك المرتبة التي فقدتها مؤقتاً (4).
خامساً: الرسالة والخلود
إن مفهوم الخلود كثيراً ما ارتبط بالبطولة وتحدي الصعاب وتقديم التضحيات فالأنبياء والفلاسفة والعلماء والشهداء قد خلدهم التاريخ بناء على التمسك بالمبادئ (أكانت دينية أم علمية أم فلسفية أم سياسية) والتضحية من أجلها وأصبح سفر الخالدين تذكاراً متجدداً للأجيال عبر الزمن. وبالتالي أصبح جيل البطولة هو الجيل الذي يعول عليه لحمل رسالة الأمة. لذلك يقول القائد المؤسس في عام1946 (طلب العرب السماء فملكوا الأرض. فلما اقتصروا على طلب الأرض أضاعوها والسماء معاً!! لا يسيطر العرب على حياتهم حتى يؤمنوا بالخلود ولا تعود إليهم ملكية أرضهم حتى يؤمنوا بالجنة من جديد. (5).
سادساً: القومية والرسالة
وفي المؤتمر القومي الأول عام 1947 جاء نص حول الرسالة الخالدة في المبدأ الثالث من دستور الحزب يقول: الأمة العربية ذات الرسالة الخالدة تظهر بأشكال متجددة متكاملة في مراحل التاريخ، وترمي إلى تجديد القيم الإنسانية وحفز التقدم البشري وتنمية الانسجام والتعاون بين الأمم … فلكل أمة في مرحلة معينة من مراحل حياتها محرك أساسي…هذا المحرك الأساسي كان في وقت ظهور الإسلام هو الدين … أما اليوم فإن المحرك الأساسي للعرب هو القومية …وحدها … والإيمان القومي وحده(6).
سابعاً: ماهية الرسالة
وحول ماهية الرسالة الخالدة يقول المؤسس عام 1946: إنها نزوع واستعداد أكثر من كونها أهداف معينه محدودة(7).
ثامناً: الرسالة والانقلاب
وحول صلة الرسالة بالانقلاب يقول القائد المؤسس عام 1953: الرسالة ليست إلا الانقلاب وثمراته(8 ).
تاسعاً: الرسالة والتراث
وحول صلة الرسالة بالتراث العربي الإسلامي يقول القائد المؤسس: (إن حزبنا منذ بدايته ومنذ التصور الأول استلهم تراثنا العربي تراثنا الروحي وهذا متجلّ في جملة كتابات وشعارات في بداية الحزب ومتجلّ بصورة خاصة في شعار الحزب الذي يقول إن أمتنا أمة واحدة وبأن لها رسالة خالدة) (9). ويواصل حديثه في مناسبة أخرى قائلاً: (إن الثورة هي من أجل القضاء على التخلف والاستغلال، ومن أجل سعادة الإنسان، ولكن كل هذا يأتي بالدرجة الثانية بعد الرسالة، لأنك إذا لم تضع الرسالة في الدرجة الاولى لا تتحرر من الاستعمار ولا تتخلص من الصهيونية فهذه الأشياء هي المميزة لحركتنا لأن التفكير الماركسي وشبه الماركسي لا يوصل إلى هذه الحقائق، وأحياناً يوصل إلى الاستهزاء بها والتنكر لها ومجافاتها، وبالتالي إلى التعثر والفشل (10).
ويعبر مؤسس البعث عن الاتجاه الفلسفي الإيماني بدعوته إلى (ضرورة بناء العقل والفكر والنفسية الواثقة، والعقيدة بأن الحياة إنما هي رسالة ليست للعيش الاستهلاكي وإنما هي للعطاء والبناء الخالد والبطولة (11). ويترجم ذلك الاتجاه عندما يربط جزءاً من الفلسفة الايمانية (مع الايمان بالقيم السماوية)، حيث يعتبر ان الإسلام كدين سماوي هو أفضل من عبر عنها ثم يعيد ربطها من جديد مع المضمون الفلسفي العام اي مع (القيم الانسانية الرفيعة الخالدة. (12).
إن الأمة التي حملت رسالة الإسلام إلى شعوب الارض قد كانت الامة العربية. لذا يقول مؤسس البعث عام 1976 ولأن الهدف هو (بعث حضاري) لأمة سبق لها (أن حملت إلى العالم رسالة الإسلام) كان لابد من مرجعية (قيمها وتراثها الروحي) باعتباره سلاحها الأول في معركتها مع اعدائها ذلك هو مستوى ألامه العربية، مستوى الامم التي لها رسالات إنسانية( 13).
إن البعث يرفض العودة إلى الماضي والتقوقع بشرنقة التراث كما يفعل الإسلام السياسي، وبنفس الوقت يرفض القفز عن تراث الامة وحضارتها كما يفعل الاتجاه الشيوعي والاتجاهات المشبوهة. فالبعث يربط الجذور التاريخية للأمة بمعطيات العصر ربطا عضويا وجدليا يستند إلى مبدأ التفاعل. فمبدأ التفاعل مع معطيات العصر يبقى ديدنه. لذا يقول القائد المؤسس في عام1980 (لقد بدأ البعث بالتفاعل مع روح العصر ولكنه بدافع من صلته العميقة بالأمة او صلة الموقف الثوري إلى رؤية الماضي الخالد ورسالة الامة الخالدة في ضوء الحاضر، حاضر العصر وحاضر العرب، فاتخذ البعث هنا صورته بأنه تجديد للقيم الروحية والأخلاقية التي عرفتها ارض العروبة في عصرها الذهبي(14).
الاسلام والرسالة:
يقول القائد المؤسس: عندما تقارن القومية العربية بالقوميات الاوروبية او غيرها كثيرا ما يتم تجاهل خصوصيتها وصلتها العضوية والروحية والتاريخية بالإسلام. فالإسلام روح العروبة، والعربية لغة قرآنه الكريم ورموزه وإبطاله هم عرب ايضا. فما علاقة رسالة الإسلام التي انتشرت على عدة قارات برسالة الامة العربية؟ يقول القائد المؤسس في عام 1982 (إن الأمة العربية قادرة على أن تنهض وقادرة على أن تكون ليس في مستوى العصر فحسب بل في مستوى رسالتها العظيمة التاريخية، أيضاً في مستوى الرسالة الروحية التي تفردت بها بين الامم والتي ستبقى إلى الأبد هي المدد والمعين الروحي الذي سيدفع امتنا نحو التقدم والرقي والانجازات الحضارية العظيمة . إن نهضتنا العربية الحديثة هي من ذلك النبع من ينبوع الرسالة الأولى (15) .
الهوامش:
1 – في سبيل البعث ج 1ص20
2- في سبيل البعث ج1ص 53
3- في سبيل البعث ج3 ص 111عام1976
4- في سبيل البعث –دار الطليعة – ص 97 و98 الرسالة 1946
5 -آفاق عربية –ص9 عدد ابريل 1976
6- نضال البعث ج4 ص25 دار الطليعة 1976
7- في سبيل البعث دار الطليعة 1974 ص 308 و309
8- في سبيل البعث دار الطليعة 1974 ص 100
9- في سبيل البعث ج2 ص233
10- في سبيل البعث ج3 ص25
11- آفاق عربية –ص9 عدد ابريل 1976
12- ميشيل عفلق –الكتابات السياسية الكاملة –ج5 ص 350
13- في سبيل البعث ج-3ص116
14 – في سبيل البعث ج-3ص96
15- في سبيل البعث ج5 ص358.