تَعْزيز الإنتِماء الوَطنِي بالعُروبَة
وتَحْصِين العُروبَة بالدِيمُقراطيّة
د. عبده شحيتلي
باحث في التاريخ السياسي والعلاقات الدولية
التأمُّل والكتابة في الذِكرى 75 لتأسيس البَعث واجبة لتأكيدِ المؤكَّد من حيث الثبات على المبادئ، والإستمرار بالنضالِ على كلِّ المستويات، ومهما كانت التضحيات من أجل حِفظ هويّة الأمة، في ظلِّ هذهِ التدَخّلات والتَغوّل والنفوذ الذي تمارِسَه القوى الإمبرياليّة والدول الإقليميّة على أرض الوطن العربي وشعبه ونسيج مجتمعاته، في عالمٍ لا يعرفُ القيَم الإنسانيّة ولا يُراعي الحقوق والكرامات، ولا تَعلو فيه إلّا لُغة المدافع، والصواريخ المجنّحة، والطائرات المُسيَّرة، والحصار الإقتصادي.
في عالمٍ هذا حاله لا مستقبَل يُرجى لهذهِ الأمة، ولا أمل لشعبِنا العربيّ في كل أقطارِ الأمة بأدنى متَطَلبات العَيش الكَريم في أقطارٍ ذات سيادة، ومجتمعاتٍ تنعَمُ بالأمنِ والاستقرار، إلّا بتعزيزِ الإنتماء الوَطني الذي يَحتَمي بمظلّةِ العروبة ويرتبط عضويّاً بها.
ما كان البعث يوماً مجرّد حِزب يَسعى للوصولِ إلى السلطة، وعندما وَضَعَ مؤسس البعث الشعار الأشهر في تاريخِ الأحزاب العربية، في رأس بيان إعلان ترشّحه للإنتخاباتِ النيابة في سوريا، حَرصَ على الربطِ بين وحدة الأمة ورسالتِها الإنسانية ليكون حزب الأمة بالضرورة حِزباً رِساليّاً يسعى لبعثِ نهضةِ الأمة، وبناء وحدَتها على أساس العَقلانية والتنوّر، والديمقراطية، والعدالة الإجتماعية.
الإحتفال بتأسيس البعث يؤكد أنَّ هذا الحزب كان زَرعاً أصيلاً في تربةِ العروبة وبيئتها النقيّة. لذلك ظلّ البعث عصيّاً على الاجتثاث، وظلّت العروبة صمام أمان المجتمع العربي في مشرقِ الأمة ومغربِها، تعتَصِمُ به جماهيرها في مواجهةِ مظاهر العصبيّة الطائِفية والقبَلية وما شابهها من المظاهر الاجتماعية المَرَضِية في الداخل، التي يستَثمِر فيها ويغذيها أعداء نهضة الأمة الطامعون بمقدراتِها الطبيعية والبشرية في الخارج، الإمبريالي (الأميركي – الصهيوني)، أو الشعوبي الإقليمي الإيراني، التركي، وحتى الأثيوبي.
العروبَة اليَوم هي نَبض الشارِع حيثُ يتفاعَل البعثيّون مع كلّ الوطنيين والعروبيين والمتنورين، على اختلافِ مشاربهم، في التصدي لاستبداد السلطات المرتبطة بالمحاور الخارجية والتي دمَّرت ما أنجزه شعبنا على صعيد التنمية الإجتماعية والإقتصادية على مدى عقودً من الزمن.
إنَّ حاضرنا مأزوم بشكل عميق، هذا أمر لا نقاش فيه. ولكن الواقعية لا تعني الرؤية المباشرة للواقع فحسب، بل رؤية الواقع من خلالِ الإمكانيات القائمة فيه أيضاً. لا مكان في شرعةِ البعث والعروبة للإحباطِ والاستسلام أمام تفاقُم أزمات الحاضر، لأنَّ هذه الأمة تجدُ مكانَها حيث يحمل أبناؤها السلاح، سلاح التنور في مواجهة الظلامية والتعصُّب القبَلي والطائِفي والمَذهبي. سلاح الحرية في مواجهة الاستبداد، وسلاح المقاومة الجماهيرية السلمية في
مواجهة الفساد وفقدان العدالة الاجتماعية، والعسكرية في مواجهة الإغتصاب والإحتلال والعدوان. وها هم البعثيون والعروبيون في قلب المعركة التي تخوضها جماهير الأمة لاستعادة مسيرة النهوض التي باشرتها حركة القومية العربية في خمسينياتِ القرْن الماضي، وأدت إلى تعزيز دور الدولة الوطنية التي سعت الى التصدي للتحديات الهائلة على المستوى الداخلي فيما يتعلق ببناء مقومات نهضة الأمة وذلك من خلال قيامها بتطوير التعليم وتعميمه، وشق الطرقات، ومد شبكات الكهرباء للوصول إلى الأرياف، وتطوير البنى التحتية، واستخراج الثروات الطبيعية، وتطوير البنى الاقتصادية… الخ، ترافق ذلك مع تحدي مواجهة العدو الصهيوني الذي يتطلب اهتماماً خاصاً بالمؤسسة العسكرية عديداً وتسليحاً وتدريباً؛ كل ذلك كان يقتضي تعزيز الاتجاه الوحدوي العربي للنجاح في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية داخلياً، ومواجهة الاستهداف الإمبريالي والصهيوني خارجياً.
بهذا المعنى كان الربط بين الصراع الاجتماعي والصراع القومي حتمياً في معركة النهوض القومي. وإذا كان المسار القومي قد سار في الاتجاه الصحيح عندما نجح بتحقيق وحدة مصر وسوريا، وإذا كانت التوجهات القومية العربية قد تراجعت على صعيد النظم العربية الرسمية، بعد نجاح الأعداء بتحييد مصر، وخيارات الحكم السوري التي أدت للتدخل في لبنان، والعمل على مصادرة القرار الوطني الذي كانت تمثله الحركة الوطنية اللبنانية، والقرار الفلسطيني الذي تمثله منظمة التحرير الفلسطينية من جهة، والتحالف مع حكم الملالي في طهران ودعم مخططاته المتعلقة بما يعرف بتصدير الثورة أثناء الحرب الإيرانية العراقية وبعدها، فإنَّ العراق ظل وحده ، ومن خلفه كل الجماهير العربية، يصارع بكفاءة عالية من أجل المشروع القومي، وبعد صمود أسطوري في الحرب ومواجهة الحصار، كانت المواجهة المباشرة مع أكبر عدوان تتعرض له دولة واحتلال سافر خارج أي مسوغ قانوني أو شرعية دولية. في هذا العدوان برز بشكل سافر تحالف الحركات السياسية الدينية ورُعاتها في الإقليم مع قوى الامبريالية والعدوان وعلى رأسها التحالف الأميركي الصهيوني.
كان الاحتضان الإقليمي والدولي للحركات السياسية – المتغلِّفة بالدين مدخلاً للهيمَنة والإستِتباع السياسي وتمزيق النسِيج الإجتماعي في المجتمعات العربية عامة، والمشرق العربي بشكل خاص. وقد باتَ واضحاً للعيان أنَّ هذه الحركات كانت حصان طروادة المصنّع من أخشاب محليّة ولكنه يحمل في جوفِه كلّ ما يحتاجه أعداء الأمة لتمزيقِ نسيجها الإجتماعي من أجل الهيمنة والاستغلال .
بعد انكشاف هذا الدور، حدث التحول في المزاج الشعبي العربي عامة ومزاج الشباب بشكل خاص، والتعبيرات العملية التي تؤكد ما نذهب إليه تتمثل في الحراك الشبابي الذي ملأ الساحات في العواصم العربية وكان صوته عالياً في المطالبة بالديمقراطية والدولة المدنية، وفي التراجع الكبير للحركات السياسية (الدينية) من حيث التمثيل الشعبي في العديد من البلدان التي تجري فيها انتخابات برلمانية.
انطلاقاً من كل ذلك نرى أن المدى مفتوح راهناً للعروبة الديمقراطية التي تعيد طرح مشروعها المستقبلي انطلاقاً، والبعث خير من يعبر عن وضوح المشروع بخطواته وأهدافه بعيداً عن التلفيق والمحاباة.
في خطابه الأخير الذي ألقاه مؤسس البعث في السابع من نيسان عام 1989 حيث كانت تسود حالة من الزهو والأمل بالمستقبل بعد انتصار العراق في الحرب الإيرانية العراقية، ودخوله كلاعب أساسي على المستوى الإقليمي، بعد أن بات يمتلك من القوة ما يؤهله ليكون حارساً متمرساً ومهاباً للبوابتين الشرقية والشمالية للوطن العربي من جهة، وحاملاً لمشروع توازن استراتيجي يؤسس لموقف عربي قوي في مواجهة العدوان الأميركي – الصهيوني.
في ذلك الخطاب استشرَف المؤسِّس المُستقبل العربي وتحدّياته التي رأى أنها تتطلب أمرين: التأكيد على تحدي التحوّل الديمقراطي على المستوى السياسي من جهة، والعمل على تشكيلِ تحالفٍ من القوى المؤثِرة في الحياة السياسيّة والاجتماعية على قاعدة الانفتاح وقبول الآخر من جهة أخرى.
سبق لمؤسس البعث أن عبَّر سابقاً عن رؤية عميقة للتوازن الإقليمي حين أكّد أنَّ الدول الإقليمية وخاصة تركيا وإيران تمارس سياسة نفوذ وتوسع وعدوانية على الوطن العربي حين تستضعف العرب، وتتغير سياستها من العدوانية إلى الصداقة حين يكون العرب أقوياء. من موقع العراق الذي يشكِّل رافعة قومية قوية، ومن بغداد العاصمة التي كان يتطلع إلى دورها الآتي في مشرق الوطن ومغربه أطلق المؤسس دعوته هذه لأنَّه كان يرى الأمل بمشروع النهوض القومي يتجدد، ورافعته البعث وقائده ترفع صوره باعتباره بطلاً قومياً على مدى الوطن العربي الكبير. هذه الرؤية كان الغرب الاستعماري المتحالف مع الصهيونية يدرك حقيقتها، ويعد الخطط لمنعها من ممارسة الدور الذي تتهيأ له، وقد عبَّرَت مارغريت تاتشر عن هذا الموقف حين علّقت على الاحتفال في بغداد حيث ظهر القائد على حصان أبيض بالقول: “علينا أن نضبط هذا الحصان الجامح في بغداد“.
استطاعت التاتشرية بالتكافل والتضامن مع المحافظين الجدد، الذين وجدوا في احداث 11 ايلول، بكل ما رافقها من التباسات وغموض، تنفيذ ما خططت له لوأد محاولة النهوض القومي وضربه في القلب من خلال استحضار المكونات المذهبية التي كانت تعيش في الحاضنات الإقليمية لتجعلها حصان طروادة للديمقراطية المزعومة من جهة، واستخدام ما لها من نفوذ لتدمير الاقتصاد العراقي، وعدم مبادرة الدول العربية إلى دعم اقتصاد العراق، الذي تركت الحرب التي دافع من خلالها على الأمن القومي العربي برُمَّته، تأثيراتها السلبية الكبيرة عليه من جهة أخرى.
اليوم يتحسَّر المواطنون والدول العربية على ما آل اليه حالهم بعد انهيار سياجهم المتين واجتياح الرياح الصفراء لهم من كل الأنحاء، وتأكَّد بما لا يقبل الشك أنَّ عراق العروبة كان درع الأمة وحِصْنها المَنيع.
هذه الوقائع، كما كان الحال مع مصر العروبة إبان الحقبة الناصرية، تؤكد أنَّه لا يمكن لأي مشروع قومي ألّا أن يضع في اعتباره الأول الاستهداف الخارجي الإقليمي والدولي. لذلك لا بد من تحصين المشروع القومي بالديمقراطية، والتنمية الإقتصادية والإجتماعية، والإنفتاح، بأوسع معانيه الإيجابية بين القوى السياسية والاجتماعية المختلفة في الرأي؛ فالساحة تتسع للجميع طالما التزموا بمعاييرالنضال السليمة والمخلصة.
تلك كانت دعوة القائد المؤسس في خطبةِ الوداع، والعروبيّون والبعثيون منهم بشكل خاص، ينبغي أن يجسِّدوها اليوم بفكرِهم ونضالِهم، سواء بين الجماهير، او في قيادتهم وتفاعلهم مع طلائع وقوى النضال العربي، لرسم معالم حاضرالأمة ومستقبلها، وجعل نهضتها، وتمكينها من مواجهةِ تحدياتها الجسيمة، حقيقة حيّة.