في ذكرى استشهاده : وقْفَة إيمانِيّة مع دُعاء الرَئِيس الشَهيد صَدّام حسين
د. وحيد عبد الرحمن
كلما اشتقنا لصاحب الطلة المهيبة، كلما سرح فكرنا في عمق تلك الكلمات التي كانت تدخل عقولنا ووجداننا بلا استئذان، لتزيدنا وتزودنا بالدروس والعِبَر في ميادين النضال، فقد كان مناضلاً وقائداً متمرساً، مثلما كان وطنياً يحب العراق وأهله، وعروبياً تسري عروق وهموم الأمة بدمه، بذات الوقت الذي كان فيه انساناً مؤمناً، صالحاً، وصائباً في اختياره السديد للسلوك الإيماني الصادق، فكان يربط العروبة والإسلام، برباط عميق ووثيق، حي ودائم.
وللتأريخ لسان يحدِّث الأجيال عن شدة تعلقه بالعرب حباً ومنهجاً وفكراً وسلوكاً، مثلما يحدِّثنا عن عمق إيمانه بالله الواحد الأحد، وبمبادئ الدين الحنيف، المعبر عنه تجسيداً بتلك الحملة الايمانية التي قادها، وبجامعة صدام للعلوم الإسلامية التي أسسها، وبدراسة ومنهجية حفظ القرآن الكريم كمادة أساسية في كافة مراحل الدراسة التي أقرها، وبحظر بيع وتعاطي المشروبات المحرمة، وإغلاق اماكن اللهو المحرم او غير الرصين. ويحدثنا عن التوسع في بناء وصيانة المساجد، فكان مسجد أم القرى نموذجاً شاخصاً، ومسجد الرحمن يأن بانتظار من يكمل بنيانه. ويحدثنا عن رعاية العلماء والفقهاء، مثلما يحدثنا عن رعاية الأيتام ببيت العراق الكبير الذي احتضنهم. ولعل هذا كله لا يمثل الا النزر القليل من جهده الايماني.
وفي هذا المقام نستذكر ذلك الدعاء العميق الذي توجه به متضرعاً ومتذلِّلاً الى الله تعالى ، والذي كنا نسمعه من شاشة التلفاز والمذياع. ابتدأ الشهيد رحمة الله عليه بالدعاء الوارد في الآية الأخيرة من سورة البقرة: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.
وهو الدعاء الذي يتضرع به الخاشع الى الله الغفور الكريم ألا يعاقبنا إن ابتعدنا أو أخطأنا جهلاً أو نسياناً لأوامره ونواهيه، وهو الرجاء من الباري الرحيم، بنفوس صافية وقلوب مؤمنة وجوارح خاضعة ألا يحمِّلنا أكثر من قدرتنا وطاقتنا، فالشقاء والعناء الذي تحمَّله العراق بقيادته وشعبه من جراء الحصار، لدفاعه عن العروبةِ وقضايا الأمة المصيرية، كان حاداً وشديداً، بل قاسياً ومريراً وطويلاً، وكان إختباراً وامتحاناً لقوة صبر أهل العراق الذين تحملوا عبء الدفاع عن الأمة في معارك الشرف، لغلق كل منافذ البوابة الشرقية للوطن العربي من تلك الريح الصفراء القادمة من أشرار الشرق، والتي حملت معها المشروع الصفوي الذي استهدف كل الأمة بلا استثناء، وما كان العراق لهم الا المفتاح لتحطيم وتهشيم كل قوة الأمة العربية.
ثم يستمر في الدعاء فيوحد الله ويتعوذ من الشيطان والذنوب فيقول : (لا إله إلا أنت ربنا ونعوذ بك من الشيطان الرجيم وكل ذنب عظيم).
وبإيمان عميق، يعد الشهيد في حال من الخضوع والخشوع وبالشكر الجزيل له سبحانه، بأن يبقى متمسكاً بالمبادئ الإيمانية مهما تغيرت وتبدلت الأحوال : (أنت ربنا نخضع إليك مؤمنين محبين ونخشع لك عابدين مقتدرين، حيث انتصرنا مكبرين لإرادتك، شاكرين لك نعمائك علينا، وحيثما أدمتْ أقدامنا شفرات وأشواك وحسكْ الطريق، فإن حالنا لا يتغير في هذا وفى غيره).
فهو يؤمن بأن كل شيء بأمر الله تعالى وإرادته، وما على الانسان الا أن يأخذ بكافة الأسباب السليمة والقرارات السديدة، ثم يتوكل على الله تعالى، فان تحقق ما يستهدف فذلك خير، وان لم يتحقق فقد يكون فيه خير في أمد زمني لاحق. وفي كل الأحوال لابد من أن تبقى القلوب عامرة بالإيمان. ففي الحياة الدنيا اختبار للصبر والجَلَد والقدرة على المطاولة، لذا فقد أسماها الله تعالى بالدنيا وليس العليا.
وهكذا كان منهج الشهيد في دعاءه: (ربنا وخالقنا وخالق السماوات ورافعها بغير عمد وخالق الأرضين وباسطها ومثبتها بالأوتاد التي أردتها لها. إنك ربنا خالق الأحياء ومحيى الأموات، نرضى بقرارك عندما تجعل الصعب أمامنا سهلا ميسرا أو تعطله إلى حين لأمر تراه، لكن الضمائر تبقى عامرة بالإيمان، وإننا نسألك أن تبقى قلوبنا عامرة بالراحة والطمأنينة، ويبقى إيماننا وخشوعنا وصفة الرحمة في صدورنا، ونسألك ربنا ذكر الحامدين الشاكرين، ونقدِّسك وننزِّهك، لقد وضعنا أنفسنا على درب طاعتك مختارين مؤمنين بما آمنا به كادحين. فإن أرضاك عملنا حمدناك وقدسناك، وإن لم يكن كما توقعنا، فإننا نطمع في رحمتك وعطفك وصفحك، فلا غنى عن إرادتك ورحمَتِك وأنت أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين).
كان الشهيد يؤمن بأن العقاب والثواب من الله تعالى إن كان في الدنيا أو في الآخرة وهو الميزان العدل من الله للمؤمنين وللكافرين كل وفق إيمانه وكفره فيقول :(اللهم إنك ربنا العليم المتعال، خلقتنا لأمر أردته وحميتنا لأمر أردته، إنك ربنا ورب أبنائنا وأباءنا وأجدادنا ورب أحفادنا من بعدنا، وإنك رب من يعبدك، فتكون قراره وإيمانه ونيته ومنقذه، وإنك مهلك من يركب رأسه ويعطب ضميره، ويذله سقطه في مهاوي تمرده أو كفره، فيكون شأنه مهلكه إماْ في الدنيا أو في الآخرة).
وبعمق ما كان رحمه الله يحب شعبه وأمته، فلم يغادر تضرعه الى الله بأن يزداد قلبه وضميره حبّا لهما: (اللهم عليك توكلنا ولأمرك أطعنا، فاحمنا من دسائس الشيطان وممن هو وليهم، واحمنا مما تشطط به نفوسنا، وعزز وزد وعمق معاني وحال المحبة التي في قلوبنا والحنو والإعزاز الذي في نفوسنا وضمائرنا إلى شعبنا العظيم وأمتنا المجيدة، ووفقنا جميعا لما تحبه وترضاه ويَسّر لنا في أمرنا، وأبطش بأعدائنا، أعداء الله وأعداء أمتنا والإنسانية إنك ذو القدرة المكين).
وكما عهدناه، فلم تكن خاتمة خطاباته الا وان تشدو بلحن حب العراق وفلسطين والأمة العربية المجيدة، فإن تضرعه الى المولى عز وجل كان أكثر رجاءاً، وأعمق دعاءاً، في أن يربط الله تعالى على قلوب المؤمنين المجاهدين منهم: (اللهم ربنا ورب كل شيء، واسم وحال من نعلم أو لا نعلم، الظاهر منها والباطن، وخالق كل شيء واسم وحال الصالح منها، أو ما نراه طالحاً، زد السكينة في نفوسِنا، واربط على قلوبنا ما يقوى فيها كل ما تريده لعبادك المؤمنين الصادقين، وأدخل السكينة، واربط ربنا سبحانك على قلوب المؤمنين المجاهدين الصادقين في العراق وفلسطين وفى ساحات الجهاد والنضال الأخرى لأمتنا).
وإذ نقرأ في دعائه ونحن متيقنين من صدق كلماته، يرجو من الله إحدى الحسنيين، إما الحماية أو الشهادة، فاستجاب له ربه بأفضل سمة للإنسان عند لقاء ربه سبحانه، وهي الشهادة: (اللهم إنك ربنا فاحمنا إن أردت أو فاقبلنا مع الشهداء إنك على كل شيء قدير، إن اختيارك هو ما نرضاه وليس دعوانا إلا التماس صاحب الإرادة والقدرة الأعلى، والمخلوق من الخالق، وبك سبحانك نستعين، وإنك على كل شيء قدير وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، وصلوات الله وسلامه على الأنبياء والرسل أجمعين).
ويختم الدعاء بالترَحُّم على شهداء العراق وفلسطين والأمة (اللهم أرحم الأولياء الصالحين والأتقياء الصادقين وأرحم شهدائنا الأبرار في العراق وفلسطين وفى كل ساحات الجهاد والنضال لأبناء أمتنا).
هكذا عرفناه، مؤمناً، شجاعاً، عزوماً، سخياً، فريداً في حياته، وفريداَ في استشهاده. والا كيف نفَسِّر مواجهته لرهبة الموت دون رهبة؟، وكيف نفسر اختيار الله تعالى له الشهادة في واحدٍ من أعظم أيامه بعد مناسك الحج الأعظم؟ فأضحى شهيد عيد الأضحى.
وكيف نفسِّر أن كل البشر الذين يقطنون سطح المعمورة يشاهدون شجاعة استشهاده، ويسمعون ذلك الصوت الشجي الجهوري الذي ينطق الشهادة دون وجل أو خوف أو تردد..
رحمك الله تعالى وجعلك بإذنه في عليين مع الشهداء والصديقين.